البردوني .. كاتب الملحمة السبئية والتغريبة اليمانية
بقلم/ عبدالعزيز الزراعي
نشر منذ: 11 سنة و 3 أشهر و 21 يوماً
الثلاثاء 03 سبتمبر-أيلول 2013 11:58 ص
قلة هم أولئك الشعراء الذين بفطنون إلى كتابة تغريبات أوطانهم، ويستطيعون الإمساك بالخيط الجامع بين فصول تاريخ أجيالهم الضارب في القدم، أولئك الشعراء الذين يمتلكون حساسية مفرطة ووعيا عميقا بمكوناتهم الحضارية العميقة بالثابت والمتحول فيها، القادرون على خلق تواصل وتثاقف بين ماضيهم وحاضرهم، وخلق وعي جمعي مشترك بين الأسلاف والأخلاف لتكوين الهوية القومية لمجتمعهم..
قلة هم أولئك الشعراء.. ولكن لا تخلو أمة عريقة منهم، لأن الأمم العريقة، وإن شهدت ترديا في بعض حقبها، يظل وعيها الجمعي متخثرا في أساطيرها وحكاياتها ولغتها وموروثها الثقافي والشعبي إلى أن تستأنف إنجاب كاتب عظيم يعيد خلقها وحوارها واستنطاقها مخرجا من بين رمادها ذلك الجمر المتقد.
هكذا أنجبت اليمن في عصور ظلامها البردوني شاعرا عظيما يروي ملحمتها ويجمع وعيها المتناثر في صحائف التاريخ ومتون الفقه والسير وأساطير العامة والحكايات الشعبية، ويخلق وعيا جمعيا لأبناء سبأ وحمير، ويؤرخ شعريا لليمن ومأساته وحلم أبنائه وطموحاتهم وحوافر خيولهم وحفرياتهم عبر الزمن، مستنطقا أحجاره وأشجاره وأماكنه عن تاريخ لم تبح به السير:
ماذا يُسِرُّ لسفح الربوة الحجرُ
هاتيك تعطس تاريخا وفنقلةً
هل تجرحين شذا التاريخ؟ أي شذا
في جبهتي من علي الفضل عشر حصى
أنات بكر غصون فوق جمجمتي
وما الذي فيك من(باذان)؟ أين غفا؟
ها أنت تنصبُّ تاريخا له عبق
 كأن كل حصاة هاهنا خبرُ
وتلك تلعن من جاؤوا ومن عبروا
هذا الصفا حميرٌ هذا الصفا مضرُ
ومن تجاعيد أروى في يدي حفرُ
حنين عبد يغوث في دمي سقرُ
لعله ذلك الينبوت والصبرُ
ثانٍ يعاكس ما خطوا وما نشروا
إنه البردوني شاعر اليمن العظيم، وأيقونتها الخالدة.. إنه عراف اليمن والمخرج السينمائي الأول لفلم اليمن الحضاري الطويل والتراجيدي، وكاتب فصول مأساته الكبرى، ذلك الفلم الذي استخدم فيه الردوني كل تقنيات الدراما في صراع وجودي يتداخل فيه الواقعي والسريالي والتاريخي والأسطوري والرومنسية الحالمة، وذاك دأب كل عظيم في نقل وتجسيد حضارة أمته وأزمتها الوجودية، فكما أخرج هوميروس ملحمة اليونان في إلياذته وألهم جميع كتاب السينما بعده، وكما أخرج نجيب محفوظ ملحمة مصر في ثلاثياته، وأخرج درويش تغربة الفلسطينيين وملحمة المقاومة، أخرج البردوني ملحمة اليمن الحضارية وتغريبته في تاريخه الطويل وحزنه الكثيف.. تغريبته بكل تجلياتها التاريخية والمعاصرة فرحا وانكسارا، وثورة واغترابا وتشردا وحنينا:
أنا ابن من ولدوا سرا، وكي يثقوا
كانت تصارع نفسي نفسها وأنا
وكنتُ أسردُ عن بلقيس أغنية
هذي الدراما من الأحجار أحرفها

       ماتوا وما شهقوا كالناس أو سعلوا
عنها بتاريخ هذا الصمت منشغلُ
مداد من كتبوها العطرُ والعسلُ
ومن نقيق الغبار الدورُ والبطلُ

إن المتأمل في شعر البردوني يجد محاولة جادة وواعية لا ستنطاق كل رموز اليمن التاريخية، وكل ملامحه الإنسانية والوجودية المتمثلة في أعلامه وأماكنه، وثقافته المحكية، مستنهضا وعي أبنائه بذلك التاريخ:
أمثُّ بعرقٍ إلى ذي نواس
وعرق إلى جدتي من هذيل
عصبتُ جبيني بنار البروق
وفي كل وادٍ تدفقتُ سيل
صهيلٌ دمي، وصليلٌ فمي
لأن جدودي سيوفٌ وخيل
لقد وعى البردوني تاريخ اليمن، وتتبع كل حقبه وأدواره التي قام بها، وخرج من كل ذلك بصورة وتاريخ لم تقله لنا السير ولا مرويات الحكام الغزاة والمستغلين لخيرات اليمنييين وطيبتهم، خرج بصورة فحواها ذلك الحضور التاريخي الإيجابي لليماني العصامي النبيل الذي قوبل بالنكران والتغريب والحرمان.. ذلك اليماني الذي تسلق الآخرون على أكتافه مستغلين طيبته وكرمه وشجاعته، مصورا رحلة هذا الشعب السبئي وحضوره الإيجابي في مقابل تهميشه عبر التاريخ، بدءا بانهيار سده ومسلسل الهجرات والمنافي الذي كان قدره الدائم.. مستعرضا محنة اليمانيين بحكام حاولوا مسخ هويته بالجهل والتدين الأعمى والسلالية المقيته.. واقفا عند دور اليمانيين الريادي في الإسلام وتهميش قريش لهم، وتآمر السقيفة عليهم.. معرجا على تهميش قادة الفتوحات الإسلامية اليمانيين:
يا رؤى الليل يا عيون الظهيرة
هل رأيتن موطني والعشيرة
هل رأيتن يحصبا أو عسيرا
كان عندي هناك أهلٌ وجيرة
يارؤى.. يا نجوم.. أين بلادي؟
لي بلادٌ كانت بشبه الجزيرة
أخبروا أنها تجلت عروسا
وامتطت هدهدا، وطارت أميرة
وارتدى الفأر ناهديها، وأشتت
هجرة المنحنى خطاها الأخيرة
ورووا أشأمت على غير قصد
ثم أمست على دمشق أميرة
فرأوها وصيفة عند روما
وراوها في باب كسرى حقيرة
نزلت يثربا هشيما فكانت
بالعناقيد والرفيف بشيرة
ومصلى وخندقا وحصونا
ونبيا وسورة مستطيرة
فانتضت في يد السقيفة سعدا
أكبر القوم للأمور الكبيرة
يا قريش اذكري نمتنا جميعا
صحبة سمحة وقربى أثيرة
أنت أمارة.. أنا.. ثم قالوا:
سكتت قبل أن تقول: وزيرة
وجهها غاص في غبار المرايا
واسمها ضاع في الأماسي الغفيرة
من رآني خضت الفتوحات، لكن
عدت منها إحدى السبايا الطريرة
....
هكذا أخبروا، لأن بلادي
خنجر الآخرين وهي العقيرة
رحل النبع من جذوري فهيا
يا هشيم الغصون نتبع خريره
هكذا ما جرى، لأن بلادي
ثروة الآخرين وهي الفقيرة
لقد وقف البردوني كثيرا عند المثنى بن حارثة، وكتب تحولات يزيد بن مفرغ الحميري الذي أهانه معاوية، ووقف عند وضاح وانتصر له من الوليد، ووقف عند عبد يغوث الحميري واقتص له من الشيخة العبشمية، ووقف عن زيد الوصابي وعند ابن علوان والدودحية وأصغى لكل الشعب اليمني زانتصر له من حكامه أئمته الطغاة الجهلة، وصور صراع اليمانيين السياسي معريا الوصوليين وعملاء الخارج، ومقاوما كل تدخل لقوى التخلف، وحمل وحده ضخرة اليمانيين السيزيفية:
من أنت يا ذاك؟ من لو شم من كندا
صنعا، لأورق فيه البنُ والقاتُ
(سيزيفُ) ناء بصخر واحد وأنا
صخري جدار حديديٌ وغاباتُ
السندبادُ امتطى ظهر البحور.. أنا
تأتي وتمضي على صدري المحيطاتُ
منحازا في كل ذلك إلى اليماني الأصيل العامل والفلاح.. كان بطله هو ذلك اليمني الوطني الهامشي ولكنه الجوهري في بناء حضارة اليمن قديما وحديثا، إنه مصطفى.. ذلك الذي شاد حضارات الآخرين وظل مضيئا في كل حقبه رغم كثافة الليل:
يقولون قبل النجوم ابتديتْ
تضيء وتجتاز لولا وليتْ
وكنت ضحى مأرب فاستحلتَ
لكل بعيدٍ سراجا وزيتْ
يقولون كنت وكنت وكنتَ
وفي ضحوة العمر أصبحت ميتْ
ولم يبق منك على ما حكوا
سوى عبرةٍ وبقايا صويت
ونونية شبَّها دعبلٌ
وأصداء بائية للكميت
لأن اسمك امتد فيهم رأوك
هناك ابتديت وفيك انتهيتْ
فأين ألاقيك هذا الزمان
وفي أي حقل وفي أي بيتْ
ألاقيك أرصفة في الرياض
وأوراق مزرعة في الكويتْ
ومكنسة في رمال الخليج
وشت عن يديك وأنت اختفيت
واسفلت أسواق مستعمر
أضأت مسافاتها وانطفيتْ
ورويتها من عصير الجبين
 وأنت كصحرائها ما ارتويت
ولكن إذا متَّ، ينبي العبير
على ساعديك وعن ما ابتنيتْ
ولعل في قصيدته أمين سر الزوابع ما يوضح هذا بجلاء، فلقد كان أمينا حقا لأسرار هذا الوطن العريق الحزن المليء بالصراع السياسي، وكان سندبادا وجواب عصور، وشاهدا على كل حقب التاريخ التي مر بها اليمن.. لقد كان الشاهد الذي لم يخش أحدا، والأمين الذي باح بكل شيء للأجيال من بعده في ملحمة شعرية فريدة في تاريخنا العربي والإنساني...
فهل أدركنا تلك الملحمة، هل قرأناها وفككنا شفرتها؟ هل أصبحت وعيا جمعيا لأبنائنا في المدارس؟
هل انتقلت تلك الرؤية إلى إعلامنا، وإلى جامعاتنا؟ هل البردوني حاضر فينا نصا لا شخصية؟ هل تلقينا ملحمته كما أراد؟ هل نحتفي به اليوم ونحن ندرك الكثير من شعره ونستشهد به ونتناص معه، وهل نعيه اليوم كما وعى هو نصوص تاريخنا( أي نواس.. بشار.. وضاح اليمن.. علي بن زايد.. الدودحية.. عبد يغوث الحميري.. الخ)، هل أصبحت مقولاته مصكوكات في المعجم الشعري ونسقا ثقافيا يستطيع أن يحيل عليه الشاعر الشاب دون ان يتسم شعره بالغموض وبسهولة مرجعية لا تتطلب تذييلا وهوامش كما نتناص مع مطر السياب، هل ثمة قصيدة له أصبحت مشهورة شهرة المثل في الشعب؟ أظن هذا لم يحصل بعد، وأنه يحتاج وقتا طويلا وجهدا كبيرا منا معاشر اليمانيين.. وأظن أن البردوني إذا لم يحظؤ بهذا الشكل فإننا سنكون دفنا شاعرا عظيما بين دفتي ديوانه في المكتبة.. شاعرا ربما لن تنجب اليمن مثله في المستقبل القريب ولا البعيد ايضا.
إن أي شاعر فلسطيني أو عربي يستطيع اليوم الإحالة إلى مقولة او بيت شعر أو عنوان ديوان لمحمود درويش بكل يسر وسهولة، دون أن يذيل نصه بهوامش توضح مكان الإحالة لدرويش، لأنه حاضر على الأقل بين مثقفيهم بنصوصه أكثر من شخصه، وهذا ما يريد كل شاعر، وذلك بفضل المكنة الإعلامية الفلسطينية ودور نشرها المحترفة، وحنجرة مارسيل خليفة وأميمة الخليل.. فكم هي المنشورات للبردوني؟ وهل ثمة مختارات شعرية له، هل كلفت وزارة الثقافة نفسها عناء اختيار أجمل ما كتبه البردوني في كتيبات صغيرة تسهل للشعب شراءها وحملهل وتداولها، وكذا حفظها وترديدها، هل كلف فنان نفسه عناء تلحين وغناء مقطوعات للبردوني تردها اإذاعة أثناء قيلولة الناس وأوقات شجنهم واستعدادهم الروحي لتذوق الجمال، ليدخل البردوني إلى أرواح اليمنيين ويصبح نسقا ثقافيا وفنيا؟
هل عرفتم لماذا حضر درويش في وجدان الفلسطينيين، وحضر نزار في وجدان الشاميين، وغاب البردوني؟ هل عرفتم لماذا حضر مطر السياب في شعر العراقيين ووجدانهم، وحضر ناي جبران في وجدان اللبنانيين، وحضرت أطلال ناجي في مسامع المصريين؟ حين نجيب عن ذلك يكون البردوني حاضرا بيننا وفي شعرنا بكثافة.

26 سبتمبربدون عنوان
26 سبتمبر
عابد القيسي/عابد القيسيالبردوني.. جواب العصور
عابد القيسي/عابد القيسي
محمد شمس الديندين المطبلين واحد
محمد شمس الدين
مشاهدة المزيد