الحل في اليمن بين معركة تعز وتحرك بريطانيا
بقلم/ جورج سمعان
نشر منذ: 6 سنوات و 9 أشهر و 7 أيام
الإثنين 29 يناير-كانون الثاني 2018 02:16 م
 

مساران يرسمان الصورة المقبلة للحرب في اليمن. أولهما تحرك نشط لبريطانيا من أجل إحياء المفاوضات السياسية المتعثرة منذ فشل آخر الجولات في الكويت. ويحظى هذا المسعى بدعم من مجلس الأمن، بعدما بدأت وسائل الإعلام والمؤسسات الأممية المعنية ترفع الصوت عالياً لإنقاذ الشعب اليمني من نزف الدم والمآسي والويلات والأمراض الفتاكة وآفة الجوع... وتزامن هذا التحرك مع رفع الجيش الوطني وقوات التحالف العربي وتيرة المواجهات الميدانية في أكثر من جبهة، من صعدة والجوف شمالاً، إلى تعز جنوباً من أجل فك الحصار عن هذه المدينة التي يشكل نجاح الشرعية في استعادتها كاملة ضربة موجعة ومفصلية للحركة الحوثية. وينتظر أن تستضيف لندن في الأيام المقبلة اجتماعاً لمجموعة الدول الأربع، المملكة المتحدة والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، إضافة إلى سلطنة عمان، للبحث في خطة لاستئناف الحوار. وجاءت جولة وزير الخارجية بوريس جونسون على السلطنة واليمن والسعودية في إطار التمهيد لإنجاح هذا الاجتماع. وسبقتها لقاءات ومشاورات أجراها مع مساعديه في الشهرين الماضيين مع عدد من الأطراف والشخصيات اليمنية والقوى المعنية بالأزمة، دولياً وإقليمياً. وترافقت مع اختيار الأمم المتحدة البريطاني مارتن غريفيث مبعوثاً أممياً خلفاً لإسماعيل ولد الشيخ أحمد الذي رفض الحوثيون التعاون معه وأطلقوا النار على موكبه في صنعاء. ويتوقع أن تتوافق الدول الأربع على إجراءات وعناوين لإعادة المتصارعين إلى طاولة البحث عن حل سياسي بمساعدة المبعوث الأممي الجديد الذي يعرف الجزيرة العربية جيداً، ويتمتع بخبرة في التوسط وحل النزاعات الدولية.

لا شك في أن مقتل الرئيس السابق علي عب الله صالح على أيدي الحوثيين بدّل المشهد اليمني كلياً. سقط غطاء «شرعي» عن هؤلاء كان يوفره الرئيس المغدور، عبر مجلس النواب الذي يهيمن عليه حزبه المؤتمر الشعبي العام، وعبر مشاركة القوات العسكرية الموالية في مواجهة حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي، وكذلك عبر شعبية واسعة كان يتمتع بها في أوساط قبائل عدة لها نفوذها وحضورها، خصوصاً في محيط العاصمة. فقد أدت تصفيتهم شريكَهم في الانقلاب إلى زيادة عزلتهم داخل العاصمة وخارجها. باتوا بمواجهة مفتوحة مع مجتمع يعاني ضائقة معيشية خانقة، وتتهدده المجاعة التي حذرت منها الأمم المتحدة أخيراً. إضافة إلى أن الديبلوماسية الأميركية الجديدة تخوض حملة سياسية عليهم وعلى إيران لخرقها قرارات مجلس الأمن ومواصلتها مدهم بالسلاح والصواريخ الباليستية التي يطلقونها باتجاه الأراضي السعودية. كما أنهم يتعرضون لضغط عسكري كبير في صعدة والجوف، ولحملة واسعة لإخراجهم من آخر مواقعهم في تعز وفك الحصار عنها.

ويدرك الحوثيون جيداً أن الحرب ارتفعت وتيرتها وتبدلت قواعدها وخططها، تغيرت بعد اغتيالهم الرئيس السابق. ويخشون أن ينجح الجيش الوطني والمقاومة الشعبية في تحرير تعز بدعم جوي من التحالف العربي. لأن ذلك سيعزز كفة الشرعية ويبدل في موازين القوى جذرياً. ويدفعهم إلى تقديم التنازلات والقبول بالقسمة التي تناسب حجمهم السياسي. وهو ما سيعجل في تصفية انتشارهم شرقاً من مناطق الضالع إلى البيضاء وإب وغيرهما. ويفتح الطريق نحو إخراجهم من صنعاء. أي دفعهم في النهاية إلى معقلهم الطبيعي في أقصى شمال البلاد. ذلك أن هذه المدينة ومحافظتها تعد الأكبر سكانياً، ولعبت أدواراً تاريخية مهمة، فهي تحتل موقعاً جغرافياً وديموغرافياً استراتيجياً، وتعد آخر التخوم الجنوبية لما كان يسمى اليمن الشمالي. وتتحكم بشبكة من الطرق البحرية والبرية المهمة التي تربطها بلحج وعدن جنوباً والضالع والبيضاء شرقاً، وبالحديدة على الساحل الشمالي للبلاد. وقد خسر «أنصار الله» في المدينة وبعض مديرياتها دعم مناصري الرئيس المغدور الذين انفضوا عنهم. بينما يتردد أن قوات لـ «المجلس الانتقالي» في الجنوب قد تزج في الحملة لفك الحصار عن تعز. وكان الساعون إلى إعادة بعث «دولة جنوب اليمن» يترددون سابقاً في المشاركة، على أمل أن يؤدي الصراع في مناطق «الشمال» إلى استنزاف قواه وأحزابه وقبائله. وهو أمر يسهل عليهم لاحقاً الدفع بمشروعهم الاستقلالي وإحياء «دولة الجنوب».

في ضوء هذه التطورات، خصوصاً تحرك بريطانيا الذي يلقى دعم الدول الكبرى في مجلس الأمن، قد لا يجد «أنصار الله» سبيلاً غير العودة إلى طاولة التفاوض. وتؤدي مسقط التي زارها الوزير جونسون الأسبوع الماضي وقابل السلطان قابوس بن سعيد، دوراً نشطاً في هذا المجال. فهي تكاد تشكل منفذهم الوحيد إلى العالم، وتتمتع بعلاقات جيدة مع طهران، وقد ساهمت في استضافة لقاءات أميركية- إيرانية مهدت لإبرام الاتفاق النووي. ولعل انتقال وفد حوثي في طائرة عمانية إلى مسقط، غداة زيارة الوزير البريطاني إياها، يؤشر إلى بداية تحرك السلطنة. ولا شك في أن الحوثيين يشعرون اليوم بعدما باتوا وحيدين في مواجهة الشعب اليمني بأهمية الحصول على نوع من «الشرعية» التي تتيحها لهم العودة إلى طاولة المفاوضات مجدداً. فهم مسؤولون الآن وحدهم عن كل ما يعانيه أهل العاصمة والمناطق التي يتولون إدارتها. لم يعد هناك طرف آخر يمكن أن يقاسمهم تحمل هذه المسؤولية. كما أن قوى الشرعية والتحالف العربي تستعجل هي الأخرى العودة إلى المفاوضات من أجل تسوية الملف الإنساني. فالكم الهائل من المساعدات التي وفرتها وتوفرها السعودية والإمارات والمنظمات الدولية لا يكفي بلداً لم تبق الميليشيات شيئاً في مصرفه المركزي، ووضعت اليد على عائداته وكل مصادر الدخل. وقد عبرت قوى التحالف العربي مراراً عن رغبتها في وقف الحرب في اليمن شريطة أن تكف إيران عن محاولاتها الهيمنة على هذا الجزء من شبه الجزيرة العربية وتحويله شوكة في خاصرة المملكة. وأن يعود الحوثيون عن انقلابهم ويعيدوا إلى الشرعية ما لها، وينخرطوا في حوار جدي يعطيهم ما يستحقون من موقع ودور يتناسبان وحجمهم، مثلهم مثل باقي القوى والأحزاب الأخرى.

كل هذه التحولات لا تعني أن التغيير قادم، وأن الأزمة إلى انفراج. صحيح أن هناك رغبة دولية في السعي إلى حل سياسي، وثمة تعويل على المبعوث الدولي الجديد ودولته بريطانيا، لكن الصحيح أيضاً أن سلفه ولد الشيخ أحمد لم يفشل في أداء دوره. فالحوثيون حتى اليوم يراوغون ويهادنون، ولا يبدون أي استعداد للتنازل عما يعتقدون بأنه حقهم في الحكم والسلطة. أمام هذا الموقف الأيديولوجي الراسخ الذي يحول دون تقدم الحوار السياسي، لا تبدو الجبهة المقابلة في أفضل حال، والتعويل على حزب المؤتمر الشعبي فيه شيء من المبالغة. لم يعد الحزب بالقوة التي كان عليها قبل اغتيال رئيسه، تفرق أعضاؤه أيدي سبأ. وأهل الحراك الجنوبي الذين يقيم بعض مؤسسات الشرعية في ظهرانيهم لا يرضى مثلاً بأن يبني العميد طارق محمد عبد الله صالح، ابن شقيق الرئيس المغدور، قوات عسكرية في مناطقهم. في حين أن العميد أحمد علي عبد الله صالح المقيم في الإمارات يتريث في التحرك للثأر لوالده. فهو يحتاج أولاً إلى رفع العقوبات الدولية عنه. ولا معنى لعودته إلى الداخل ما لم يعترف بشرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي. فهو يحتاج إلى مظلة من الحكم الشرعي. وليس هناك ما يشير إلى أن السلطة في وارد قبول عودته إلى تولي مواقع قيادية. أطراف كثيرة تنضوي تحت لواء هذه السلطة ترفض تغيير خريطة موقعها ودورها لحساب «عودة الابن». وإذا كان يرغب في بناء قوات أو جيش على غرار الحرس الجمهوري الذي كان يقوده أيام والده، فإنه يحتاج إلى موازنة كبيرة ليست في متناول اليد.

أبعد من ذلك، تتصاعد الأزمة السياسية في عدن. اللواء عيدروس الزبيدي الذي يرأس هيئة رئاسة «المجلس الانتقالي الجنوبي»، شن قبل أيام حملة قاسية على حكومة أحمد بن دغر واتهمها بالفساد ودعا إلى إسقاطها مهدداً بالعصيان في عدن ومدن الجنوب. هذا الصراع المحتدم يضعف جبهة الشرعية الضعيفة بأدائها أصلاً. ويهدد وجودها في الجنوب، ويرفع وتيرة التوتر في العاصمة الموقتة للبلاد، مثلما يهددها العاملون على تعميق الأزمة المستفيدون من اقتصاد الحرب ومغانمها. فهل يصوب الرئيس هادي سياسة الحكم ويبدل أدوات الإدارة أم تنخرط قوى التحالف أكثر في إدارة الدفة؟ أما على الجبهة العسكرية، خصوصاً في محافظة تعز فالأوضاع ليست أفضل حالاً. فتلويح أهل الجنوب بالمشاركة في القتال يثير حفيظة «الإخوان» وبعض القوى الإسلامية. الأمر الذي قد يعرقل التقدم في هذه الجبهة. وثمة مخاوف من أن تعمق عودة المدينة إلى الشرعية الصراع المذهبي بين «السنة الشوافع» والزيود، وتخرج المواجهة من حيز التقسيم النفسي إلى مشكلة طائفية ومذهبية تضيف إلى أزمة اليمن معضلة جديدة تساهم في تشظي البلاد وتفتيتها.