|
عندما انطلقت شرارة الثورة السورية في 15 آذار- مارس 2011، تأمّل الشعب السوري أن يقتدي الجيش السوري بنظيريه التونسي و المصري ابّان ثورتي هذين الشعبين، وأن ينحاز للشعب، أو يقف على الحياد على الأقل، وهو ما لم يحدث -بل حدث العكس بشكل دراماتيكي- لأسباب طائفية، فئوية، تاريخية ليس هذا المجال الصالح للحديث عنها.
انطلقنا من هذه المقدمة كي نوضّح مأساة المواقف المتناقضة من ثورة 30 حزيران-يونيو 2013 المصرية، بالتحديد بين أبناء الثورة السورية، الذين رأوا فئة من الشعب المصري، لكنهم لم يروا الملايين المحتشدة في الساحات والميادين، وهم الذين اختلفوا بين مؤيّد لما يسمّى "بالشرعية"، مبرّرين ذلك بحرصهم على "ديمقراطية" لم يعايشوها يوماً، ثم وصفوا ما حدث بأنه انقلاب عليها وعلى صناديقها، وبين من رأى فيها ثورة على الإستفراد والإقصاء بكل معنانيهما، ابتداءاً من أخونة الدولة، وليس انتهاء بالإدارة الفاشلة للملفات الإستراتيجية المصرية، كمسألة منابع مياه نهر النيل (سد النهضة الأثيوبي)، مشكلة الحدود مع السودان (حلايب وشلاتين)، أقاويل كثيرة وإشاعات عن بيع أسهم في قناة السويس لقطر، مشاكل سيناء، أداء اقتصادي فاشل (محاولة إغراق مصر بديون لصندوق النقد الدولي لا تغني ولا تسمن)، علاقات خارجية مبهمة، ومربَكة (العلاقة مع ايران، المواقف الملتبسة من الثورة السورية) .. إلخ
بجملة واحدة نستطيع توضيح معنى "الإنقلاب على الشرعية": الإنقلاب على الشرعية في الحالة المصرية، هو أن يعمل الجيش بقرار ذاتي على الإنفراد بالسلطة ضد إرادة الشعب، لا معها. هل هذا ما حدث؟
وصل عدد إمضاءات حملة "تمرّد" إلى أكثر من 22مليون و134 ألفاً بقليل، فيما عدد منتخبي "الإخوان" ممثلين بمرسي تجاوز الـ5 ملايين بقليل في العام 2012. جدير بالذكر أن أغلب وسائل الإعلام المرموقة في العالم شهدت بأن ما حصل بـ 30 حزيران- يونيو، هو أكبر احتجاج يسجل في منطقة الشرق الأوسط على الإطلاق
هل انقلب الشعب، على الشرعية فعلاً؟ أليس الشعب مصدر السلطات؟ كيف ينقلب مصدر السلطات على نفسه؟ ولو افترضنا أن هذا ما حصل، ألم يقدّم مرسي استقالته من حزبه القديم قبيل أدائه القسم؟ لماذا لم يدافع عن "الشرعية" المزعومة أحد من الشعب المصري باستثناء فئة سياسية واحدة لا تعبّر إلا عن نفسها؟ ولو افترضنا أن الشعب المصري بأمه وأبيه انقلب على الشرعية، هل يواجه الإنقلاب على الشرعية بالطريقة التي شهدناها في مدن مصر من قبل من يدّعون أنهم حماة هذه الشرعية المزعومة؟ ماذا لو عكسنا الموقف، تخيّلوا لو أن ما جرى، جرى مع شفيق، هل كان "الإخوان" سينتفضون كما فعلوا الآن لنصرة "الشرعية"؟
لكن ما نود توضيحه هنا شيء آخر، نريد توضيح أسباب تصدّر الجيش للمشهد السياسي في هذه المرحلة، نريد بالضبط توضيح النقطة التي لم يفهمها ربّما الكثيرين، بالتحديد خارج مصر.
منذ عبد الناصر وإلى اليوم (كما في كل عالمنا العربي) تم القضاء على الحياة السياسية، والعمل بقوانين الطوارئ، بحيث حرصت "أنظمتنا" على سحق اي بديل عنها للحفاظ على تفرّدها واستمراريتها في السلطة. إستطاع "الإخوان المسلمين" دون غيرهم الإستمرار بالعمل السري مستفيدين من المناخات الإجتماعية المتدينة بطبيعة الحال في بلداننا، وهو ما أمّن شروط استمرارهم حتى لحظة إسقاط نظام مبارك، الذي جاء ضمن موجة شعبية عارمة في العالم العربي بدءاً من تونس، فكانوا البديل الوحيد الجاهز لإستلام السلطة، والحقيقة أن كُثُر من أبناء الشعب المصري انتخبوا "الإخوان" فقط لأنهم خائفون من عودة نظام مبارك عبر شفيق.
في الفترة التي أداروا بها البلاد، فشل الإخوان حتى في تحقيق "برنامج المئة يوم" لتنظيف أحياء القاهرة الذي وعد به الرئيس المخلوع محمد مرسي، فما بالك بالملفات الإستراتيجية التي ذكرنا بعضها أعلاه. هذه وأسباب كثيرة عادت لتحريك الشارع المصري مجدّداً ضد نظام "الإخوان"، لكن ما لا يجب أن يغيب عن أعيننا، هو الحضور الأميركي المستتر في المشهد المصري، وهو ما سنتحدّث عنه في السياق.
عندما انتفضت شوارع مصر في الـ30 من حزيران- يونيو، لم يكن سوى ثلاثة خيارات أوسيناريوهات:
1- بقاء مرسي؛ وهذا مشروط باستكانة الشارع في اليوم التالي، وهو ما لم يحدث.
2- دخول البلاد في الفوضى فيما لو تصاعد الحراك في اليوم التالي، دون تنحي أو خلع مرسي.
3- تدخّل الجيش، وهو ما حصل.
لكن الجيش الذي تدخّل برضى الشارع، بل ومباركته، قائم على جملة توازنات داخلية وخارجية، يشكّل الأميركان بعداً مهماً فيها، وهذا ما لايستطيع أحد إغفاله؛ فكانت "مهلة 48 ساعة" التي أعطاها الجيش لأطراف الصراع، مهلة أميركية بامتياز، تفترض إما استكانة الشارع خلالها وبذلك يكون مضموناً استمرار مرسي في السلطة، أو تصاعد الحراك (وهو ما حصل بعد خطاب مرسي الأخير) وبالتالي يصبح تدخّل الجيش أمر لا مفر منه حفاظاً على أمن البلاد. والجيش المصري هو الضمانة الوحيدة في أي معركة سياسية من عيار المعركة التي نتحدّث عنها، وبناء عليه، ولضرورات ربّما أميركية بحتة، لا يستطيع هذا الجيش لا أن يضحّي بنفسه، ولا بالطبقة السياسية ذات الطابع "الليبرالي كجبهة الإنقاذ" على اعتبار أنهم سيكونون الورقة التالية التي ستُلعب، وسيكون للأميركان حصّتهم الواهية بها، لذلك وقع الإختيار على عدلي منصور رئيس المحكمة الدستورية لتنصيبه رئيساً مؤقّتاً للبلاد، بحيث لن يؤثّر إحراقه على أحد؛ فيما تكون البدائل الأخرى جاهزة في المرحلة المقبلة.
يحدث كل هذا في ظل ظروف اقليمية غاية في الدقة والحساسية، متفاعلة مع بعضها، كالتغييرات التي حصلت في قطر وتسليم السلطة لولي العهد، ولا تنتهي في تركيا التي بدأت تتململ من حكم الإسلاميين، أو سوريا، أو لبنان وغيرها، عدا عن أن لبعض القوى الإقليمية في المنطقة مصلحة في دفع عملية التغيير التي حصلت في مصر كالسعودية مثلاً.
بالنتيجة، نزل أكثر من 30 مليون مواطن لخلع رئيسهم الذي نصّبوه هم أنفسهم، والذي رفض مطالبهم بانتخابات مبكرة تؤسس لعقد اجتماعي جديد. أما ما فعله الجيش فلم يكن انقلاباً، وإن بدا للبعض كذلك، بل كان اجراء اجباري بحكم الأمر الواقع الذي لم يُنتج بدائل، وبما أنه -أي الجيش- نتاج توازنات، فسيحاول بالضرورة الإلتفاف على الثورة لإعادة إنتاج شروط استمرار المعادلة الأثيرة: "الجيش والشعب ايد واحدة"!.
في الأحد 07 يوليو-تموز 2013 04:40:46 م