|
للثورة منطقها في العموم ولكل ثورة منطقها الخاص إلا أن الثاني لبد أن ينبثق عن الأول فان لم يكن فعليك أن تسميها ما تشاء إلا ثورة.
أما المنطق العام فهو يخضع لمنظومة ردة الفعل البشري على وضعية غير إنسانية وعلى ردة الفعل هذه أن تتسم بشيء من العنف السياسي وعنف الحراك نفسه بحيث انه لا يرسل أبدا رسالة صداقة للنظام. فإسقاط النظام لا يتم عبر الأروقة السياسية الضيقة التي عادة ما تسلكها المعارضة التقليدية بل عبر الشوارع الأكثر اتساعا لفصائل المجتمع في تعبير غير مسلح بالضرورة لكنه عنيف عن ذروة القطيعة بين الحاكم والمحكوم في حالة ثورية يتصدرها العصيان الكامل كتحد صريح للسلطة بما فيها من كسر لحواجز الصمت والخوف. وكسر الحواجز في منطق الثورة لا يعرف سقفا أو حدودا لأنه إذا خضع لذلك فهذا يعني انك في منطق المعارضة ولست في منطق الثورة مهما كانت حالة العنف السياسي.
البعد الأكثر عمقا في منطق الثورة ليس سياسيا بامتياز بل يخضع لقوانين علم الاجتماع النفسي أي انه سيكولوجي سوسيولوجي يتمظهر أساسا في حالة العنف الجماعي وتكوين سريع لذكاء انفعالي جمعي يكون المحرك الأساسي فيه الازدحام والتحرك الجماعي مما يقلص من حسابات الذكاء الذهني الفردي الذي يدفع صاحبه الى الحيطة وعدم المغامرة وخاصة النفعية. فمن لم ينخرط في الذكاء الانفعالي الجمعي بالمشاركة الحقيقة وليس الشكلية فانه يبقى خارج الحالة الثورية أي خارج منطق الثورة تماما.
تتالت الثورات العربية وتمتعت كل منها بخصوصية رغم أنها تقيدت بالمنطق العام للثورة بدرجات متفاوتة. المثالين التونسي والمصري يشتركان في خصوصية العنف الجمعي التي أتت كتحد كبير لأجهزة أمنية لطالما كانت تعبيرا قويا عن السلطوية. فلطالما كان الجهاز الأمني يقمع و المواطن يمتثل في رفض منهجي للتحدي. إلا أن هذه الأجهزة صعقت أخيرا برؤية ازدحام يقبل التحدي القديم ويطلق العنان لتحديات جديدة كان على الأجهزة الأمنية أن تقبلها فما كان إلا أن انسحب البوليس من الحياة العامة وأطلق العنان للبلطجيين والمفسدين في الأرض في محاولة للقيام تحديدا بعكس ما كان يتوجب على الأجهزة الأمنية فعله ألا وهو المحافظة على الأمن العام فباتت هذه العصابات تسرق وتنهب وتقتل وتبث الرعب في كل مكان.
ففهم من ذلك أن السلطة أدركت أنها لم تعد تخيف أحدا وان القمع باسم الأمن والنظام لم يعد يجدي نفعا مع ذكاء انفعالي جمعي. فكان على رجال الأمن أن يلقوا ببدلاتهم العسكرية لينزلوا إلى الشارع ليس لإرساء النظام بل لبث الفوضى العارمة.
قامت الثورة ضد النظام لكنها وجدت نفسها تواجه الفوضى. عنف الثورة لم يعد يقابل بعنف السلطة التي فقدت السلطة بل أصبح يواجه بعنف الثورة المضادة. فخلف ذلك فارغا امنيا مذهلا ادخل الشك إلى قلوب الكثيرين إلا انه في نهاية الأمر ليس سوى احد محطات الثورة.
دخل الشعبان التونسي والمصري في منطق الذكاء الانفعالي الجمعي وقبعت خارجه الأحزاب السياسية كلها ودون استثناء والتي ظلت تسلك دروب الأروقة الضيقة حتى آخر لحظة من عمر النظامين. والذي أنجى الثورتين أن شبابهما كانا قد تجاوزوا المعارضة ورموا بها وراء ظهورهم.
والثورة اليمنية قد توفرت فيها كل شروط الثورة إلا اثنان في غاية الأهمية: الأول يكمن في عدم بلوغ ذروة الذكاء الانفعالي الجمعي لان الحسابات ظلت مسيطرة على الأذهان ومن يقول حسابات لا يقول ثورة. والشرط الثاني هو عدم القطع مع أحزاب المعارضة ذات الحسابات الضيقة بل أكثر من ذلك أصبح اللقاء المشترك يوظف شباب الثورة.
ومنذ أن تحاور اللقاء مع النظام باسم الثورة وضعت حينها الثورة اليمنية على المحك وطرح السؤال هل هذه خصوصية الثورة اليمنية أم هو بعد كلي عن منطق الثورة العام.
بعد أن عجز بن علي ومبارك عن ردع الشعب دعيا المعارضة إلى الحوار في محاولة يائسة لاستخدام هذه الأخيرة في امتصاص الغضب الشعبي المتصاعد آنذاك إلا أن المعارضة وجدت نفسها في التماس وخارج اللعبة حيث أن زمام الأمور باتت حينها في الشارع وحده. أما اللقاء المشترك في اليمن فكان في قلب الحدث على مسافة من الشباب الثائرين بمعنى انه يدعم الثورة ليس بانتمائه الفعلي للذكاء الانفعالي الجمعي بل فقط شكليا فبات يحرك الشارع وفق ما يراه ملائما لتحسين شروط التفاوض مع النظام. لكن النظام كان قد وجد ضالته على عكس النظامين التونسي والمصري فقد تحالف مع دول مجلس التعاون وعلى رأسها السعودية من جهة ومع الأمريكان من جهة أخرى لممارسة اكبر الضغوط على اللقاء المشترك صاحب الحسابات الضيقة والبراغماتية السياسية والذي أصبح يحاور باسم الشعب والثورة.
إنها الحسابات الضيقة للقاء نفسه التي منعت الشباب من الزحف إلى القصر الرئاسي أو التصعيد في الاحتجاجات فكان المستفيد الأكبر من ذلك النظام الذي بات يكسب الوقت الكافي للمراوغة والتلاعب. بيد أن الشارع لم يفقد زخمه وبدأ الشباب في التنصل من وصاية اللقاء المشترك مما أدى إلى تململ بعض أزلام النظام المتمكنين وشعروا بان تعنت علي صالح ورفضه التوقيع على المبادرة الخليجية التي تهدف إلى الإطاحة به شخصيا والإبقاء على النظام, شعر ها هؤلاء أن علي إذا استمر سيغرق السفينة بمن فيها فقرروا هم التخلص منه عن طريق التفجير الذي قامت به المخابرات اليمنية التي ترى في ذهاب صالح بقاءها.
ويبقى المشهد اليمني حتى الساعة غامضا وتعتريه كثير من المخاطر خاصة وان السعودية لا تزال تلوح بشبح عودة صالح حتى تمرر المبادرة التي تلتف على الثورة.
ما هو واضح وجلي انه عندما تغلب الحسابات على الذكاء الانفعالي الجمعي تتعسر الثورات وربما تفشل ومنها يأتي التحذير لشباب اليمين بان كونوا ثوريين لا حسابيين.
بقلم علي فاضل
سويسرا
في الأحد 19 يونيو-حزيران 2011 05:23:31 م