دعونا نتحدث اليوم بـ»لغة طائفية»، لا لتكريسها، ولكن لتسليط الضوء على ضرب من تكتيكات ماكرة، يحاول البعض إنكارها، رغم أن الأمور في منطقة الشرق الأوسط واضحة وضوح الدمار الرهيب الذي لحق بمناطق واسعة في سوريا والعراق، تعد بلون مذهبي واحد، على يد تحالف دولي إقليمي مثلث الأضلاع: روسي، أمريكي، وإيراني، كشفت عنه رسالة للرئيس الإيراني حسن روحاني بعث بها إلى بابا الفاتيكان، يقول له فيها إن «إيران والفاتيكان في خندق واحد ضد الإرهاب».
قبل أن يلحق الدمار الرهيب بمدن حلب وحمص والفلوجة والرمادي والموصل، وغيرها، مَرّ المكون المذهبي الأكبر في الإسلام بعمليات «شيطنة ممنهجة»، في وسائل الإعلام، وعلى مسرح العمليات السياسية والاستخبارية والعسكرية.
اشتغلت دوائر استخبارية وإعلامية إقليمية وعالمية من إجل إعادة منتجة صورة «العربي السني» على اعتبار أنه إرهابي صريح، أو إرهابي محتمل، أو مؤيد للإرهاب، أو متعاطف معه على أقل الاحتمالات، واشتغلت الدوائر ذاتها على أساس إعادة إنتاج صورة «العربي الشيعي»، على أساس أنه «محارب الإرهاب»، الذي تعتمد عليه القوى الدولية (أمريكا وروسيا: نموذجاً)، والقوى الإقليمية التي يعد النظام الإيراني ممثلها الأكبر.
الكل يعرف كيف بدأت الثورة السورية سلمية، وبشعارات غير طائفية، والكل يعرف مدى الجهد الذي قام به «النظام الطائفي» في سوريا لوصم هذه الثورة بـ»الطائفية»، ومدى الجهد الذي قام به للسماح لتنظيم «داعش» بالتمدد في مناطق الثورة، وكيف انسحب لها من مناطق شاسعة ليمكنها من الظهور، وكم أخرج النظام من سجون مخابراته – قبل ذلك – من هذه العناصر، التي كان النظام السوري يهربها – من قبل – إلى العراق، الذي سلمت قوات نوري المالكي فيه معسكرات بأكملها للتنظيم الوليد، والذي سيطر على مساحات شاسعة من العراق وسوريا في فترة وجيزة. أما إيران فكانت هي التي تحرك خيوط اللعبة التي يمارسها وكلاؤها في العراق وسوريا، تلك اللعبة التي عندما اكتملت وجدنا قاسم سليماني في مناطق شمال سوريا وغرب العراق بوجهه السافر الذي لم يعد يحرص على إخفائه، كما كانت الحال من قبل.
أحكمت الخطة، وتم عن طريق «داعش» تعميم مفاهيم «الإرهاب السني»، من أجل إيجاد حالة من «رُهاب السنة»، أو الـ»سُنّوفوبيا» لدى عامة «الشيعة العرب»، وبقية الأقليات الدينية ضمن النسيج العربي. وضمن هذه الحملة تم الترويج لعمليات قامت بها عناصر إرهابية من «داعش»، لتستدعي تاريخاً من المخاوف لدى الأقليات العربية الدينية إزاء أشقائهم من العرب السنة.
بعد مرحل «إرهاب السنة» التي ولدت مرحلة أخرى من «رُهاب السنة»، أو الـ»سُنّوفوبيا»، جاءت المرحلة الأخطر على مستوى السياسات الإقليمية والدولية، وهي مرحلة «الهولوكوست السني» الرهيب، ذلك الهولوكوست الذي تمت خلاله عمليات تصفية منهجية للمكون السني بوسائل القتل الجماعي، والحصار والتجويع، والتطهير الطائفي الذي رأينا فصوله في ملايين «العرب السنة» المهجرين، ومئات آلاف «العرب السنة» الذي قضوا في «الحرب على الإرهاب»، على الطريقة الروسية والسورية التي تحارب كل مكونات الثورة السورية، وتستثني «داعش»، حسب تقارير دولية معروفة.
تجسد هذا الـ»هولوكوست السني» في حقيقة أن مئات آلاف القتلى في سوريا والعراق من السنة، وأن ملايين المهجرين من سوريا والعراق هم سنة، وأن المدن المدمرة في سوريا والعراق هي حلب وحمص وإدلب والفلوجة والرمادي، ووو…هذه مدن السنة.
وتستمر الحملة التي تستهدف السنة على المستوى الإعلامي بالتوازي مع استمرارها ميدانياً، فعلى الرغم من أنه لا يوجد من الفصائل السنية المقاتلة «جيش يزيد»، أو «جيش معاوية»، وعلى الرغم من أنه يوجد لإيران بالمقابل «كتائب الإمام»، و»أبو الفضل العباس»، والزينبيات، و»كتائب الحسين»، وجيوش الدفاع عن المراقد، و «جيش المهدي»، «وجيش الكرار»، و»جيش المختار»، والحبل على الجرار. على الرغم من كل تلك الحقائق، توجد مصطلحات «متشددون سنة»، «طائفيون سنة»، ولا وجود لمصطلح «أصوليون شيعة»، «أو إرهابيون شيعة». لأن المخرج العالمي والإقليمي يريد أن يحافظ على الصورة التي رسمها لكل مكون طائفي عربي، حتى نهاية المعركة المحتدمة بين «العربي السني الإرهابي»، والعربي الشيعي المحارب للإرهاب».
هناك «هولوكوست سني» بامتياز، موثق، بشهود، وأدلة ، وبراهين، وحيثيات، وهناك تزوير عالمي، ومحاولات مستميتة لإنكار هذا الهولوكوست الرهيب الذي يجري تحت سمع العالم وبصره.
وبعد كل هذا الجلاء، كل هذا الوضوح، كل هذا الـ»هولوكوست السني»، يقول العالم إن «الإرهاب سني»! مستغلاً حماقات «داعش» المحسوب على السنة، رغم أن كل مراجع السنة في العالم أنكرت أفعاله، ورغم أن السنة أول ضحاياه.
علينا اليوم مسؤولية قول الحقيقة. الحقيقة واضحة وضوح الشمس، بلا مواربة، ولا نفاق، ولا تزييف.
السنة مستهدفون من مليشيات إيران، ومن «تحالف الأقليات»، ومن دوائر عالمية في الغرب. مليشيات إيران لها أيديولوجيتها الدينية التي ترى أن القرن الواحد والعشرين هو عصر «التشيع السياسي»، كما كان القرن العشرون، هو عصر ظهور ذلك «التشيع السياسي»، وهم يعملون عليها بتوجيه من دولة إمبريالية يدفعها طموحها القومي الإمبراطوري إلى الهاوية.
وأما «الأقليات» الأخرى، فهي مسكونة بـ»فوبيا السنة»، أو الـ»سُنّوفوبيا»، محملة بخلفيات تاريخية وثقافية مشحونة، ومندفعة بغرائز اهتبال الفرصة تارة، والذاكرة المثقلة تارات. أما الغرب فهو يرى الخطر كامناً في عدوه التاريخي، أو من يرى أنه عدو تاريخي متمثل في «الإسلام السني»، الذي قاد معارك التحرر ضد الاستعمار الغربي الحديث، وقاد معارك المقاومة ضد الهجمات الصليبية في العصور الوسطى، وقاد معارك طرد الفرس من العراق، والروم من الشام، وامتد إلى إسبانيا وآسيا الوسطى، الإسلام الذي يمثل «المقابل الحضاري»، و»الند التاريخي» لحضارة الضفة الشمالية للأبيض المتوسط.
ولذلك، فعلى – السنة اليوم – مواجهة هذه الحقائق والتعامل معها. عليهم إدراك أنهم جسد الإسلام الأكبر، وكتلته الأشمل، ونسغه الممتد. يقتضي ذلك توحيد صفوفهم، وتأجيل خلافاتهم، وبناء استراتيجية شاملة لمواجهة التحديات المحدقة، التي تتمثل في محاولات غربية إيرانية لتغليب الأقلية في الشرق، من أجل نقض التاريخ، وتفتيت الجغرافيا، وقلب الواقع الديمغرافي للشرق الأوسط. المهمة صعبة، والمواجهة ليست عسكرية في مجملها، وواهم من يظن أنه سيغير حقائق التاريخ، أو ينقض دروس الجغرافيا. لا يمكن تغيير الطبيعة الديموغرافية والإثنية في المنطقة، والقوى الدولية والإقليمية تدرك ذلك، لكنها تحاول أن تؤسس لشرخ بين المكونين العربيين: السني والشيعي لاستثماره في جولات مستقبلية، يمكن أن يعاد إنتاجها بشكل آخر ربما لا يختلف عن صورتها الحالية التي تخرج للمشاهد على أساس أنها بين فريقين: عربي سني إرهابي، وعربي شيعي يحارب الإرهاب. يلزم أهل المنطقة سنة وشيعة وقفة للتفكر، لتغيير هذه الصورة النمطية لمكونيها المذهبيين، لأن الصراع – في الأخير – ينظر إليه دولياً، بلا مبالاة، على أساس أنه صراع بين «عرب يقتلون عرباً آخرين، أو يقتلهم عرب آخرون»، كما يقول حازم صاغية. مرت على هذه المنطقة غزوات وحملات، وأطماع وقادة وجنود، كلهم ذهبوا، وخرج أهل المنطقة من كل محنة أكثر قوة وإشراقاً.
يجب فقط ألا تنهزم الروح.