ما وراء تضعضع ثقة الناس بالوحدة
بقلم/ نائف حسان
نشر منذ: 14 سنة و شهر و 10 أيام
السبت 25 سبتمبر-أيلول 2010 05:45 م

تعيش اليمن أكثر من أزمة، لكن الأزمة الأهم تتمثل في ضرب قيمتي الوحدة والديمقراطية. بالتوازي مع تضعضع ثقة الناس بالوحدة، يتراكم تل من عدم الثقة بالديمقراطية. هناك حالة عامة من عدم الثقة، والشعور باللاجدوى. لا يثق اليمني بشيء، ويفتقد القدرة على التغيير. ولئن كان اليمني لا يدرك أهمية قيمتي الوطن والمواطنة، فإنه يتحرك مثقلاً بفكرة "ولي الأمر" و"الرعية".

لقد اهتزت ثقة الناس بالديمقراطية كقيمة حديثة، يُمكن المراهنة عليها في ضمان مبدأ الرقابة على أداء الأجهزة التنفيذية، والشفافية في ممارسة الحكم بما يساعد في تطوير البنى الاجتماعية والحياة العامة.

اقترنت الديمقراطية بقيام الوحدة عام 1990. مذاك شهد اليمنيون انتخابات عدة, وسارت الديمقراطية جنباً إلى جنب مع تدهور الأوضاع؛ اقتصادياً, وسياسياً, واجتماعياً. والمشكلة أن الانتخابات, والديمقراطية، كمنظومة متكاملة, أصبحت مقترنة في الذهنية العامة باللاجدوى, ومبشرة بتدهور وسوء أكبر! لقد أصبحت الديمقراطية مشكلة قائمة بذاتها؛ ذلك أنها تحولت من وسيلة لتحقيق التداول السلمي للسلطة, وتأكيد الحريات الشخصية والعامة وحمايتها, إلى أداة ديكورية لشرعنة النظام القائم وضمان استمراره. وقد تمكنت المنظومة الأداتية الحاكمة من فرض نسق ثقافي عام جعل الناس يتماهون مع هذه المهمة المشوهة للديمقراطية. لهذا تبدو الديمقراطية خياراً رئيسياً بالنسبة للسلطة أكثر مما هي خيار عام لليمنيين كشعب. يبدو هذا واضحاً من خلال عدم اكتراث الناس بالديمقراطية، بسبب فقدان ثقتهم بها، مقابل حرص النظام عليها، تغنيه الدائم بها، وتقديم نفسه كحامٍ لها. إن الديمقراطية التي تحميها أنظمة الحكم، وجنرالات المؤسسة العسكرية، هي "ديمقراطية زائفة".

...

لجأت الشعوب إلى الديمقراطية لمراقبة أنظمة الحكم. ويقول التطور الإنساني، والتاريخ الحديث إن الديمقراطية كانت ومازالت الخيار الأمثل للشعوب؛ إذ يُفترض بها الحد من تغول الأجهزة التنفيذية, ومسؤوليها العسكريين والأمنيين.

يُفترض أن تكون الديمقراطية محمية بوعي الشعوب وإدراكها القيمي الحديث، وليس بأنظمة الحكم وشعاراتها. لكن ما يجري لدينا هو العكس. لقد ظلت الديمقراطية ممارسة سياسية ولم تتحول إلى أسلوب حياة.

الاستخدام السيئ للديمقراطية جعلها لا تُمثل خيار الناس وتطلعاتهم للعبور نحو حياة أفضل، بل إحدى وسائل الاستبداد السياسي. لهذا غدت الديمقراطية مجرد عملية انتخابية, فيما هي نظام سياسي واجتماعي متكامل؛ سيادة القانون, وحماية الحريات، أهم فيه من صناديق الاقتراع. وقد أدى هذا الاستخدام السيئ إلى جعل الانتخابات على طرفي نقيض مع سلطة القانون, وحماية الحريات, وعملية التداول السلمي للسلطة. وبشكل أدق سأقول إن هذا الاستخدام السيئ انتزع من الديمقراطية قيمتها الأساسية المتمثلة في ضمان التداول السلمي للسلطة، وتعزيز سلطة الرقابة الشعبية عبر الحد من فساد الأنظمة القائمة، وتحايلها على سلطة القانون، واستخفافها بوعي الناس وحياتهم.

منذ ما بعد 1990 أصبح خطاب السلطة قائما على مهمة أساسية تتمثل في حماية الديمقراطية من الشعب! في وضع متضعضع كهذا؛ يتم التلويح، مراراً، بالشعارات, ويتم اختلاق "إنجازات" و"مكتسبات" يسهل الدفاع عنها بالكلام والخطابات، ويسهل استخدامها كمهمات وطنية فضفاضة. انظروا إلى السنوات الـ20 الماضية.

بعد 46 عاماً على قيام الثورة مازال النظام الجمهوري هو منجز اليمنيين ومكسبهم الذي تتولى السلطة حمايته والدفاع عنه. منذ عام 1990 أُضيف منجزان آخران (الوحدة والديمقراطية) تتولى السلطة مهمة الدفاع عنهما وحمايتهما. من يتأمل خطاب السلطة سيجد أنه, وبعد كل هذه السنوات, قائم على مهمة شعاراتية تتمثل في الدفاع عن هذه الأحداث التي تم تأبيد واختزال حياة اليمنيين فيها. والمضحك أن السلطة اختلقت لها مهمة حماية "منجزات" اليمنيين من اليمنيين أنفسهم!

لقد تراجعت المهمات الأساسية للدولة لصالح هذه الشعارات الفضفاضة. بناء اقتصاد قوي, تحقيق تنمية اجتماعية, محاربة الفساد, إقامة دولة القانون والمواطنة المتساوية.. تتراجع هذه المهمات إلى الهامش مفسحة المجال لخطابات السلطة، التي اختلقت مهمة وطنية وحيدة هي مهمة حماية الوحدة والجمهورية! والمشكلة أن هذا النظام، الذي يحكم البلد منذ أكثر من 33 عاماً، يُقدم نفسه كحامٍ للديمقراطية وضامن لها!

لقد تم تحديد مكتسبات اليمنيين، وتم افتراض مهمة "وطنية" للدفاع عن هذه المكتسبات. هكذا صار على اليمنيين أن يقضوا عقوداً من حياتهم مستنفرين، وغير مستقرين، في مهمات تفرض عليهم حماية "منجزات" كان يفترض بها حمايتهم، وتحقيق شيء من الاستقرار والتقدم لهم.

لقد تحولت "منجزات" اليمنيين إلى شعارات يفترض بهم حمايتها من أنفسهم ومن تطلعاتهم لحياة أفضل! لكن ذلك بقدر ما دمر حياة اليمنيين, عمل, ويعمل, على تآكل السلطة من الداخل. إن الشعارات تتحول في الغالب إلى مهمات خطرة لا يستطيع المتلاعب بها مواجهتها.

السلطة الجيدة كانت ستستعيض شعار "حماية الوحدة والدفاع عنها" بسياسات وطنية واقعية ستمثل حماية حقيقية للوحدة. منذ ما بعد حرب 94؛ رفعت السلطة هذا الشعار. كان هذا الشعار يُخون من يُرفع في وجهه, لكنه كان يعمل أيضاً على إعادة مفهوم ومعنى الوحدة. والحاصل أن هذا الاستهلاك الشعاراتي دفع بالسلطة، واليمن بشكل عام، إلى مأزق حقيقي امتد خطره من تهديد الوحدة السياسية إلى ضعضعة السلم الاجتماعي. يُمكن إجراء مقارنة سريعة. في زمن التشطير كان يعيش اليمنيون وحدة اجتماعية معززة بمشاعر وطنية صادقة. اليوم، في زمن الوحدة، يعيش اليمنيون حالة من انفصال اجتماعي متزايد، مصحوبة بتراكم موجة من الأحقاد، والضغائن.

مراراً؛ تم القول إن المنطقة العربية لم تنتقل من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية. اتساقاً مع ذلك؛ يُمكن الإشارة إلى أن السلطة القائمة في اليمن استبدلت الشرعية الثورية بشرعية حماية الثورة والدفاع عنها. والظريف أن السلطة تستخدم أكثر من "شرعية" لمواجهة خصومها المختلفين. في مواجهة الغضب المتزايد في الجنوب؛ تستخدم السلطة شرعية الدفاع عن الوحدة. وفي مواجهة الحوثيين؛ تستخدم شرعية الدفاع عن الثورة (ثورة سبتمبر طبعاً)، والنظام الجمهوري. وفي مواجهة الأحزاب السياسية، وبقية خصومها؛ ترفع السلطة شعار "حماية التعددية الحزبية والنظام الديمقراطي"!

لم تصنع السلطة القائمة ثورة 26 سبتمبر, لهذا استبدلت مشروعية صُنع الثورة بمشروعية حماية نظامها. في مسألة الوحدة كانت السلطة القائمة شريكاً في التوقيع عليها وإعلانها, غير أنها استبدلت مشروعية صنع الوحدة بمشروعية حمايتها؛ دون أن تتنبه إلى خطورة ذلك. أدى استبدال مشروعية صُنع الوحدة إلى إقصاء الشريك الآخر في إعلانها والتوقيع عليها. ويُمكن اعتبار هذا جذر المأزق الذي تعيشه البلاد اليوم. والحاصل أن غالبية الجنوبيين باتوا يشعرون أنهم يرزحون اليوم تحت ذلك الإقصاء السياسي الذي تم, بالقوة العسكرية, في صيف 94. وإذن، فقد أصبح على السلطة أن تحمي الوحدة بشكل حقيقي وجاد بعيداً عن رطانة الشعارات. وأعتقد أن ذلك غير ممكن حتى بتحقيق إصلاح سياسي كامل, يتم فيه إقامة دولة القانون، وحماية الحريات، وتبادل سلمي للسلطة. الأرجح لدي أن شعارات من قبيل الاستقلال واستعادة الجنوبيين لدولتهم, أصبحت مغرية، وذات سلطة معنوية أخاذة دفعت وستدفع الجنوبيين خلفها إلى الهروب حتى من هويتهم. إن للشعارات الجماهيرية والنضالية سلطة حقيقية لا تمتلكها الشعارات الرسمية.

خلافاً لشعار "حماية النظام الجمهوري"؛ يفقد شعار "حماية الوحدة والدفاع عنها" قدرته على الاستمرار، لأنه يصطدم, بشكل مباشر, مع كتلة بشرية يُفترض أنها شريكة في صنع الوحدة. لا يعقل أن يتحد شعبان, أو مجتمعان, ثم يتولى أحدهما, أو يقول إنه يتولى, مهمة الدفاع عن تلك الوحدة. كيف يمكن فهم قول شخص إنه يدافع عن الوحدة ضد الأشخاص الذين اتحدوا معه؟

الوحدة، أية وحدة وفي أي مكان في العالم؛ تكمن قوتها في كونها تُمثل مصلحة مباشرة للناس، ومن هنا بالضبط تستمد شرعيتها. والمشكلة أن الوحدة في اليمن لم تُحقق ما كان يحلم به اليمنيون ويتطلعون إليه، سيما الجنوبيون. أكثر من ذلك؛ يرى كثير من الجنوبيين أن الوحدة أصبحت السبب الرئيسي لحالة التدهور الحياتي، والمعيشي الذي يطحنهم. كذلك أصبح "النظام الجمهوري" لا يربط يمنيي اليوم بمصلحة مباشرة, والحال ذاته بالنسبة للديمقراطية. ولعل قوة السلطة تبدو في كونها تدرك أنها صاحبة مصلحة حقيقية من كل ذلك. هذا يعني أن عدم إدراك اليمنيين أنهم أصحاب مصلحة حقيقية في الديمقراطية، يجعل استخدام السلطة لها أمراً سهلاً.