- في تعز اليمنية ، شارع قديم إسمه 26 سبتمبر كناية عن ثورة الضباط الأحرار على الحكم الإمامي في العام 1962م ، بعد إلتئام شطر اليمنين إلى يمن واحد ، صار إسمه شارع الحب ، لكثرة العشاق الذين يرتادونه ، يسمعون كل شيء يبعث على البهجة ، تلك كانت لغة الحياة في ثمانينيات القرن الماضي ، حيث الحلم الجميل يتقدم بأغانٍ انيقة وطربية ، ينضح الحب من أسوارها ، وتتقدم الورود والأزهار العبقة قبل رجال القبيلة ، تختصر العناوين أكثر ما يمكن افتداءه من حب الوطن ، وعلو المصابيح ، ورونق السعادة ، تخلت اليمن عن كل أيام الكآبة ، وتقدم الحلم الوطني بعناق الأشقاء في أكثر ملاحم الحب أسطورية وفداءً وتضحية ، رُفع العلم الجديد من عدن ، وخرجت اليمن ترقص ، خرجت النسوة والأطفال والرجال والشيوخ ، خرج الطلبة والأطباء ، تدافعت الفتيات إلى الشوارع وإلى الجنوب الذي صار بعضاً مِـنا ، بحثن عن وجه آخر لجنة عدن ، كنت صغيراً والوحدة تكبر ، علي عبدالله صالح يعانق البيض ، شارب الأخير الكث علامة مميزة للكنة الجنوبي الحضرمي ، الصحف كلها تقول أن اليمن يفاجئ العالم بوحدته ، وأمله الإستراتيجي يدفع العرب نحو المعرفة البصيرة بجماليات الحب ، والسمو ، والتفاؤل ، وكأي حورية مليحة خرجت اليمن إلى اليابسة ، تقرأ فنجانها ، وعبدالحليم حافظ يغني رائعته التي لم يسمعها الكثيرين ممن خلقوا بعد الوحدة ، يقول بأنغام لا مثيل لها ، وألحاناً اقتطعت من سحاب الله ، ومن مقام النهاوند ، يشدو كمن لم يتعثر بشيء ، ينساب صوته الصافي كشلالات بني مطر ، ويذهب مع أمواج المخا الهادرة إلى العمق ، يغوص في عمق البحر العربي ، ويرشدنا بأنه لم يعرف أبداً أحزاناً تشبه أحزاننا ، وقد حدث ذلك بعد أربعة أعوام من الوحدة ، كان القتال السبب الوحيد للمعركة ، الرغبة الجوفاء في النيل من اليمن الشمالي ، دفعت الإماميين إلى اختلاق قصة العداء بين أطراف العمل السياسي الجديد ، من يومها ونحن نتغذى على خيارات الوحدة أو الموت !.
- يعود حليم بالناي وتقاطيع وجه محمد الموجي ، وكلمات نزار قباني في رسالة لولده بتأكيد بقاء الحب كأحلى الأقدار ، يا إلهي ، حين ينتهي من آخر امتدادات القدر ، كيف يتغلغل اللحن في الدم ، يصل إلى القلب بلون الورد ، وببهجة العطر ، تشعر أن ما يجري في عروقه هو الرحيق الباريسي الفخم ، ويثور كل شيء حين تقتحم المرأة جزء القصيدة المذهل ، يُـسبّح "حليم" ربه ، ويستمر في وصف معشوقة السحر والسلام ، لو أن الحوثيين استمعوا لمثل هذه الأغاني ما رفعوا بندقية واحدة في صدورنا ، ولكان مؤتمر الحوار الوطني الذي عـُـقد قبل عامين في فندق "موفنبيك" بالعاصمة المحتلة صنعاء فرصة لممارسة الحب العلني ، إلا أن كل أعضاءه لم يكونوا سوى امتداد آخر لهمجية الشارع الذي يمور بالفوضى والزوامل القبلية وقصائد الثأر ، ولطميات أنصار الحوثي ، كان كل شيء مشحون في الصدور والنفوس ، وانتهى الأمر إلى أن صار الحب أطلالاً كما هو الحال في شارع تعز الشهير .
- اجعلوني رئيساً ، وقفوا احتراماً لكل تلك القرارات التي سأكتبها ، سألغي الجيش ، وانثر النساء الاسكندنافيات في كل الشوارع لضبط الأمن العام ، سأنصب صوامعاً طويلة وأثبت عليها مكبرات الصوت العملاقة لنقل أغاني عبدالحليم حافظ ، وسيلين ديون ، شاكيرا ومحمد عبدالوهاب ، سأمنع اللباس التقليدي ، لا جنبية لا زوامل ، لا سلاح ، لا ثياب ، لا أزياء رسمية ، أغنية نانسي عجرم : لون عيونك .. نشيدنا الوطني الجديد ، عند رأس كل شهر سأجعل الساحات العامة أماكناً للرقص ، والغناء ، وقصائد الغزل ، كل أعضاء حكومتي نساء جميلات من نيوزلندا ، سأنظم مسابقات لملكات الجمال ، وأمنع أي اعتراض يرفعه رجال الدين الذين سأشنقهم كلهم ، بلا استثناء ، سألغي كل مواد الدين والمذاهب وكتب التاريخ الإسلامي التراثي ، سأطبع الكثير من دواوين العصر الجاهلي ، وقصائد يزيد بن معاوية ، واقيم مدارس تحفيظ الغناء ، والفن ، سأجعل اللون الوردي منتشراً في كل مكان ، سأنثر العاطفة والحياة ، سأغني معكم كل الأغنيات ، ولن اسمح بأي اعتراض ، سأمارس ديكتاتورية الحب ، وغيرة الوطن .
- كل الذي تعلمناه وحفظناه منذ ألف عام لم يقدم لنا شيئاً سوى الكوارث والدماء ، كل النصوص التي نعتقد بقدسيتها ، جلبت لنا الحمقى والمقاتلين ، ستكون اليمن شيئاً آخر حين يغزوها الحب والقصيدة والغزل ، حين تترجم العاطفة سيختفي الإحتقان ، ظمأ القلوب أورث جفافاً قاسياً في كل شيء ، حتى الأبوة صارت مفقودة ، ذلك المعتوه من "بني حشيش" يقول لسيده الحوثي أنه سيقدم أولاده الستة قرباناً لعبوديته الأسيرة ، هذا هو الخلل المزمن في علاقتنا بالحب والسلام ، واعتباره عيباً يجرح الرجولة الموبوءة .
- أنا أقرأ الفنجان مع عبدالحليم حافظ في مساء يجمعنا معاً ، وقد انتهيت إلى ما أنتهى إليه في خاتمة معزوفته الشهيرة ، أن فاقد الحب مفقود .. مفقود .. مفقود .
- .. وإلى لقاء يتجدد .