أشرتُ في مقدمة هذه الأضواء الفقهية المباركة إلى بعض المسائل الفقهية التي واجهت كاتبَ هذه الأسطر، وهي مسائل ممّا تعم به البلوى، وكثيرًا ما تواجه المسافرين وحتى الدارسين والباحثين، وهي :
- ما حكم الأغاني والأناشيد الوطنية المصاحبة لآلات الموسيقى؟.
- 2. هل تضمن الدولة شرعًا تلفيات الأموال والأرواح التي تحيق بالمسافرين، وغير المسافرين، إنْ الدولة -أو بعض عمّالها - تسبّبت في تلفها وهدرها، من خلال سوء الخدمات التي تقدمها للمواطنين، كالمشافي والطرقات وانهدام الجسور وفيضان السدود وحوادث الطرقات بسبب الحفريات والمطبات المصطنعة..الخ، ونحوها؟!.
- 3. في طوابير البنزين الطويلة المنتشرة في أنحاء العالم الإسلامي، في الآونة الأخيرة، هل يجوز للحاجة أو للضرورة أنْ يتقدمَ شخصٌ مّا على كلّ من في الطابور، للضرورة؟!.
- 4. نتائج وتوصيات هذه الدراسة . فإلى المسألة الأولى : - المسألة الأولى : حكم الأغاني والأناشيد الوطنية المصاحبة لآلات الموسيقى؟. وجوابه والله أعلم : هذه المسألة من المسائل الشائكة، والمعارك العلمية، والبلايا التي عمّ وطمّ حولها الخلاف والنزاع الفقهي قديمًا وحديثًا، ما بين محرّم لأصل الغناء إذا اقترن بآلات الموسيقى والمعازف، ومنهم جماهير المذاهب الإسلامية المتبوعة، ومن العلماء المتأخرين من ذهب إلى القول بالجواز بشروط، على التفصيل الآتي: القول الأول، وهم القائلون بالتحريم: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "مذهب الأئمة الأربعة أنّ آلات اللهو كلها حرام، ثبت في صحيح البخاري وغيره أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون من أمته من يستحل الحِرَ والحرير والخمر والمعازف، وذكر أنهم يُمسخون قردةً وخنازير .. ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعًا" المجموع 11/576 .
- وقال الألباني رحمه الله: اتفقت المذاهب الأربعة على تحريم آلات الطرب كلها. السلسلة الصحيحة 1/145. ومن أبرز العلماء المعاصرين القائلين بالتحريم مطلقًا، العلامة بن باز والعثيمين، وبن جبرين، يرحمهم الله، ومن وافقهم، إلا أنهم يجيزون الأناشيد الوطنية، التي تحث على الشجاعة والفتوة ومكارم الأخلاق، والدفاع عن الدين والوطن، ما لم يكن فيها موسيقى أو معازف. (أنظر موقع بن باز، نور على الدرب)، وهذا هو قول جمهور العلماء المعاصرين.
- القول الثاني : المجيزون للأناشيد الوطنية: من العلماء المتقدمين الإمام بن حزم الظاهري وأبو بكر بن العربي والغزالي، وغيرهم، قالوا بتجويز عامة الغناء، مالم يقترن بمحرّم. ومن العلماء المعاصرين من ذهب إلى القول بجواز الأناشيد الوطنية، وإن لم تخل من بعض الآلات الموسيقية، ومنهم القرضاوي، يرحمه الله، في كتابه "فقه الغناء والموسيقى" وزيدان يرحمه الله، في "كتابه المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم" وهذا الأخير أجاز فقط الموسيقى العسكرية، وأفتت هيئة الفتوى الكويتية بوزارة الأوقاف بجواز الموسيقى العسكرية، وهذا قول جمعٍ من أهل العلم، قالوا بجواز الموسيقى والأناشيد الوطنية والعسكرية وإن صحبتها الموسيقى، إذا خلت من المنكرات المصاحبة كالاختلاط وما شابه ذلك.
- وناقش المانعون دلالات الآيات والأحاديث التي فُهم منها التحريم، وذكروا أنّ مفهوم أدلة التحريم من القرآن العظيم، فيها بُعدٌ، وأما الأحاديث فذكروا أنّ ما كان منها صحيحًا فهو غير صريح في التحريم، وما كان صريحًا فغير صحيح، لكنهم يشترطون للجواز شروطًا وضوابط منها :
- 1. أن تخلو من المزامير، لأنه ورد فيها نص في التحريم.
- 2. أن تكون كلمات هذه الأغاني والأناشيد ليس فيها تغزل وتفحش وسقوط، بل الإشادة بالوطن وحِماه، والشجاعةُ ومكارم الأخلاق، فتجوز هذه الأناشيد ولو صَحبتها الموسيقى، سيما وقد صارت من عموم البلوى، التي يترخص بشأنها مالا يترخص في غيرها في عموم العالم، ويمكن العودة إلى الأدلة والشواهد في مظانها، فلا نطيل بسردها، فالمقام لا يحتملها.
- 3. أن تخلو هذه الأناشيد من الشّرْكيّات وفاحش القول، كتعظيم الوطن وجعله وثنًا يُعبد من دون الله، ونحو ذلك.
- 4. تجنب الإسراف في السماع. الراجح في المسألة: هذا القول الثاني والأخيرُ هو ما أميل إليه وأضيفُ شرطًا آخر وهو: - أنْ تدعو الحاجة إلى هذه الأغاني أو الأناشيد الوطنية، ولا بديل غيرها، عملًا بالقاعدة الأصولية: "ما حرُم تحريم الوسائل جاز للحاجة" أو قاعدة "ما حرُم لغيره جاز للحاجة". فإذا دعت الحاجة لهذه الأناشيد الوطنية كالاحتفالات والكرنفالات والأعياد الوطنية، لتذكير الأمة بحق الوطن، ووجوب الدفاع عنه، في خضم الدعوات المنتشرة لتمزيق وحدته وتدمير مكاسبه.
- فإن لم يكن إلاّ هذا الطريق، وإذا لم يكن ثمة بدائل شرعية غيره، فيجوز استخدام هذه الوسيلة لنشر الوعي وتعزيز الروح الوطنية في نفوس الناس، والحاجة تُقدر بقدرها، سيما والأمة تتعامل مع هذا النوع من الفن بكل تقدير وعاطفة جياشة، وتعدّه جزءًا من تراثها الشعبي وثقافتها، ومن المقرر أنّ الوسائل تأخذ حكم المقاصد، وهذا الشرطُ وإن لم يكن منضبطًا، على العموم، لكن يمكن اعتباره ديانةً وتعبدًا، منضبطًا، في حق الأفراد، حتى تتمكن الأمة من إيجاد البدائل الشرعية، وألاّ يفتح الباب على مصراعيه.
- وعلى الأمة السعي لإيجاد بدائل شرعية خاليةً من المعازف والموسيقى وآلات اللهو، سيما وأنه يمكن حاليًا مع تطور الإلكترونيات والسمعيات والصوتيات، إيجاد البدائل المباحة، لمن جدّ واجتهد، والله المستعان.
- وأختم هذه المسألة بالقول أنّ القول بجواز الغناء ولو بآلات اللهو والعود، هو مذهبٌ للسلف قديم، وليس قولاً محدثًا، كما نقله الإمام الشوكاني في نيل الأوطار، مستعرضًا مذاهب علماء السلف في جواز الغناء، بقوله: "وقد اختلف في الغناء مع آلة من آلات الملاهي وبدونها فذهب الجمهور إلى التحريم..وذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر وجماعة من الصوفية إلى الترخيص في السماع ولو مع العود واليراع "نيل الأوطار: 8/179.
- وقال الإمام الشوكاني يرحمه الله: "حكى الروياني عن القفال أنّ مذهب مالك بن أنس إباحة الغناء بالمعازف، وحكي الأستاذ أبو منصور الفوراني عن مالك جواز العود، .. وحكي أبو الفضل بن طاهر في مؤلفه في السماع أنه لا خلاف بين أهل المدينة في إباحة العود قال ابن النحوي في العمدة قال ابن طاهر هو إجماع أهل المدينة" أنظر نيل الأوطار: 8/179. وهذا التجويز للغناء لا يشمل الغناء في العصر الحاضر المشاهد على شاشات التلفزة من غناء النساء والاختلاط، فلا قائل من أهل العلم – لا قديمًا ولا حديثًا- بتجويزه على الإطلاق.
- المسألة الثانية وهي: هل تضمن الدولة شرعًا تلفيات الأموال والأرواح التي تحيق بالمسافرين، وغير المسافرين، إنْ هي تسبّبت في تلفها وهدرها، من خلال سوء الخدمات التي تقدمها للمواطنين،كالمشافي والطرقات وانهدام الجسور وفيضان السدود وحوادث الطرقات بسبب الحفريات والمطبات التي وضعها عمّال الدولة في طريق الناس..الخ؟!. وجوابه : أخطاء الولاة والمسؤولين والقضاة أو الموظفون العامون في الدولة الذين يعملون في الخدمات والمصالح العامة، إن وقع تحت أيدبهم خطأ منهم غير مقصود، فيتحمله بيت المال، وذلك كالحُفر المنتشرة في الطرقات، أو صناعة المطبات في طريق الناس، دون لوحات إرشادية، أو صناعة السدود أو الجسور بطريقة غير هندسية، ونحو ذلك إنْ هلك بسببها إنسان، أو دابته، فعلى بيت المال تحمل هذه التلفيات، من نفس أو مال.
- وإن كان الخطأ عمدًا مقصودًا فيتحمله العامل أو الموظف، كالطبيب غير الخبير أو غير الحاذق يهلك بسببه المرضى، فالضمان من ماله ومال عاقلته، على النحو المفصل في كتب الفقه. وقد ورد في الموسوعة الفقهية الكويتية(8/253): "ضمان ما يتلف بأخطاء أعضاء الإدارة الحكومية : من ذلك أخطاء ولي الأمر والقاضي ونحوهم من سائر من يقوم بالأعمال العامة، إذا أخطئوا في عملهم الذي كلفوا به، فتلفَ بذلك نفس أو عضو أو مال، كدية من مات بالتجاوز في التعزير ، فحيث وجب ضمان ذلك يضمن بيت المال. أما ضمان العمد فيتحمله فاعله اتفاقا. (أنظر: ابن عابدين 3 / 190 ، والدسوقي 4 / 355 ، وروضة الطالبين 11 / 308 ، والمغني 8 / 312 ، 328 ) . وأضافت الموسوعة الفقهية الكويتية (8/254): مسألة وهي : "تحمل الحقوق التي أقرها الشرع لأصحابها، واقتضت قواعد الشرع أن لا يحملها أحد معيّن : قالت الموسوعة: "من أمثلة ذلك ما لو قُتل شخص في زحام طواف أو مسجد عام أو الطريق الأعظم، ولم يعرف قاتله، فتكون ديته في بيت المال لقول علي رضي الله عنه : لا يبطل في الإسلام دم، وقد تحمل النبي صلى الله عليه وسلم دية عبد الله بن سهل الأنصاري حين قتل في خيبر، لمّا لم يعرف قاتله، وأبى الأنصار أن يحلفوا القسامة، ولم يقبلوا أيمان اليهود، فودّاه النبي صلى الله عليه وسلم من عنده كراهية أن يبطل دمه".
- المسألة الثالثة: في طوابير البنزين الطويلة المنتشرة في أنحاء العالم الإسلامي، هل يجوز للحاجة أو الضرورة أنْ يتقدم شخصٌ مّا على كل من في الطابور، للضرورة؟!. أصل هذه المسألة مبنيٌ على الحقوق، والحقوق مبنية على المشاحة، فإذا تنازل صاحب الحق عن حقه، عن رضى وطيب خاطر، جاز أن يتقدم غيره عليه، لسبب عرف أو عادة أو حاجة أو ضرورة، وقد ورد هذا كثيرًا في السنن والآثار، فقد أذنت سودة بنوبتها لعائشة، رضي الله عنهن، وفي الحديث أيضًا : (لا يؤمنّ الرجل في بيته إلا بإذنه) وقد ورد في الصحيحين : أنّ النبى صلى الله عليه وسلم، أتى بشراب فشرب منه، وعن يمينه غلام، وعن يساره الأشياخ ، فقال للغلام : (أتأذن لى أن أعطي هؤلاء)؟ فقال الغلام : والله يا رسول الله، لا أوثر بنصيبى منك أحدا ، قال : فتلّه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى يده .
- قال بن بطال: "فيه من الفقه: أنه من وجب له حق أنه لا يؤخذ منه إلا عن إذنه". (شرح البخاري لا بن بطال: 11/72). والغلام المذكور فى هذا الحديث: هو ابن عباس، والأشياخ: خالد بن الوليد، وغيره، ومعنى فتلّه في يده، وضعه في يده. والحاصل جواز أن يتقدم المتأخر على المتقدم، إذا أذن له الناس عن طيب نفس وخاطر، لا على وجه الحياء أو الحرج . ختامًا: نتائج وتوصيات هذه الدراسة : يوصي الباحث بهذه النتائج والتوصيات، في السباعيةٍ الآتية :
- 1. على الدول الإسلامية استحداث تأشيرة للأكاديميين وطلبة العلم، تسمى "تأشيرة أكاديمية" مجانية، يتمكن من خلالها الطلاب والباحثون والجامعات من الاستزادة من العلوم والمعارف وزيارة الشخصيات الأكاديمية والآثار والأماكن التاريخية، وما في حكمها، في البلدان العربية والإسلامية، ويجب سنّ القوانين لتيسير تبادل المعارف والزيارات العلمية والأكاديمية، ويُسمح قانونًا للجامعات وطلاب الجامعات والدراسات العليا، وكليات الشريعة والقانون، وكليات التاريخ، دخول أيّ دولة إسلامية، بهذه التأشيرة، ولا يفوتني في هذا المقام شكر بعض الدول الإسلامية السبّاقة التي بدأت في إصدار هذا النوع من التأشيرات.
- 2. ضرورة اعتماد "الرحلة لطلب العلم" لدى الجامعات وكليات الدراسات العليا، وكليات الشريعة والقانون، كجزء لايتجزأ من المقرر الدراسي، وعليها علامات نجاح ورسوب، فمِن أكثر مشكلات الفكر العربي، عمومًا، والشرعي خصوصًا، ظهور الجهل والغلو والتطرف بسبب الاعتماد على العلوم النظرية، دون الوقوف على حقائقها وواقعها وتطورها وآفاقها، ولو سألت أدنى طالب للشريعة عن رأيه في بعض الفِرق لسمعت العجَب العُجاب، بسبب الفجوة بين الماضي والحاضر، والنشأة والتطور.
- 3. ضرورة دعم الاتحادات والمجالس والمدارس الفقهية المتعددة والمتنوعة، القائمة، فهي إحدى بوابات وحدة الأمة وجمع كلمتها، واعتبار المذهب الزيدي والإباضي مذاهب إسلامية، جنبًا إلى جنب مع المذاهب الأربعة المتبوعة، حتى لا تُسرقا وتتحول إلى مذاهب معادية للأمة.
- 4. تجريم حركات التمرد والانفصال، والنص على ذلك في القوانين والدساتير العربية والإسلامية، فلمْ تكسب الأمة من هذه الحركات والدعوات إلا التشطير وإهدار الأموال والإمكانيات.
- 5. العمل على تعزيز قوانين الإخاء والترابط العربي، ونبذ كل أسباب الفرقة والشتات، والتوسع في نشر كليات الشريعة وأصول الدين، وأقسام الدراسات الإسلامية في كل المناطق والمحافظات، وقد نص الفقهاء على وجوب توفر دُور شرعية في كل بلدة، فإن لم يفعلو أثموا جميعًا.
- 6. العمل على سرعة ضم الجمهورية اليمنية إلى مجلس التعاون الخليجي، لقطع دابر الفتنة والاقتتال، وحتى لا تتحول اليمن إلى بؤرة استنزاف للدول الخليجية والعربية والإسلامية، بسبب التدخلات الأجنبية.
- 7. ضرورة معالجة الاختلالات الإقتصادية والمالية والأمنية في الجمهورية اليمنية، كجزء لا يتجزأ من مواجهة العدو الخارجي، وما لم تتم هذه المعالجات وعلى وجه السرعة فسيظل الجرح اليمني يثعب، ولن يندمل، وسيتسع هذا الجرح يومًا بعد يوم، ليشمل الجسد العربي كله. وبهذه الخاتمة المباركة أكون قد انتهيت من كتابة هذه المذكرات لأستاذ جامعي، والأضواء الفقهية عليها، والنتائج والتوصيات، والله سبحانه وتعالى أسأل أن ييسر لي تتمة هذه الدراسة، كتابةً وطباعةً ونشرًا، وهي : "مذكرات طالب جامعي." فقهيات.
- والله الموفق والمستعان.
- وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.