|
حين وصل قاسم سعيد قريته " أكمة الغراب " بعد سنوات من الغربة في السعودية لم يخطر بباله لحظة واحدة أنه سيدفع ذلك الثمن الفادح لشقاوته مع تلك الطبيبة قبل أشهر .!
نحن في منتصف الثمانينات لا هواتف ولا اتصالات ، الليل قد انتصف والجميع قد أسلموا أنفسهم لنوم عميق ، لا صوت سوى صوت بومة في الأكمة ، وكلاب تنبح في قرية مجاورة . ولولا قمر منتصف الشهر لما أستطاع قاسم أن يقود سيارته الجديدة في طرقات القرية الوعرة وأن يصل إلى منزله .!
في منزله أستيقظ الجميع فزعا من صوت السيارة الذي شق سكون الليل ، ولم يبدد ذلك الفزع سوى فرحتهم بوصوله بعد سنوات الغربة العجاف .
من فرحتها تعثرت زوجته بأوعية البيت ، سقطت عدة مرات ليرفعها هو ويقبل رأسها فتجهش بالبكاء ، ليشهد منزلهم فرحة لم يعشها منذ سنين .
وزعت هدايا الأطفال وملابسهم عليهم فشرعوها يلبسونها كأنهم في ليلة عيد ، أما هي فلم يكن يهمها شيئا سواه ، أخيراً ستجني ثمار صبرها الذي طال بعودته إليها ، لقد أقسمت الأيمان المغلظة أن لا تدعه يعود للغربة أبداً . أسرعت إلى الزريبة واختارت الجدي السمين وذبحته وأعدت له العشاء ، وفي غرفة نومه ظلا يتحدثان حتى أشرقت شمس النهار .!
بعدها أعلنت حالة الطوارئ في المنزل لتوفر الهدوء لزوجها لينام . ولم تمض سوى ساعات حتى أقبل أقاربه وأهالي القرية يهنئونه بعودته ويحتفلون به .
في الليل أحتضن زوجته ونام ، حدثت نفسها بأنه ما يزال يعاني إرهاق السفر وقد صبرت عليه سنوات فلتصبر عليه حتى يستريح لأيام .
مضت ليالي وتفاجأ هو بنفسه وقد صار عاجزاً عن معاشرة زوجته التي بدأت تنظر له بنظرات مليئة بالشك والحيرة . تذكر حينها قصته مع تلك الطبيبة المصرية في المستشفى العام بالظهران ، حين أخبر رفاقه في السكن أنه قادراً على أن يجعلها تقع في حبه حينها ضحكوا عليه وسخروا منه فقرر أن يعمل المستحيل ليكسب الرهان . أشترى هدية فاخرة وذهب إليها فسألته باستغراب
: ـ الهدية دي بمناسبة إيه إن شاء الله ؟! أسقط في يده فلم يدر ما يقول ، اعتذرت له وأعادت إليه الهدية ، عاد مرة أخرى يطاردها ويحاول إغرائها بشتى السبل وهي ترفضه وتهدده بان تشكوه للشرطة .
أخيراً أدعى المرض لتعالجه ، وحين سألته مما يشكو أدعى أن مرضه في أسفل بطنه ، سألته وقد بدأت تشك في أمره
: ـ متأكد أسفل بطنك بيوجعك ؟! نظر حوله فلم يجد أحداً فابتسم بخبث وهو يقول : ـ بصراحة تحت شوية . أدركت ما يرمي إليه فأكدت له بأن يطمئن تماماً فقد عرفت مرضه وستقدم له العلاج المناسب . تحمل منها تلك الحقنة المؤلمة على أمل أن تكون فاتحة علاقة يكسب فيها الرهان، ولم يخطر بباله أنها قد قتلت فيه الرغبة الجنسية وإلى الأبد .
لم تمض سوى أيام حتى غادرت المستشفى والسعودية كلها عائدة إلى مصر . خسر الرهان مع رفاقه ثم نسي الجميع تلك القصة السخيفة . بعد أشهر عاد إلى قريته ليتفاجأ بالعجز الجنسي الذي جعله يحتقر نفسه أمام نظرات زوجته التي لا ترحم . نادته وهم في الفراش : ـ قاسم ـ نعم ـ ماذا حدث لك ؟! ـ ................
. ـ أين ذهبت رجولتك ؟! ــ ...............
ـ أذهب للطبيب في المدينة ولا تعد إلا بعد تتعالج لو تصرف مالك كله . وبعد إجراء العديد من الفحوصات والتحاليل والأشعة أكد الطبيب لقاسم بأنه قد تعرض لعلاج أدى لقتل حيواناته المنوية وعجزه جنسياً ، وأنه لابد من معرفة هذا العلاج أولاً ثم الخضوع لعلاج طويل على أيدي أطباء في مشافي متخصصة بالخارج .
ولم يضيع الوقت فقد غادر إلى السعودية ومنها إلى مصر وحين وصل مدينة المنصورة وسأل عن الدكتورة هالة المخزنجي كانت قد غادرت مصر إلى الولايات المتحدة مع زوجها . عندها شعر قاسم بخيبة الأمل كبرى قائلاً : ـ
أما أمريكا فلا أستطيع الوصول إليها . وحين عرض حالته على طبيب متخصص في مستشفى المنصورة أكد له الطبيب أنه تأخر كثيرا بالعلاج ، وأن الغدد الجنسية قد فقدت خصوبتها تماماً ولكي يستعيد خصوبته عليه السفر فورا لألمانيا. وعاوده اليأس مرة أخرى : ـ ..
وحتى ألمانيا هذه لا أستطيع السفر للعلاج فيها . استسلم لواقعه المر وعاد إلى اليمن ، وحين أخبر زوجته بكل ما حدث كان متأكداً أنها ستصبر عليه وتستر سره لكنه فوجئ بها وقد طلبت منه الطلاق ، وحين تلكأ وحاول مراجعتها صاحت في وجهه : ـ تطلقني وإلا أفضحك فضيحة العمر .
لقد رأى منها الوجه الذي لم يره يوما ، فجأة نبتت لها مخالب وأنياب وكشرت في وجهه كلبوة مفترسة ، رمت بكل الحلي الذهبية والهدايا التي أشتراها لها ليشتري صمتها عرض الحائط .!
شعر بأنه يسقط في هاوية مظلمة لا قرار لها . طلقها بصمت ، وذات صباح غادر قريته وهو لا يدري إلى أين سيتجه ؟
ومضت أسابيع في القرية ولا حديث للناس إلا عن طلاق زوجة قاسم سعيد ومغادرته القرية ، وبدأت النساء في الحقول وموارد الماء يتهامسن : ـ الناس حسدوا قاسم سعيد ومرعوه ـ قاسم سعيد أصابته عين فطلق زوجته وهاجر ـ قاسم عشق امرأة في السعودية وعاد إليها ـ زوجة قاسم سعيد هي التي جننته ودفعته للغربة وبدأت زوجته تحكي قصته للنساء وتوصيهن بأن لا يحدثن أحد ، ولم يمض سوى أيام حتى صارت قصته مع الطبيبة وعجزه الجنسي على كل لسان . في طريق العدين الجراحي أشترى قاسم قطعة أرض وبنى عليها سكناً وبقالة ، يبيع المواد الغذائية للعابرين ويمون سيارتهم بالبنزين .
بنى أمام البقالة دكة ونصب فيها مداعة " نارجيلة " ، جلب له كلباً صغيرا ورباه ليجد فيه الوفاء الذي أفتقده في زوجته .
وحين عرف أولاده الطريق إليه سألهم : ـ هل تزوجت أمكم ؟ وحين أخبروه بأنها قد تزوجت بشقيقه لعنهم جميعاً وأقسم على أن لا يعود أبداً . تمر الأيام وتتبدل الفصول وتمضي السنوات وقاسم يطلق النكات ويمضغ القات ويروي حكايات من خياله للعابرين . وفي الليالي الطويلة حين يظل وحيدا يمضغ وريقات القات وينفث دخانه في الهواء يتذكر زوجته وكيف صدمته حين طلبت الطلاق : يبصق القات من فمه : ـ تف عليها تافهة حشرة . ويظل يلعنها وينصب لها محاكمة تنتهي بشنقها مشفوعة بلعناته وهو يخرج لسانه ويسخر منها .!
لقد ندم على خطأه مع تلك الطبيبة وصحبته لرفاق السوء في الغربة والذين دفعوه إلى رهان فاشل سيظل يدفع ثمنه طيلة عمره .! ******
في السبت 18 فبراير-شباط 2023 09:38:13 م