الدهشة التي فرط بها الأوروبيون
بقلم/ د.مروان الغفوري
نشر منذ: 8 سنوات و شهرين و 27 يوماً
الثلاثاء 09 أغسطس-آب 2016 04:48 م
كتب العقيد أوغور جوشكون لمجموعة "واتساب" الخاصة بمديري الانقلاب العسكري "لقد سيطر أفراد الشعب على رجالنا وسحقوهم". كانت الصورة القادمة من المدن التركية تقول أكثر من كلمات جوشكون، فقد انتشرت صورة امرأة في منتصف العمر واقفة في شارع عام وهي تحمل عصا غليظة، كما ألقى شبان بأجسادهم أمام الدبابات، وسحقت دبابات أخرى مجموعات بشرية حاولت إيقافها على الجسور قبل أن توقفها موجة بشرية أخرى.
قبل الموعد المضروب سلفا لإعلان الانقلاب كان الشعب التركي قد سيطر على مجريات الأمور، لم تر صحيفة تايمز البريطانية صبيحة اليوم التالي في ذلك الحدث الجماهيري المهيب أكثر من "مزيد من أسلمة الدولة التركية"، وفقا لافتتاحية الصحيفة.
لم يسبق لشعب أن سبق الأتراك في إبداء عمل جماهيري بطولي على ذلك النحو، لقد استطاعوا احتواء واحد من أكبر الجيوش خلال ساعات بعفوية محضة فاقت بفاعليتها كل التدابير، اختارت صحيفة الغارديان أن تطل على الصورة من جهة بعيدة مختزلة إياها إلى القول إن الأمر انتهى بالحفاظ على دكتاتورية منتخبة.
لم تترك غارديان التباسا لدى القارئ، وراحت تذكره بالتشابه الكبير بين الانقلاب العسكري والدكتاتورية المنتخبة، في تلك الصورة التي أبهرت العالم، الصورة الشعبية العفوية وسيل الجماهير التلقائي قبضت غارديان على احتمال لا يمت بصلة للصورة الحية: مع فشل الانقلاب ها هي الدولة التركية تترنح متجهة نحو واحد من أكثر أشكال الدولة سوءا، وفقا للصحيفة.
من بين عدد متزايد من الصحف لم تتحدث سوى صحف أوروبية قليلة عن الذي كان ممكنا أن يحدث لو نجح الانقلاب، كانت صحيفة "فرانكفورتر روندشاو" أكثر جسارة، فقد طالبت الأوروبيين بأن يكونوا أكثر وضوحا في التعبير عن مواقفهم، فـ"ما يقوم به أردوغان من اعتقالات هو أيضا انقلاب" طبقا للصحيفة الألمانية.
بينما كانت الحكومة التركية تحاول السيطرة على انقلاب عسكري واسع راحت أكثر من صحيفة ألمانية تتحدث عن ضرورة تحويل العملية إلى مرافعة قانونية، اللغة التي تحدثت بها صحيفة كبيرة مثل "فرانكفورتر ألغماينة" عن الكيفية المثلى التي ينبغي اتباعها لأجل السيطرة على انقلاب عسكري تشبه التعليق حول مسألة تهرب ضريبي.
بالنسبة لافتتاحية تايمز، فإن أردوغان هو "الشيطان" كما يقول عنوان الافتتاحية. ومن جنوب ألمانيا قالت الصحيفة الكبرى "فرانكفورتر ألغماينة" إنه يجب "عدم التسامح مع ضلالات أردوغان". لم تكن الحكومة التركية قد سيطرت على الانقلاب بعد، لكن الرئيس التركي بدا في واجهات عدد متزايد من الصحف الأوروبية "شيطانا" حتى وهو لا يزال تحت حصار عسكري.
بعد أقل من ربع قرن بدا واضحا أن الديمقراطية التركية صارت أكثر ثباتا من "التجربة الانقلابية" التي تقترب خبرتها من قرن من الزمن كما يذهب مصطفى اللباد في حديثه إلى "قنطرة". لم تكن التجربة الديمقراطية سوى منتج جماعي، قيمتها الجمالية الكلية تخص الأمة التركية برمتها.
وفي الـ15 من يوليو/تموز الماضي تجلت الديمقراطية التركية في صورتها الأفلاطونية التاريخية بوصفها "دكتاتورية العامة"، إذ بدا في الصورة إنسان غير متعين يخرج إلى الشوارع ويلقي القبض على كل من داهم خياراته ليلا.
اللغة التي استخدمها الرئيس التركي السابق عبد الله غل في خطابه إلى الجماهير عبرت عن الوضع التركي الحالي، وعلى الصعيد الشعبي تركيا ليست الدولة التي يمكن أن تختطف بمداهمة ليلية، وقبل أن يحل الفجر أثبتت تركيا دقة الكلمة التي قالها أحد رجال أردوغان "لسنا جمهورية موز"، ولم يكن الشعب التركي واحدا من شعوب جمهوريات الموز، فقد كان يعرف جيدا ما الذي يريده.
قال عدد ملحوظ من الصحف الأوروبية إن تركيا عليها أن تفقد الأمل في مسألة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، في معرض تعليقها حول فشل الانقلاب، بينما نال انقلاب عسكري قام به "ثاني أكبر جيش في الناتو" عنفا أقل من ذلك الذي نالته الحكومة التي احتوت الانقلاب.
فلت صحيفة ليبراسيون النظر إلى بيان الانقلاب بوصفه مستوحى من مبادئ أتاتورك، مفسحة المجال لوزير خارجيتها الذي أبدى اهتماما بمستقبل رجال الانقلاب من دون أن يبدي أي احتفاء من أي درجة ببطولة شعب ديمقراطي. على الضفة الأخرى، وقفت الديلي تلغراف بصرامة قائلة: لم يكن عبثا أن يعلن الانقلابيون في بيانهم أنهم عازمون على استعادة الديمقراطية.
لقد فوت الأوروبيون لحظة نادرة من الدهشة، اللحظة التي خرج فيها شعب بكل تنويعاته وأوقف واحدا من أكبر جيوش حلف شمال الأطلسي، وحمى حقه المدني وحقه في الاختيار.
لفت انتباهي -ككاتب- أن بطولة الأمة التركية -البطولة الجماعية التاريخية- لم تدخل دائرة الضوء في الكتابة والإعلام الأوروبي، ثمة استنتاج كان ممكنا التوصل إليه لكن ذلك لم يحدث، فالأمة التي استطاعت أن توقف جيشا كبيرا وتمنعه من اختطاف الدولة لا بد من أنها أمة قادرة على حماية خياراتها، بما في ذلك حراسة الديمقراطية نفسها.
لا بد من أن رجب طيب أردوغان أقل بأسا من الجيش التركي، وأن الأمة قادرة على أن تمنع الأول من اختطاف ديمقراطيتها كما منعت الثاني. شوهدت الأمة التركية وهي تتحرك حركة موجية عالية وتعيد وضع الأمور في نصابها، إنها أمة ناضجة كما تقول رسالتها منتصف يوليو/تموز، أدركت من خبرتها الواسعة مع الانقلابات -كما تجربتها بين الشرق والغرب- أنها تسير الآن في طريق هو الأكثر أمانا، وأنها ستواصل الطريق ذاته وستدفع أثمانا مقابل ذلك.
 ذب وزير الخارجية الألمانية شتاينماير إلى القول إن ما حدث في تركيا كان "إيقاظا للديمقراطية التركية"، مشيرا إلى حركة الجيش. إن كان ما حدث إيقاظا للديمقراطية فقد وقع ذلك على يد الجماهير التركية لا بسبب حركة الجيش.
فالسالة التي وصلت من القوات المسلحة التركية سرعان ما ذهبت أدراج الرياح، وسيصبح عمليا من الصعب على الجيش التركي أن يقوم بمحاولة انقلاب أخرى مستقبلا، لا معنى للإيقاظ هنا بل يمكن عد الأمر "هبة من الله لأردوغان" كما تعتقد واحدة من الصحف الكبرى في فرانكفورت.
يمكننا القول إن ما حدث كان بالفعل إيقاظا للديمقراطية قام به الشعب التركي، فقد أثبت قدرة استثنائية على حراسة إرادته الجماعية لا الجيش التركي.
احتفل الشعب التركي بانتصاره، وصار بمقدوره أن يقول لرئيسه -الذي لا يفتأ يذكره بصنائعه- لقد رأيت حدود قدرتنا. كنتُ من الذين سحرتهم تلك الساعات، ساعات البطل الشائع، الهامشي الذي حرر الملك، والرجال الذين عطلوا بقمصانهم حركة الدبابات، والعمال المجهولين الذين قادوا سيارات الإطفاء إلى مدارج الطيران الحربي، والأئمة المتصوفين الذين فتحوا ميكرفونات مساجدهم منتصف الـ15 من يوليو/تموز، وعشاق ميدان تقسيم الذين توقفوا عن تبادل الكلام السائل وذهبوا إلى الكتائب العسكرية الزاحفة وواجهوها صارخين: عودوا إلى منازلكم. كانت لحظة تاريخية شديدة الكثافة، عالية التوتر، ذات شد درامي نادر المثيل، خسر الأوروبيون فرصة الانفعال بها وفاتتهم.