|
يتحدث الأصوليون المسلمون عن الفوارق بين «مقاصد الشريعة»، و»أحكام الفقه». المقاصد هي مناط الأحكام، وهي التي لأجل تحقيقها شُرعت الأحكام، وهي الأصول الثابتة، فيما الأحكام تدور حول مناطاتها التي تدور حول المقاصد العليا للشريعة حسب تأكيدات علماء الأصول.
وقد عني «أصول الفقه» بمعرفة القواعد التي على أساسها تستنبط الأحكام، وأنتجت العقلية المسلمة تراثاً قانونياً ومنطقياً مدهشاً في هذا الخصوص. يتحدث الأصوليون عن «المقاصد الكبرى» في الشريعة، وهي حفظ «النفس والحياة والمال وغيرها، وهناك مقاصد أخرى تندرج تحت العناوين الرئيسية الكبرى، وكل تلك المقاصد كانت السبب وراء تشريع الأحكام التي يمكن أن تتغير فتاواها، حسب الزمان والمكان، كما يؤكد أهل الأصول.
لست فقيها في الشريعة، ولا أنا على اطلاع على الدقائق العجيبة التي قرأت عن بعضها، والتي تحدث عنها أئمة كبار في الفقه الإسلامي، قبل أن تأتي على المسلمين سنون عجاف فكرياً وروحياً، غير أن المتأمل يقف مندهشاً أمام انطلاق «العقل المسلم» أمس في سموات المقاصد لفهم الأحكام، والتعامل معها، فيما انحبس «العقل المسلم» اليوم في «ظواهر الأحكام» التي ابتعد بها كثيراً عن مقاصد الشريعة. يُروى أن أحد خلفاء الأندلس المسلمين أقسم على أمر فحنث في اليمين، فأراد الكفارة، فسأل قاضي القضاة، فقال له – في فتوى – عليك أن تصوم ثلاثة أيام. اعترض الخليفة لأن ترتيب كفارة اليمين حسب القرآن يحتم صيام ثلاثة أيام لمن لا يستطيع إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، حسب الآية: «فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون «. فجاء الرد من قاضي القضاة على الخليفة بأنه لن يضر «أمير المؤمنين» أن يطعم عشرة مساكين، أو يكسوهم، أو يحرر رقبة، ولكنه سيشعر بعناء الكفارة لو صام أياماً ثلاثة، وهذا هو «المقصد وراء تشريع كفارة اليمين».
لم يعترض الخليفة، ولا اعترض أحد بفتوى مخالفة، على الرغم من أن الفتوى واضحة في مخالفتها لترتيب كفارات اليمين، حسب النص القرآني أعلاه.
لم يعترض أحد، لأن العقلية المسلمة حينها كانت عقلية «اجتهادية» مبدعة، تقرأ – إلى جانب النصوص – ما وراء النصوص من مقاصد، ومعانٍ دقيقة. هي العقلية ذاتها التي أوقف بها عمر بن الخطاب «حد السرقة» في «عام الرمادة»، والتي أوقف بموجبها «سهم المؤلفة قلوبهم»، الذي أجراه النبي الكريم على حفنة من الأعراب في فترة من الفترات محدودة ليكسب قلوبهم، ولكي يكسر شوكتهم، في اتباع للآية «إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم». ولكن هؤلاء «المؤلفة قلوبهم» ظلوا يسترزقون من هذا السهم على حساب أقوات المسلمين، إلى أن أوقف عمر بعقليته الاجتهادية الفذة عطاياهم، معللاً ذلك بأن الله «قد أعز الإسلام والمسلمين»، ولم يعد من الممكن ابتزازهم من قبل حفنة من المنتفعين، الذين لم يعد «سهم المؤلفة قلوبهم» أصلاً ينطبق عليهم.
ولعله من المناسب أن نشير هنا إلى أن «سهم الخمس» الموجود حتى هذه اللحظة في بعض المذاهب الإسلامية، الذي كان خاصاً بالنبي الكريم وقرابته في ذلك العهد، حسب الآية «وَاعلموا أنما غنمتمْ منْ شيءٍ فأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السَّبيل إن كنتم آمنتم باللَّه وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان واللَه على كل شيءٍ قدير». هذا السهم أشبه بـ»سهم المؤلفة قلوبهم»، من ناحية ارتباطه بالظروف الزمنية المحايثة له، ومن ناحية الآثار المترتبة على استمراره بهذه الكيفية التي أنشات طبقة من رجال الدين المتخمين دينياً ومالياً بحجة الانتماء للبيت النبوي، ما أدى إلى تراكم أموال المسلمين لدى طبقة فاسدة راكمت السلطة والثروة اليوم تحت هذا المُسمى، مع العلم أنه لا قرابة بعد مدة زمنية فاقت الأربعة عشر قرناً، إلا قرابة الاتباع، ولا انتساب إلا ما خص الانتساب الفكري والروحي لنبي الإسلام.
وعليه، يبدو للباحث في أزمة «العقل المسلم» اليوم أنها تنتمي إلى ذلك النوع من الأزمات التي تعصف بالعقول عندما تبالغ في تقديس تراثها إلى درجة تحريم الاقتراب منه، لفهمه الفهم الذي يجعله تراثاً حاضراً يمكن توظيفه التوظيف الأمثل في حاضر المسلمين. إن المبالغة في تقديس التراث اليوم جعل بين المسلمين وبين هذا التراث حاجزاً كبيراً أفقدهم ميزة التواصل مع التراث، وإعادة قراءته القراءة التي لا تخل بأصول هذا التراث، ولا تعتسفه، وفي الوقت ذاته لا تجعل هذا التراث ماضوياً لا يحفز المسلمين على صنع حاضرهم ومستقبلهم.
هذه الإشكالية هي التي جعلت الكثير من الأصوات من داخل المسلمين ومن خارجهم ترتفع لتقول بأن «موروث المسلمين الديني» هو السبب في عدم اندماجهم ضمن المجتمعات المعاصرة، فيما الواقع أن أصل الخلل في «العقل المسلم»، الذي بالغ اليوم في خوفه من الاقتراب من تخوم النصوص، ناهيك عن الالتحام بها لتشرب مقاصدها العليا التي كان يمكن أن تساعد هذا العقل على الالتحام بالتراث من ناحية والالتحام بروح العصر من ناحية ثانية. وباختصار، يحتاج المسلمون اليوم إلى استلهام مقاصد الإسلام الكبرى في حياتهم، وفهم أحكامه في ضوء هذه المقاصد النبيلة، وهذا يعني أن المسلمين اليوم معنيون بالتركيز على العناوين العريضة في تراثهم، وفهم التفاصيل في ضوء هذه العناوين.
إن قراءة العنوان الرئيس للكتاب ليست مهمة لفهم العناوين الفرعية وحسب، ولكنها أكثر أهمية لإنتاج عناوين فرعية جديدة، خاصة لزمن مختلف ومكان مختلف. ولهذا وعلى اعتبار أن الإسلام كتاب ضخم، فإنه مهم للمسلمين اليوم التركيز على العنوان الرئيس لهذا الكتاب لفهم تفاصيله الكثيرة، والتحرك بحرية ضمن إطار العنوان، بعيداً عن «ظواهر التفاصيل» للالتحام بالمقصد الأكبر للعنوان الرئيس في هذا الكتاب الخالد.
في الخميس 29 سبتمبر-أيلول 2016 04:37:13 م