فرض المسألة اليمنية عددًا من الأسئلة المعمقة التي تحتاج إلى إجابات؛ أولها: من هو الخصم الحقيقي في اليمن؟ دون كثير من التخرص، هو الإيراني الذي يرغب أن يكون اليمن محطة دائمة للتنغيص على دول الخليج، بالطبع ليس حبًا في شعب اليمن، بل للاستفادة من مجموعة يمنية لديها الاستعداد لأن تسير في الركب الإيراني. الخطة الإيرانية ليست جديدة، أي الاستفادة من ظروف موضوعية في الدولة العربية، مجاورة أو بعيدة، للضغط أو لوضع القدم أو تحقيق مصالح لإيران القومية. هل نذكر في التاريخ، الذي ليس قديمًا، خطة شاه إيران في العراق؟ الأكراد يحاربون الدولة العراقية لأسبابهم، من الطبيعي أن يستفيدوا من كل من سوف يقدم لهم العون. وجد شاه إيران الفرصة، قدم للأكراد العون، ليس بسبب سواد عيونهم، أو إيمانًا من نظامه بحقوق الأكراد، فقد كان لديه أيضًا أكراد مضطهدون، كان يرغب في الضغط على النظام العراقي لتحقيق أهداف قومية، وتم له ذلك، أخذ نصف شط العرب من العراق، في سبيل أن يفك تحالفه مع الأكراد، حصل ذلك في اتفاقية الجزائر بين الشاه وصدام حسين عام 1975، وتلاشت مباشرة كل أشكال الدعم الإيراني للأكراد وتركوا لمصيرهم!
الاستراتيجية نفسها اليوم، ما تغير فيها هو الذرائع، من مطالب قومية إيرانية، طالبت بغطاء كثيف من «محاربة إسرائيل»! و«الوقوف مع المستضعفين»! كل ذلك مغموس بأفكار «تسليح الطائفية»، وتعتقد طهران أن مفاهيمها في السياسة هي «شفاء من كل داء»، وذلك وهم كبير.
للوصول إلى حلول للمشكلات العالقة لا تفهم إيران الحوار العقلاني، هي لا تستجيب إلا تحت ضغط كبير وضخم، هذا الضغط الكبير والضخم حدث مرتين في تاريخ الجمهورية القصير، في حرب الثماني سنوات التي أهلكت الحرث والزرع، وفي المقاطعة الدولية الشرسة ضد المشروع النووي، عندها فقط نزلت السلطة من «المقدس» (توسيع قاعدة الثورة)، إلى «المدنس» (المفاوضات). «عاصفة الحزم - الأمل» التي أخذت «بالشدة الحكيمة»، عليها أن توطن نفسها على أن هذا الصراع يحتاج إلى صبر ولن تستجيب إيران ولا حوثيوها إلى العقل إلا إلى حدود مدى المدافع في ساحات القتال، فإرضاخ الحوثي هو الهدف الذي يجب السعي إليه بقوة السلاح وبقوة الدبلوماسية معا.
لو عدنا إلى التصريحات الكثيرة من قبل المتنفذين في النظام الإيراني خلال السنوات الأخيرة، لوجدنا أنها مشبعة بأفكار المقدس، وقريبة إلى الغيبية في تفسير الأحداث، مثل القول إن الثورة الإيرانية هي التي فككت الاتحاد السوفياتي! أو إن الخليجيين لم يقدموا على إقامة بنية تحتية في بلادهم وإصلاحات داخلية، إلا بسبب ضغوط الثورة الإيرانية، وإن الثورة الإيرانية سوف تحرر فلسطين، أو تسود كلمتها بين المشرق والمغرب، وهي قناعات تنم عن أن هناك بناء فكريا مترسخا لدى قيادات إيرانية، بأن الثورة الإيرانية هي ثورة لها رسالة مقدسة، قادمة من نائب الإمام المنتظر المعصوم، ولها مضامين خارج قدرة الإنسان على فهمها؛ لأنها مسيرة بقدرة قدسية مكثفة، فقط على الآخرين السمع والطاعة، وتنفيذ ما يصدر إليهم من أوامر! هي في الحقيقة لا تلامس واقع العالم السياسي أو الدبلوماسي، وبالتالي لا نتوقع منها فعل ذلك.
أمام هذا الحائط البعيد عن العقلانية السياسية، الذي استنزف القدرة العربية على التسامح، ليس لأهل الخليج إلا الدفاع عن أنفسهم بالطرق المتاحة، وهي في الحالة اليمنية مزيد من الشركاء اليمنيين، ومزيد من بناء الحواجز العالية بين طهران وصنعاء. فليس أمام الخليجيين إلا القرارات الصعبة، فرهانات السياسة ليست للمترددين، وعلى متخذي القرار الخليجي أن يغادروا المشي على الحبل المشدود بانتظار موقف عقلاني من طهران، ذلك لن يأتي بسهولة. التصريحات الانفعالية القادمة من طهران منذ بدء «عاصفة الحزم - الأمل» تنم عن تفكير أعوج (دعونا نفعل ما نريد في فضائكم العربي؛ لأننا مكلفون من الرب! وأي رد فعل منكم هو عصيان للمشيئة)!
شحنة الطائفية التي تفرزها إيران في الجسم العربي، من الواجب أن تقابلها شحنة مماثلة ومعاكسة، ليس على نفس المستوى، ولكن على مستويات أهم، فإيران بها مكونات مختلفة منها الكردية والتركية والبلوشية والعربية، وهي مكونات في الغالب مضطهدة ومحرومة من حقوق المواطنة، تلك مكونات من الواجب النظر إليها من خلال عمل إعلامي منظم ومخاطبة حقوقها وآمالها، كما يتوجب العمل على فك الارتباط في الذهن العام بين «الشيعة العرب، وطهران»، فليس كثير منهم قابلين للالتحاق بالمشروع الإيراني، لألف سبب وسبب، ولكن علينا أن نعمل بجدية مخلصة لرسم الخطوط الواضحة بين المواطنة ومتطلباتها، والالتحاق بالمشروع الإيراني. الشيعة العرب هم عرب أولاً ومواطنون لبلدان عربية، فيتوجب ألا يتركوا لتعصب أو سوء فهم من البعض للوقوع في يد دولة هم أول من يعرف أنها لا تكن لهم غير الكراهية.
هي معركة طويلة تحملتها القوة العربية صبرًا واحتمالاً في أكثر من مكان، على أمل أن يكون هناك احتمال للعودة إلى التعامل السياسي الذي تفرضه القواعد الدولية، إلا أن ذلك ثبت أنه وهم وصل في بعضه إلى الحماقة، فإيران تسعى إلى تكوين إمبراطورية «مفرطة» على بقعة كبيرة من الوطن العربي. علينا أن نتذكر أن طموح بناء الإمبراطورية ناتج من ضغط داخلي ضخم، فبعد كل هذه السنوات من «الثورة» لم يتحقق للمواطن الإيراني الشيء الذي وعد به، من الحريات والعيش الكريم، وبالتالي، فإن الخطة «ب» لدى النظام هي دغدغة مشاعر المتعصبين للإمبراطورية القادمة، وهي أحد الأوهام الكبرى التي تغذي بها الشعوب الإيرانية، خصوصا الفرس منهم. وعليه، فإنه ليس من المحتمل أن يركن الحوثيون إلى «تفاوض» أو حلول سلمية؛ لأن القرار ليس بيدهم، ولأن مشروعهم كما هو مشروع طهران، يضرب في الغيبيات!
ليس المجال هنا مناقشة ما يخطط الآخرون، المجال الأكثر أهمية هو مناقشة ما نحن فاعلون. لعل الموضوع اليمني الملح هو في العمل على كسر الموجة الإمبراطورية الفارسية، من خلال عمل دؤوب وفعال مع الشرائح اليمنية، والعمل على تحويل القافات الثلاث (القات والفقر والقاعدة) إلى ثلاث تاءات (التنمية، التعليم، التحرر من الأجنبي) والأخيرة تتطلب الإسراع في إنشاء «وكالة التنمية اليمنية - الخليجية» وهي مؤسسة تعمل بطريقة حديثة، وتتوجه إلى الأولويات التي يتطلبها المواطن اليمني، من أجل خلق الظروف المناسبة لوصول نتائج التنمية إلى الناس، ومن خلال توظيف الكفاءات اليمنية، وهي كثيرة، لخدمة وطنهم، أي رسم خريطة طريق بسيطة وواضحة ليمن جديد. لم يعد اليمن هو يمن «الإمامة»، ولن يعود كما يرغب المشروع الحوثي، كما أنه لم يعد يمن الانقلابات والاستحواذ على السلطة، ولن يعود. في النصف الثاني من القرن الماضي نشأ في اليمن قطاع حديث ومتعلم. الحرص على توسيع هذا القطاع، في ظل دولة حديثة، هو الخطوة الأهم للوقوف أمام المشروع التوسعي الإيراني وصاحب العصمة القابع في طهران!
آخر الكلام:
قد لا تتعلم الدول من أخطائها.. إدارة بيل كلينتون وصلت إلى اتفاق مع كوريا الشمالية لوقف إنتاج السلاح النووي، وقدمت الوعود والإغراءات، ثم اكتشفت إدارة بوش لاحقا، أن الكوريين الشماليين قد حصلوا على القنبلة الذرية سرًا، هذا ما كشفته هيلاري كلينتون في مذكراتها «الخيارات الصعبة»، فهل تتكرر الغلطة من إيران؟!