حوار هادئ مع الشيخ محمد الحزمي حول مفهوم الاستحمار
بقلم/ عبد الله زيد صلاح
نشر منذ: 13 سنة و 10 أشهر و 29 يوماً
الثلاثاء 07 ديسمبر-كانون الأول 2010 03:59 م

جميل أن يتعايش الإنسان مع قضايا عصره ومجتمعه وأن يتفاعل معها، لكن الأجمل من ذلك أن يكون صادقاً في تفاعله وواعياً لتلك القضايا والظواهر الماثلة حتى يتسنى له مناقشتها والمساك بمعصم أمرها. كما أن الإنسان بطبعه عنصر فاعل في الحياة فهو خليفة الله في أرضه، والخلافة هنا لا رابط لها بهرم السياسة، وإنما المقصود بها حسن استخلاف الإنسان في نفسه وأهله وماله ومجتمعه، بمعنى الاستخلاف السلوكي أو فقه المعاملة؛ ولذلك فالمرء عندما يكون حسناً في خلافته يتجاوب معه الآخر والعكس كذلك.

صحيح أن زينة الحياة ومفاتنها تلهو بتماسك الإنسان وسلوكياته، فينتج عن ذلك تحول القناعات وتبدل المواقف وتنوع الآراء والأفكار، وهذا ما يحتم مثول مبدأ النسبية في لحظة تقويم المواقف أو الحكم على آراء الآخر وأفكاره وسلوكياته.

وانطلاقاً من هذه الرؤية نحاور فضيلة الشيخ محمد الحزمي حول مقاله "من الاستعمار إلى الاستحمار"، ولن نتفاوض معه إلا في جزئية واحدة وهي مسألة "الاستحمار"، فهو يرى أن الأمة العربية والإسلامية رهينة المحن فما أن تخرج من واحدة حتى تطل أخرى برأسها، وهو يرجع ذلك إلى تخلي الأمة عن قيمها ومبادئها فسلط الله عليها حكاما يسومونها سوء العذاب، ونحن لا نختلف معه حول ظاهر ما يطرحه فالأمة فعلاً تعاني من المحن ما لا طاقة لها به، ولكننا نختلف معه في طريقة عرض الظاهرة فسياسة (أن وراء الأكمة ما وراءها ) لا تجدي نفعاً في سياق واقع أصبح كشف المستور فيه ماءً يجعل كل شيء حي، بمعنى أن تناول الأشياء لا ينبغي أن تتناول من منظور الرؤية الواحدة أو الفكر الواحد الذي يؤمن به الإنسان، لاسيما والطغيان العلمي والمعرفي قد فتح كثيراً من مدارك الإنسان المعاصر فأصبح قادراً على تمييز الغث من السمين، فالأمة العربية والإسلامية لم تكن رهينة المحن والمصائب لأنها تخلت عن قيمها ومبادئها، فكيف تخلت الأمة عن قيم ومبادئ مصدرها الوحي الإلهي والنبوي، إن الإشكالية لا تكمن في التخلي كما ترى وإنما تكمن في عدم استيعاب تلك القيم والمبادئ وعدم فهمها على الوجه الصحيح، إن القيم التي تراهن عليها اليوم وتدعي أن الأمة تخلت عنها هي موجودة في وعي كثير من الناس ولكنها قيم ومبادئ مزيفة، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، إنها قيم ومبادئ خاوية على عروشها، قيم تتمثلها عقول بشر تتحكم فيها العصبية والمصلحة الآنية والمحدودة، ونحن نطرح عليك في هذا السياق سؤالاً، لماذا تطرح المسألة في سياقٍ سياسي بحت.؟ ونرجوا أن لا يفهم من هذا الكلام أننا ندافع عن أرباب السياسة فنحن براء منهم كما نحن براء من أصحاب العمائم والشارات المؤدلجة فهما معاً في تحالف متين منذ عض الملك فهما السبب الفعلي في تزييف الوعي وانحراف القيم والمبادئ؟.

إن انحراف القيم والمبادئ ليس نتاج الحاكم السياسي بقدر ما هو بالدرجة الأولى نتاج الحاكم الديني المؤدلج بعقيدة غير سمحة لا تنظر إلا فيما حولها، نتاج الحاكم الذي يعبث بالعقول كيف يشاء، ويعمل على تدجينها وتلوينها بلون الفكر والثقافة التي تخدم سلطته وتبقي على نفوذه وتظهره في هيئة مقدسة يحرم مساسها أو الاعتراض على أفعالها وإن تعارضت مع الدين والفطرة.

ومثل ذلك نقول عن مفهوم الاستحمار الذي ألبسته ثيابا مفصلاً كما تشاء أيها الشيخ، وليتك قرأت كتاب "النباهة والاستحمار" للمفكر الإسلامي الكبير على شريعتي، فالاستحمار في فهمك هو الاستخفاف، وتربطه بالحاكم السياسي ليس إلا. هكذا هاجسك السياسي يجبرك على النطق بما لا يتناغم من المنطق أساساً، فالاستحمار كمفهوم له فاعلية في وعي الإنسان وله سلطة في تغيير قناعاته وتفكيره يرتبط بالفكر، والفكر ليس نتاجاً سياسياً، صحيح قد تسهم السياسة في تسيير الفكر لكن لن يكون لها ذلك إلا في حضرة حاشية فكرية ودينية وثقافية تستطيع أن تروج لهذا المبدأ بين الناس فيؤتي أكله، أي أن الاستحمار نتاج فكري ومعرفي، فكلما كان الفكر ناصعاً ومتصالحاً مع منطق الأشياء كانت النتيجة إيجابية وتكونت على إثر ذلك حالة من النباهة والوعي وإدراك المسائل على حقيقتها، وإذا كان الفكر مشوهاً ومشوشاً كانت له إيحاءات تنبعث من مواقف وآراء وأفكار يمكن إدراجها تحت طائل "الاستحمار".

ولعل من الفائدة أن نحيلك إلى موقف تاريخي تجمع على صحته كتب السير والتاريخ، ويمكنك من خلاله أن تدرك أن مفهوم الاستحمار لا يرتبط بالسياسة بقدر ما يرتبط بالوعي الفكري والسلوكي والإيديولوجي، ذلك الموقف هو قضية التحكيم بين الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجه خليفة المسلمين وبين معاوية بن أبي سفيان، ومن المعلوم أن الخليفة الشرعي الأمام علي قد رفض أن يمثله أبو موسى لما به من لين ورقة وبراءة، لكن كبار القوم أبوا إلا الأشعري وأصروا عليه، فكانت النتيجة كارثية وجاء الموقف في سياق استحماري بامتياز بشهادة عمرو ابن العاص، فحينما ذاق أبو موسى مر الخديعة توجه إلى عمرو بن العاص قائلاً : ما أنت إلا كالكلب إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث"، فأجابه داهية العرب : "ما أنت إلا كالحمار يحمل أسفاراً" فالحمار لا يدرك قيمة ما يحمل من علم ومعرفة، وهكذا الإنسان الذي لا يؤمن بتحليل المواقف والقضايا وإعمال العقل في كل صغيرة وكبيرة قبل أن يشرع في السير.

وفي الأخير يجب أن نعترف أن الأمة العربية والإسلامية تعيش تحت مفهوم "الاستحمار"، لكن ثمة أسباب كثيرة هي الدافع وراء ذلك، وأنصح الشيخ الحزمي وأعزائي القراء بقراءة كتاب "النباهة والاستحمار" للمفكر الإسلامي الكبير علي شريعتي يرحمه الله، ففيه من المتعة والنباهة والمعرفة والفكر الكثير.