الإعـلام والحـرب: الحرية في مواجهة السيطرة والتضليل
بقلم/ نشوان السميري
نشر منذ: 16 سنة و 5 أشهر و 21 يوماً
الأحد 11 مايو 2008 07:21 ص

تندلع في أكثر من قطر عربي اليوم شرارة الحروب أو النزاعات المسلحة مثلما يحدث في لبنان والسودان بالأمس وفي العراق والصومال منذ أمد، كما لم يسلم اليمن في صعده من هذه النزاعات المسلحة والمنتشرة على امتداد المعمورة، مما يفرض على الإعلاميين ووسائل الإعلام اليمنية خاصة مسؤولية التعامل البنّاء مع هذه الأحداث وتقديم خدمة إخبارية غاية في الإيجابية والمهنية.

ولعل الحيادية والموضوعية - خصوصاً عند عرض الصراع العربي الإسرائيلي - هما الكلمتان اللتان طرقتا بإلحاح مسامع السيد حسام السكري رئيس القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية (البي بي سي) خلال لقاء جمعه قبل أيام بالإعلاميين اليمنيين في صنعاء، لذا يهتم مقالنا هذا - الذي نشر قبل فترة في مجلة اتحاد إذاعات الدول العربية في تونس- بتبيان مدى توفر شرطي الحياد والموضوعية أو الإدعاء بوجودهما في التغطية الإعلامية خلال الأزمات وعند اندلاع الحروب، وتحليل ذلك من منظور يضع حرية الإعلام في مواجهة السيطرة والتضليل اللذين يمارسا اليوم بطرق شتى ومبتكرة. 

فلقد ارتبطت وسائل الإعلام منذ بدء نشوئها بمبادئ أساسية تعارفت المجتمعات الغربية الحديثة والمعاصرة على ضرورة الالتزام بها وأبرزها حرية التعبير والديمقراطية وحقوق الإنسان. وهي المبادئ نفسها التي لا يزال الإعلام العربي إلى اليوم مهموما بقضايا مبدئية ذات صلة بها.

وعموما تكرس الارتباط الشَرطي بين الإعلام والحرية في كثير من المواثيق الإقليمية والدولية وعبر المؤسسات الدستورية للنظم السياسية الحديثة حتى إن التعديل الأول لدستور الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل الذكر لا الحصر، قد جاء ليحظر على مجلس النواب " سن أي قانون ينتقص حرية الصحافة".

1. نزعة السيطرة على الإعلام

وينبغي ألا يقودنا ما سبق ذكره إلى الاعتقاد آليا بعدم وجود سيطرة حكومية على وسائل الإعلام في الولايات المتحدة رغم تمتع وسائل الإعلام فيها بقدر وافر من الحرية، فتوفر الحرية المطلقة في الديموقراطيات الغربية لوسائل الإعلام هو إدعاء لا أساس له، إذ الحرية في أصلها، فلسفيا ودينيا، إنما هي مشروطة أو مقيدة، وأن ما سمي في بعض الأدبيات اللينة أو في المخيال الاجتماعي عامة" بالحرية المطلقة أو التامة" غير مؤسس نظريا و( لامؤصل ) من الناحية المعرفية1.

إن السيطرة الإعلامية تظل، بصفة عامة، دأب الحكومات وديدنها لترويج اختياراتها وسياساتها وأعمالها، وخلق الانطباعات المقبولة لدى مواطنيها، كما أننا نجد أنفسنا أمام محاولة ملحة لخفض تدفق المعلومات بحرية بدعوى المحافظة على الصالح العام وحماية المؤسسات والمشاريع الخاصة وتسييج الأمن القومي المزعوم. فمن غير المدهش إذن أن يصبح حجب المعلومات في الولايات المتحدة –حسب شيللر- أكبر أداة للسيطرة والتحكم داخل الحكومة نفسها ممثلا في أوضح صورة في السلطة التنفيذية ذاتها2.

وهكذا تتعرض حرية التعبير، التي تقودها المجتمعات الديموقراطية عالميا، لأشرس أنواع الهجوم عندما تتعارض مع حق الحكومات الديموقراطية وواجبها لحماية الأمن القومي للدولة، وهذا يحدث متزامنا مع المعاناة المزمنة لحرية وسائل الإعلام جراء أخطار تقليدية عديدة متمثلة أساسا في رأس المال والإعلان والضغوطات المختلفة. ولا يلطف من قتامة هذا المشهد سوى الإشارة إلى ما لكثير من الديموقراطيات الغربية خاصة بريطانيا والولايات المتحدة من تقاليد ثقافية عميقة الجذور تميل لصالح الحريات السياسية.

2. إعلام الأزمات والسطو على الحرية

وفي فترات الأزمات الطارئة كالكوارث والأوبئة والحروب، التي تعصف أحيانا ببعض المجتمعات، يضحى المشهد الإعلامي أشد حلكة وقتامة، إذ يكبل الإعلام ووسائله بأغلال الرقابة الصارمة والتعطيل والمصادرة والمعاقبة التي تستهدف تجريم الرأي، وتذل بقيود ذات منطق واحد وناموس عجيب يعتبر وسائل الإعلام طرفا مقلقا في الصراع القائم. ففي انفجار تشرنوبيل عام 1986 مثلا أضحى همّ الحكومة الشاغل بذل قصارى الجهد للسيطرة على الضجة الإعلامية المدمرة، رغم أن الإعلام في ذاته لا يخلق الحدث التاريخي وإنما يرافقه أحيانا وقد يحفزه أحيانا أخرى.

فأثناء الحروب تفرض الصراعات الساخنة قوانينها ونواميسها الخاصة على جميع الأطراف المتدخلة في النزاع لكنها تثير في الوقت نفسه، على المستوى الإعلامي، إشكاليات مهنية حساسة، بالغة الأهمية والتعقيد، يصبح التغاضي عنها أو عدم حملها على محمل الجدّ، من المعيقات الكبرى لازدهار حقل الإعلام وثرائه وتنوعه، عند ذلك نلمس إلى أية درجة تقلصت مساحة حرية الإبلاغ الصادق والدقيق للمعلومة بصورة قاربت معها الحقيقة، أن تصبح مسخا مشوها وهلاميا إلى حد مخيف. فكيف يحدث ذلك؟

لا يبدو الأمر في الواقع هينا على الإطلاق، فيما يتعلق بطرق التعامل اليومية لوسائل الإعلام مع المحيط بكل جزئياته. فهي تتلقى بانتظام الأفكار والمعلومات من آلاف المصادر المنظمة، فيما يمثل منافسة حادة للغاية بين أطراف عدة تتصارع على حيز وسائل الإعلام ووقتها. فصحيفة يومية كبرى" كالواشنطن بوست " في الولايات المتحدة، مثلا، تتلقى كل يوم مليون كلمة تقريبا وقدرتها مقتصرة على نشر مائة ألف كلمة أي 10ِ% فقط من المعلومات المتلقاه. لذا تظل مسألة "أيّ العروض يجب قبولها من مصادر الأخبار" هي الغالبة في كثير من الأحيان.

ويؤدي تصاعد نسق العمليات العسكرية الحربية إلى تزايد ملحوظ وكثيف في حركية الأخبار وشدة تقاطرها. وتتسبب هذه الحركية بدورها في إرباك القائمين بالاتصال ووسائل إعلامهم وحصارهم بين أمرين أحلاهما مرّ، فهم أولا أمام مضمون متسارع لا يملكون الوقت الكافي للتثبت منه ومن مصداقيته، وهم ثانيا معرضون للتضحية بالسبق الصحفي وخسارته بمجرد التأن أو التبصر أو محاولات الفرز المرهقة لسيل المعلومات المتدقفة.

بمعنى آخر، يقع الإعلاميون في ورطة حقيقية تبرز عندما تتم المفاضلة بين خوض المنافسة والخضوع للتقنيات الإعلامية الحديثة واستجلاب الإعلان، وبين "مغامرة" التثبت المؤدية لخسارة السبق والخروج المدوي من حلبة التنافس المحتد مع وسائل الإعلام المماثلة.

وينجر، عن هذا الوضع، أن كثيرا من الأخبار والمعلومات تجد طريقها للنشر والذيوع دون التثبت من صحتها أو التركيز في منطق محتواها، وذلك في إهمال محيّر لفحص مدى ثقة مصادرها والتحليل الإخباري لأحداثها، وفي تغافل مدهش كذلك للمسلمة البديهية بأن "الدعاية تخطط في المقام الأول لخدمة مصالح مصادرها". وهو ما يؤدي إلى فقدان الأخبار لمعناها ومغزاها.

3. القصف بالأخبار والآراء

إن الإعلاميين يصبحون، في حقيقة الأمر، تحت رحمة المصادر المهيمنة على تدفق المعلومات وتوجيهها، وهذه المصادر هنا هم أصحاب السلطة والعسكريون لا سواهم. فإذا كان الرأي العام يتعرض في أوقات السلم للقصف بالأخبار والآراء الصادرة عن عدد محدود من المصادر الحكومية؛ فإن هذه المصادر تتضاءل بحدة عند اندلاع النزاعات المسلحة إلى مرجعية أحادية مهيمنة يصبح فيها المتحدث العسكري هو الفاتق والناطق الوحيد، ومن ثمة يفرض العسكر، دون عناء، منطقهم الخاص ويكيفون تعاملهم مع الرأي العام ووسائل الإعلام لا على أساس احترام الشفافية وتقاليد الحرية بل حسب الكيفية المخطط لها وكما تقتضيه العقيدة الحربية والاستراتيجية المرسومة سلفا.

وبوقوع الإعلام ووسائله تحت رحمة المصادر العسكرية على الشاكلة التي بيناها فإنهم معرضون كذلك إلى مخاطر مهنية أخرى جدية لن يكون أسوأها بالطبع فقدان الرأي العام للثقة بوسائله الإعلامية على إثر اكتشافه المخيب للآمال، أنها كانت مطية لنقل أكاذيب غاية في الخطورة والتدمير. فكان على العالم مثلا أن ينتظر أكثر من ثلاثين عاما لكي يدرك حقيقة أن الهجوم بالطوربيدات عام 1964 على مدمرة أمريكية في خليج تونكن - والذي أشعل حرب فيتنام - لم يحدث بتاتا! وهو ما اعترف به وزير الدفاع الأمريكي روبرت مكنمارا في مراجعة مهمة للتاريخ العسكري الأمريكي عام 1995، ودفع الأمريكيون ثمناً لهذا الهجوم المزعوم أرواح أكثر من 58 ألف جندي وخمسة آلاف مروحية والآلاف من قطع العتاد الحربي.

ويمكن أن يستنتج البعض، في ضوء ما ذكرنا، أن وسائل الإعلام ليست سوى مجرد ضحية من ضحايا الحروب كغيرها من مؤسسات المجتمع المدني، ورغم تسليمنا بصحة هذا الرأي في بعض جوانبه، فكيف نفسر الاستعداد الطبيعي لانجرار هذه الوسائل "الأمريكية خاصة" وسقوطها التلقائي في الفخ الذي نصبه لها صناع القرار من السياسيين والعسكريين؟ فقد هللت هذه الوسائل وشجعت الحرب على العراق، ودقت طبولها، وأتقنت الدور المطلوب منها أداؤه. ولطالما أبرز الإعلام الغربي سلسلة من الوقائع ذات دلالة بالنسبة له ولا تخلو من خداع مضمر وإرادي: فعلامات الثقافة الغربية : القانون والحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان وحق الإختلاف وحق الشعوب في تقرير المصير قدمت كلها على أنها المرجع الوحيد الممكن بالنسبة للإنسانية والذي يتهدده انبثاق أنظمة "دكتاتورية" على شاكلة النظام العراقي3.

ولم تسلم التغطية الإعلامية لوسائل الإعلام الأمريكية المنحازة للحرب على العراق من نقد الحلفاء أنفسهم، فقد دلت بحوث أجرتها هيئة الإذاعة البريطانية ( B.C.C .)على مدى التواطؤ المقوض لمصداقية هذه الوسائل عندما أظهرت أن من بين 840 خبيرا أجرت معهم وسائل الإعلام الأمريكية مقابلات؛ تبنى أربعة منهم فقط آراء معارضة للحرب4.

وبقدر ما يقف المتابع الحصيف للوقائع والأحداث مذهولا لهذا الانصياع الأعمى لمنطق الحرب والدعاية التي تناقلتها " وسائل الإعلام الحرة " بقدر ما يطمئن إلى الاعتقاد بأن حرب الخليج لم تكن في الأساس سوى حرب إعلامية ذبحت فيها حرية الإعلام على نصب الرقابة العسكرية، والتعتيم المقصود، والدعاية المضللة، فما أشبه الليلة بالبارحة!

4. الاتصاليون والهيمنة على المحيط

هنا نتيقن من أهمية إدراك الأدوار التي يجب على وسائل الإعلام تأديتها بمجرد نشؤ الصراعات وذلك بالاعتماد على تحليل طبيعة المجتمعات وسياقات تطورها السياسية والاجتماعية والاقتصادية المختلفة. فوسائل الإعلام في واقع الأمر هي جزء لا يتجزأ من محيطها الاجتماعي وأنها تتفاعل مع بيئتها. فإذا نظر الإعلاميون إليها بهذه الطريقة فإنهم سوف يدركون أن وسائل الإعلام تتفاعل مع بنية القوة السياسية، فتخدم بعض المتنافسين في صراع القوة وتؤذي آخرين5.

وكلما تعمق المرء في فهم هذه القضايا تيسر له استيعاب حقيقة الرقابة الشديدة التي تمارس على نشاطات المرشحين السياسيين والبرامج في أوقات الصراع السلمي، كالانتخابات مثلا، أو على الأعمال العسكرية والحربية في ميادين القتال، حين يسعى الفاعلون الأساسيون إذاك إلى الهيمنة على المحيط "الإدراكحسي" الذي يفضي إلى إنتاج الأخبار كأمر جوهري يطبع عادة فترات الصراع في المجتمع.

ولذا يحسن التنبيه إلى ضرورة تسلح الإعلاميين والقائمين بالاتصال عموما باليقظة المعرفية والحس المهني الناقد الفطن، والذي لا يتأتى من فراغ بل يكون مستندا على قاعدة صلبة وواسعة من المعارف المتنوعة والثقافة الإنساناوية العارفة بنواميس اشتغال وسائل الإعلام، في محيطها الشاسع والمعقد.

ويلتقي كل ما سبق - وفي تقاطع مفترض – مع امتلاك الإعلاميين للخبرة والمهارة والتكوين اللازم من أجل تعامل خلاق ومبدع مع التكنولوجيات الحديثة للاتصال، والتمترس وراء كل ذلك، إذا ما اندلعت شرارة الحروب أو نشبت الأزمات محليا وعالميا، قصد استيعاب طبيعة الصراعات وفهم سيرورتها، ومعرفة التوازنات الدقيقة التي تحكمها، والقوانين المحركة لها، سواء كان ذلك في أوقات السلم أو الحرب، وكي لا تظل حرية وسائل الإعلام مهددة دائما بالسلب كلما دوت طلقات المدافع أوعلا ضجيج الأزمات.

الهوامش

* خبير إعلامي ومدرب

1) أنظر : (عبد الرحمن) عزي :"الحق في الإعلام والاتصال وابستمولوجية حرية التفكير وحرية التعبير" في : حق الاتصال وارتباطه بمفهوم الحرية والديموقراطية، تونس، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، 1994، ص 123.

2) (شيللر) هربرت أ : المتلاعبون بالعقول. ترجمة : (رضوان) عبد السلام. الكويت، سلسلة عالم المعرفة، الإصدار الثاني، مارس 1999، ص 77.

3) أنظر : (بن رمضان) يوسف :"نحن والآخر والوساطة : من أجل فهم موقع الخطاب الإعلامي الغربي داخل عملية التواصل بين الثقافات" تونس ، المجلة التونسية لعلوم الاتصال، العدد 19، 1991، ص 144.

4) (دايك) غريغ، مدير عام( البي.بي.سي) في معرض انتقاده لتغطية وسائل الإعلام الأمريكية للعراق بعد تكريمه بجائزة فخرية في حفل توزيع جوائز إيمي الدولية في نيويورك، نوفمبر 2003.

5) ورد سياق الفكرة في :(جريب) دوريس إيه : سلطة وسائط الإعلام في السياسة. ترجمة : (أبو لبدة ) أسعد، مراجعة: (جرار) فاروق. عمان، دار البشير للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1999 ، ص 135.