في ميدان السبعين الحزين ذُبحنا بوحشية من الوريد إلى الوريد، لم يدرِ الشهداء ما حل بهم فالموت كان أسرع من مداركهم، لكننا قُتلنا هناك وحوّلَنَا الحادث الإجرامي إلى مُجرد أطلال نمشي بين الأحياء, واستشعرنا بعمق ما معنى أن يُقتل الناس جميعاً وفي تصوري أنّه لولا الغدر والخيانة ما تمكنوا منا، لكنها الحياة تأبى إلا أن تُعلمنا دروسها بثمنٍ باهض ليس بأقل كُلفة من الدماء القانية والشعوب حين يُلقِّنها الواقع دروساً لا تنساها، إنها كالوشم في الذاكرة، فهل يُمكن أن ننسى أن الجهة التي ارتكبت فينا مجزرة السبعين لم تكن قادرةً على فعلتها بهذه الجراءة -بغض النظر عن مستويات الغدر والخيانة - لولا تقاعس وتخلُف الجهات المُختصة عن أداء واجبها الوطني؟ إنه تقاعُس يصل في وصفه القانوني إلى حد اتهامهم بالاشتراك في الجريمة بقصد أو بدون قصد.
وعموماً فعُذري في ما أتجه إليه أني لأستهدف مُجرد جلد الذات، لكني أقول بكل صراحة أن نمط ومنهجية الأجهزة الأمنية بما هي عليه الآن من وضعٍ مأساوي على المستوى المادي والبشري لم تعد قادرة أبداً على الارتقاء إلى مستوى تغيُر مُعطيات الجرائم ومستوى تطور المجرمين, لم تعد قادرةً بما هي عليه من وضع ككُل أن تُجاري المتغيرات الوطنية وتواكب متطلبات مرحلتنا التاريخية، فهي تبدو كشيخ مُسنْ لُكَع يلفض أنفاسه الأخيرة على قارعة الطريق ولا يعنيه إلا تجهيز مراسم دفنه ونوع الكفن الذي سيرتديه..
حان الوقت للمُكاشفة فحال الأمن يُثير الخوف منذ زمنِ بعيد كنتيجةِ حتميه لقرار النظام السياسي حينذاك إعدام الأمن لعدم الحاجة إليه مع إبقاء ظِلِّه ِوهيكله خشيةً من طبيعة السؤال الذي قد يطرحه الشعب على النظام: لماذا أعدمتم الأمن؟ وتكمن الخشية من حقيقة الإجابة الموضوعية المرعبة وهي أن الأمن مردوده المادي غير مُجدٍ ويُكلف خزينة النظام الكثير ولا يتسق مع توجهاته وعلى كُل مواطن أن يحمي نفسه وما تبقى سيتكفل به المشايخ، أما الدماء التي قد تسيل في الأزقة والشوارع والقرى والمدن فستعوضه دماء البقر والغنم، فما جدوى الأمن من وجهة نظر سياسية تزن الإنسان بميزان الأشياء وفي نفس الوقت هي حازت على كل أدوات الإجرام المادية والبشرية وسخرتها لصالحها وأصبح وجود أمن اجتماعي متطور تكنولوجياً في حد ذاته يُشكل خطراً على توجهاتها السياسية المُتخلفة؟!.
إن حادث السبعين بكل معطياته الجنائية يُشير بوضوح بأن مُرتكبيه من العارفين ببواطن الأمور ومكامن الخلل والقدرة في التحكم على منافذ الدخول والخروج إلى مسرح الجريمة أو على أقل تقدير التنسيق معها بجهل أو بعلم والمؤلم أن هذه العقلية الإجرامية دون المستوى الذهني المعقول الذي قد يتناسب مع مستوى إيقاعات حدث الجريمة ويبدو أن مؤهلها الوحيد توفر إمكانيات التدمير لديها ومن الناحية الموضوعية انعدام جدوى الوجود الأمني الشكلي في مسرح الجريمة، يُدلل على ذلك سعيهم بأسلوب طفولي لمزج وربط غيرهم بجريمتهم بإصدار بيان أشبه ما يكون بِدَال يسوق إلى مدلُوله الفاعل وغيره معه,فبالتدقيق فيه استبان أن مضمونه يرتكز على تحميل مسؤولية الحادث للقاعدة المرُتبطة - بحسبه- بالثوار وأن الجريمة استهدفت الانتقام لشُهداء الثورة أيضاً، أي أن الثورة مرتبطة بالقاعدة ضرورةً وأن على الثوار أن ينسوا شُهدائهم، فهذه بتلك (قد قتلنا الضعفين من أشرافهم.. وعدلنا ميل بدرٍ فعتدل) إنها محاولة إنشائية لتدنيس منهجية السلمية الثورية وإلصاق الجريمة بالسياق العام للثورة والنتيجة المنطقية لهذا الربط تساوينا في الإجرام بعد أن اعتدل ميزان الضحايا، فإن كان لديكم جمعة كرامة فلدينا "اثنين السبعين" وبذلك انعدم التفاضل الجنائي بيننا! بأسلوب رقيق مفضوح يخلط كل الأوراق وينم عن عقلية مبتورة عن الواقع وانعدام القدرة الذهنية لديهم لقراءة مدى تغيير الجهاز المفاهيمي اليمني الذي أصبح قادراً بامتياز على قراءة الأحداث وفهمها بعيداً عن الإملاءات المقصودة والإيحاءات عن بُعد.. لم يدرك من صاغو هذا البيان الإجرامي مدى تغير مركز الشخصية اليمنية من الأحداث وأنها لم تعد بعد الثورة كتلك التي تعاملوا معها وألفوها في ما مضى ففي بيانهم الشاهد عليهم حددوا بالرقم عدد ثلاثة عشر ألف شضية تخللتها المتفجرات وكأنه استباق لمفهوم بديهي هو: ما حجم ونوعية تلك المتفجرات الفاعل المادي لقتل هذا العدد الهائل من البشر؟ وكيف وصلت مسرح الجريمة؟ استبق هذا المفهوم بذكر عدد الشضايا وهذا يُغني- بحسبه- عن الاستفهام عن حجم ونوعية المتفجرات المُستخدمة في المذبحة حتى لا يُحرج المسؤولون عن أمن السبعين؟ شاعريٌّ جداً واضع البيان حريص على أن لا يجرح مشاعر أحد ولا يسبب الأذى لأحد تماماً كرقة مُستفتين مدى جواز قتل الحشرة في الحرم بعد أن فرغوا من قتل الحسين!.. نعم يوجد حرب مع القاعدة، لكن قاعدة من؟ إنها القاعدة التي لم يتهموها بالضلوع بتفجير جامع النهدين, إنها القاعدة التي تستطيع الوصول إلى ميدان السبعين قُرب دار الرئاسة المُحاطة بكل الإمكانيات الأمنية الخاصة جداً على المستوى البشري والمادي والتي لا يصل إليها حتى الذباب إلا بعد أن يعرفوا فصيلة دمه وهل هو عاشق لورود المؤتمر أم لعسل الإصلاح! إنها القاعدة المُشرعة لها الأبواب في كُل الأماكن ومن دون إعاقات، تلك القاعدة التي دخلت رداع سلاماً دون طلقةٍ واحدة، تلك القاعدة التي حازت على أسلحة الجيش والأمن في أبين وسيطرت عليها تحت سمع وبصر النظام السابق دون مقاومتها ولو بطلقة واحدة إلا ما ندر, تلك القاعدة التي أفرج النظام عن أعضاءها من السجون، تلك القاعدة التي.. والتي.. والتي.. والتي...الخ.
إن البيان الذي أصدرته هذه القاعدة يستهدف في شموليته عدم الكشف عن أبجديات الوقائع الفعلية والنظرية للجريمة وعن حقيقة هذا التنظيم وقيادته الفعلية, دقـقوا النظر فيه وفي الوقائع والملابسات الجنائية للجريمة، فلا توجد جريمة كاملة, فهذا الخطاب يحمل بين ثناياه بصمات فَاعليْه ولحن مُنفذيه وأهداف الجريمة, تأملوه فهو يحمل كل شيء، حتى لكأن من صاغه يقول: خذوني قبل أن تفقدوني وما تنظيم القاعدة إلا نائب فاعل لضمير مُستتر تقديره هم وهو.. الآن فقط استوعبت: لماذا نصحوا الرئيس هادي بعدم سُكنى دار الرئاسة، إنها منطقه مشؤمة مليئة بكل أنواع وأصناف الحقد التي عرفتها البشرية, إنها منطقة الثعابين والراقصين عليها والعازفين لها والشاربين سمومها حتى الثُمالة والذي استوقفني كثيراً صور شهداء السبعين تظهر بجوارهم مآذن جامع الصالح من الخارج واستحضرت ذاكرتي صور شهداء جامع النهدين من الداخل والعامل المُشترك بينهما كضحايا,إن الذي استهدفهم كان حريصاً على قتلهم داخل دور العبادة أو بالقرب منها دون تدمير مادي محسوس والغريب أن كلا المسجدين يقعان تحت سيطرة قوى النظام السابق ويرعاهما أيضاً نفس النظام, ألم يتعلموا من كارثة جريمة النهدين ويحسّنوا أدائهم الأمني؟ أم هم ضحية مقتضيات الرقص على رؤوس الثعابين؟ أم هي الصدفة مُجرد الصدفة؟.. شخصياً أقرر أن كل الإحتمالات في هذه الجريمة مفتوحة وأنه لا يوجد مُرجّح منطقي معقول لأي احتمال, نتائج التحقيق وحدها هي التي ستحسمها وتُرجّح احتمالاً ما إذا كانت هذه التحقيقات موضوعية ومُجردة من الإيعازات السياسية والميول الشخصية مع الأخذ بعين الإعتبار السياق العام للأحداث وأعتقد أن زمن الحدث ومكانه والمستهدفين فيه وأسلوبه الإجرامي ونتائجه الواقعية كلها معطيات ستشير إلى الفاعل،لكن سيبقى هناك سؤال هام على المستوى الإجتماعي: هل نحن فعلاً لدينا الرغبة والشجاعة لنتعرَّف على الفاعل الظاهر والمستتر حقاً أم أننا نخشى من معرفة الحقيقة لهولها ولعدم قدرتنا على مواجهتها؟ الراسخون في العلم بغض النظر عن نتائج التحقيق قد يعرفون معطيات الحقيقة التي تشير إلى الفاعل ولو نسبياً، لكنهم يخشونها ويخشون من معرفتهم هذه إلى درجة أن من يُذكرهم بها يتهمونه بالمس والجنون.. هذا من جانب ومن جانب آخر على أمريكا أن تُدرك أنها بتدخلها المباشر في الحرب على القاعدة أنعشت بقايا النظام السابق وأحيته من موته السريري وجعلته تاريخياً أمام الشعب نظاماً وطنياًَ ووضعت في نفس الوقت الرئيس هادي في موضع المُفرِّط في السيادية الوطنية وألهبت مشاعر عداء اليمنيين ضدها وهيأت أرضية مُناسبة للإستمرار في العبث بالوطن وأمنه وإذا استمر التدخُل الأمريكي بهذه الصورة الغير مُدركة لأبعاد فعل التدخُل المُباشر فإن أفغنة اليمن أمر شبه مؤكد وما جريمة السبعين إلا بداية الأفغنة وستلحق بالمنطقة العربية كارثة على المدى القريب والبعيد.
وفي الأخير أقول: إن طائرات أمريكا بدون طيَّار تقتل القاعدة وطياري القاعدة بدون طائرات يقتلون أبناء اليمن، فوق اليابسة يمنيون يُقتلون هناك ويمنيون يُقتلون هنا.. سلمتَ يا وطني من كُل ألمٍ وآه..سلمت من جحود أبنائك العاقّين.. ومن مآسي خنوع أبنائك المُحبين.