الأحداث الوطنية بطبيعتها تنتج مواقف، وتفرز شخصيات جديدة تكون محركا فاعلا فيها وموجها لمساراتها، فتنشغل بها الالسن والأقلام مدحاً وقدحاً، وتكون سيرتها جزءاً من الحياة اليومية العامة.
ولم تفرز ثورة التغيير في بلادنا شخصيات سياسية جديدة، بالقدر الذي كررت إنتاج القديم ليصبح في بعضه جديداً، فكانت رموز وقادة الاشتراكي والإصلاح والمؤتمر وجبهة التحرير تعيد إنتاج نفسها، ولكن بالطرق التقليدية المعهودة والمتعارف عليها.
غير أن الجديد الذي أفرزته الأحداث ودفعت به بقوة إلى الواجهة هو اللواء علي محسن الأحمر، فلم تشهد ثورة التغيير في بلادنا لغطاً كبيراً وشداً وجذباً حول شخصية عسكرية وسياسية كما شهدته حوله، بكونه شخصية عُرفت بقدرتها على تحريك الأحداث السياسية والعامة بدهاء وحكمة ومن وراء الكواليس، وبصفته كقائد عسكري ميداني برز بمواقف استثنائية متميزة لم يجارِه أحد فيها، وبصفته السياسية كرئيس للهيئة العليا لأنصار الثورة الشبابية الشعبية السلمية، التي جمع فيها العسكري بالسياسي والقبلي بالمدني، فشكّل التناغم المتمازج الذي يجمع بين المتناقضات.
فكما كان الرجل هو الشخصية الأقوى في النظام السابق، أصبح في ظل ثورة التغيير شخصية محورية، لا يمكن تجاوزها، فهو الى جانب كونه عسكريا قويا ومنضبطا، هو شخصية توافقية عامة بين قادة العمل السياسي، يقف على مسافة واحدة من الجميع، ويمسك بخيوط القبيلة، ولكن في إطار تمسكه بالنظام والدولة، ويحتفظ بعلاقات قوية اقليمية ودولية، ولذلك نجد الجميع يتقاطرون اليه، وطنيين وأجانب، أخوة وأصدقاء، ذلك لأنه – شئنا أم أبينا - يمسك بخيوط اللعبة، ويمثل جزءاً من الحقيقة اليمنية القائمة.
أنا هنا لا أنزه اللواء علي محسن من الأخطاء، فهو بشر يخطئ ويصيب، وكما له مزايا له مثالب وأخطاء أيضاً، ولا أُجمِّل مواقفه بغرض التزلف أو التقرب، فأنا أعرفه منذ أكثر من عشرين عاماً، ميزته الأكثر شيوعا وفهما أنه رجل دولة يجيد الاستماع للآخرين، ويميز ما بين الغث والسمين، ولا يدعي علما ومعرفة بكل شيء، ففيه شيء من حكمة وتواضع.
فما أثار انتباهي، ودفعني للكتابة في هذا الموضوع، هو الهجوم الإعلامي والسياسي المبالغ فيه وغير المبرر، والذي بعضه تجرد - فعلا - من أدب الخصومة والاختلاف، كما فعل ويفعل بعض المخالفين لعلي محسن، وتفعل أطراف سياسية وحزبية موتورة من علي محسن لسبب أو لآخر، عظم شأنه أو صغر، فنحن في مرحلة يفترض أن نهييء فيها للحوار، وليس للمناكفة والفجور في الخصومة، وهنا، لن أسمي أحداً حتى لا أقع في ذات الأخطاء التي وقع فيها هؤلاء.
فلمجرد أن الرجل لم يكذب، وكان صادقاً وأميناً مع نفسه ومع وطنه قال في حديثه للشرق الأوسط:
"ضميري وديني ووطني لا يشجعونني على
ترك العمل والخلود للراحة، واليمن على هذا القدر الكبير
من الخطورة والتأزم وعدم الاستقرار، فذلك سيكون خذلانا سحيقا لليمن".
وهذا الكلام الذي صرح به اللواء للشرق الأوسط، هو كلام ينطوي على منطق، ولا تنقصه الصراحة، والجرأة والوضوح، فليس فيه مراوغة، ولا تلاعب بالألفاظ والعبارات، ولا تراجع أيضا عما قاله في السابق عن ترك منصبه اذا ما طلب منه ذلك، لكنه بالتأكيد - كان مفزعا وقويا، بل وكان صاعقا لمن هم مشغولون ببقاء "علي محسن" في منصبه أو خروجه ، وليس بالوطن وقضاياه
وهو ما دفعهم وبتهور لإشهار سيوف الإساءة والتجريح للرجل، مع أنه بمواقفه السابقة لما وصلنا اليه، أعني برفضه من موقعه - لسفك الدماء، وبانضمامه السلمي لثورة الشباب في 21 مارس 2011م، سجل تحولاً فارقا في العمل السياسي والعسكري، وبانحيازه لإرادة التغيير ضرب النظام السابق في الخاصرة، وأصابه بمقتل، وبذلك فعل الشيء الكثير للوطن.
ماذا فعل ؟!!
حقن دماء اليمنيين، وجنب اليمن وضعاً كان يمكن أن يكون أكثر مأساوية وكارثية مما جرى ويجري بسوريا وشعبها على مدى عامين كاملين من الدم والدمار.. حيث الدماء لا تزال تنزف، والأرض لا تزال تنهار.
سرّع بالقبول بالمبادرة الخليجية، وأجبر النظام السابق على القبول بانتقال السلطة سلميا بالتوقيع على المبادرة الخليجية.
وفر الحماية الكاملة – ولا يزال - للمعارضة ورموزها، سياسية وقبلية، حين كان يمكن أن تكون لقمة سائغة وسهلة بيد قوات النظام.
جنب - بصورة أو بأخرى - رموز النظام السابق من نهاية كارثية، لم تكن بأقل مأساوية مما حدث بمصر وليبيا، وتونس.
حمى ساحات الحرية والتغيير في صنعاء وعدن وتعز، وكل المحافظات من الاعتداءات المسلحة والحرق والتجريف التي كانت تتهددها ليل نهار.
اسهم بصورة كبيرة في الحفاظ على مسيرة سلسة في الانتقال السلمي للسلطة.
حافظ على رابطة جأشه، وفضل بصبر وهدوء أن يتلقف الضربات الصاروخية وقذائف المدفعية حيث يرابط في فرقته، على أن ينجر الى تفجير الوضع وإسالة مزيد من الدماء، والدخول في مواجهة كانت المدخل الحقيقي لحرب أهلية مدمرة.
وإذن، فعلي محسن، هذا الرجل، القائد العسكري، الذي توجه اليه سهام التجريح والشتيمة، وكيل التهم بالحق والباطل، هو قائد يخدم أجندة وطنية، ولا يخدم أجندة خارجية أو حزبية، بدليل أنه أسهم ويسهم بصورة فاعلة وكبيرة في حقن الدم اليمني، وجنب اليمن السير الى المصير المجهول، وبدليل أن معظم وسائل إعلام مشترك "سلطة المعارضة" من اشتراكي إلى إصلاح وحق وبعث وباطل، التي - غالبا- ما يحسب اللواء عليها، لا تتردد، بل لا تتورع في النيل منه والإساءة اليه، ولعل في هذه الحيثية مصداقا ودليل عافية، وهو ما يدعو المحايدين والمنصفين - على الأقل - الى التأني والتريث في إصدار الاحكام ضد هذا أو ذاك، والبحث عما ينفع الوطن ويفيد مستقبل أبنائه.
وأعتقد أنه لا يستطيع أحد أن ينكر أن اليمن – اليوم - لا يزال في مهب الريح، والمؤشرات لا تزال تنذر بالعودة الى المربع الأول، فمخطط التشظي والانقسام يمضي على قدم، وشيوخ الطوائف والأقاليم تنتظر مملكاتها، وإيران والخارج الإقليمي يريدان أن يجعلا من اليمن ساحة لصراعاتهما على أجساد ودماء اليمنيين، والقاعدة تغرد في وادي الموت على دماء الأبرياء.
وهو ما يدفعنا للقول بأن الوطن لا يزال على مسافة بعيدة من أحلامنا الجميلة في بناء الدولة المدنية الحديثة، وبالتالي فثورة التغيير لم تنتصر بعد، و"التتار" لا يزالون في كر وفر يتنازعون السيطرة عليها، أي أن المهمة لم تنته بعد، واللحظة لا تزال أيضا بحاجة الى الكفاءات الوطنية، حتى وإن اختلفنا معها.
ومن هنا، فضمائرنا وديننا ووطننا ، يجب أن لا تدعو علي محسن وحده للتفكير بوضع وحال البلاد، وإنما يجب أن تدعونا جميعا لأن نفكر كثيراً بعقولنا وليس بعواطفنا فيما تعيشه اليمن من خطورة وتأزم، وبالتالي هي بحاجة الى كل الخبرات الوطنية، وفي كل المجالات، فضلا عن حاجتها الى خبرة اللواء علي محسن الاحمر، كقائد عسكري وسياسي خبر السهل والجبل، ولا يزال يتمتع بحكمة وصبر، وعلاقات لا بد أن توظف جميعا لخدمة هذا المستقبل الذي نرنو اليه.