اليمن وأوهام الخطوط الحمراء
بقلم/ د. عيدروس نصر ناصر
نشر منذ: 11 سنة و 11 شهراً و 10 أيام
الخميس 06 ديسمبر-كانون الأول 2012 05:43 م
بين حين وآخر يطل علينا بعض السياسيين أو المتسايسين، وبعض الكتاب والمعلقين و(الباحثين) ليتحفونا بمفاهيم تنتمي إلى عصور الاستبداد والتسلط والإرهاب الفكري، حتى وإن ألبسوا أحاديثهم لباس الوطنية والثورية والتقدمية.

ما زلت أتذكر يوم أن أتى إلينا في مجلس النواب د رشاد العليمي، وكان حينها وزيرا للداخلية، قبل أن يرقى إلى نائب رئيس الوزراء نظير نجاح أجهزته الأمنية في قتل النشطاء المدنيين الجنوبيين المطالبين بحقوقهم، وتفوقه في تبرير مقتل ما يقارب الخمسين امرأة وطفل وعجوز من أبناء المعجلة بمحافظة أبين، بواسطة طائرة أمريكية بدون طيار، وتصوير هذا العمل على إنه منجز وطني، . . . يومها كان كاتب هذه السطور قد تقدم بسؤال لمعالي الوزير عن اعتداء قواته على بعض الناشطين السياسيين الذين اعتصموا في المقر الرئيسي للحزب الاشتراكي اليمني بصنعاء مطالبين بإيقاف حرب صعدة، وكانت حينها في جولتها الثانية.

قال الوزير كلاما كثيرا، لا مجال هنا لإيراده، لكن من بين ما قاله ما معناه أن قوات الأمن تدافع عن الثوابت الوطنية، لأن هذه الثوابت هي خطوط حمراء، ولا يمكن لكل من شاء تجاوزها، . . .وهذه العبارة التي يمكن أن تفسر عشرات التفسيرات دون أن تستنفد مطاطيتها وميوعتها وقابليتها للسيلان والتمدد إلى ما لا نهاية دائما ما يكررها ممثلو النظام ليواروا وراءها مقاصدهم في حماية المنكر والظلم والقمع والفساد والاستبداد والتصدي لكل من يحاول البوح برفضه لطريقة تعاملهم مع هذا الوطن وأبنائه.

مفهوم الثوابت الوطنية والخطوط الحمراء من بين الكثير من العبارات الملغومة والمفخخة، التي يستخدمها مروجو ثقافة الإرهاب الفكري والاستبداد السياسي، وما يزال البعض يتذكر عندما كان يتصدى أنصار الرئيس المخلوع لكل من يتناول ولو ببعض النقد الناعم أحد من أفراد العائلة، وكثيرا ما كان هؤلاء يرددون: فخامة الرئيس خط أحمر.

لا يهمني كثيرا من أين جاء احمرار هذه الخطوط فالإشارة الحمراء الوحيدة في اليمن هي إشارة المرور وهي لم تعد تحترم من أحد بعد تعميم ثقافة الاستهتار والتعالي والعجرفة، وإحلالها محل التواضع والانضباط الواعي للنظم والمعايير الحضارية، لكن ما يهم هنا هو أن الكثير من الذين يستخدمون مفهوم الثوابت الوطنية والخطوط الحمراء وأخواتهما، لا يتقيدون حتى بالمضمون الشكلي لما يعنونه.

هذه الأيام نسمع من يتحدث لنا عن "الوحدة باعتبارها خطا أحمر" وبعيدا عن الخوض في ما يعنونه بالوحدة يمكننا أن نسأل هؤلاء: أين كنتم عندما كانت الوحدة الحقيقية تذبح من الوريد إلى الوريد على أيدي جلاوزة حرب 1994م؟ وماذا فعلتم للتصدي للجرائم الشنعاء التي ارتكبت باسم ما تسمونه خطا أحمر؟ وكيف يمكن أن يكون الخط الأحمر سببا في السلب والنهب والاستيلاء والبطش والقتل والإقصاء والإجرام والتنكيل؟ ثم ما قيمة الخط الأحمر إذا كان من يحمونه قد أحرقوا الأخضر واليابس ونهبوا ما فوق الأرض وما تحتها، واستولوا على ما يملكه الوطن اليوم وما سيملكه بعد عشرات السنين وباعوا كل هذا ليضيفوه إلى أرصدتهم في البنوك الأجنبية، وما قيمة الخط الأحمر، إذا كان هذا الخط لم يستطع أن يحمي ضحايا الظلم والبطش والقتل والتنكيل ولا أن يردع القتلة والمجرمين واللصوص والمحتالين؟

إنه الإرهاب الفكري والاستبداد السياسي يستأنف حضوره من جديد ليعيدنا إلى المربع الأول ما قبل اندلاع الحراك السلمي الجنوبي في العام 2007م والثورة الشبابية السلمية في 2011م، عندما كان إعلام الرئيس المخلوع يقتل المتظاهرين بحجة أنهم يهددون الثوابت الوطنية أو يتجاوزون الخطوط الحمراء، لكن الزيف قد يبقى بعض الوقت غير إنه لا يمكن أن ينطلي على كل الناس، تماما مثلما لم تنطل أكذوبة الزعيم الرمز وموحد اليمن ومكتشف النفط وباني سد مأرب، عندما تبين أنه وزبانيته لم يوحدوا حتى قبيلته، ولم يكتشف وينمي إلا ثقافة الفساد والإفساد، ولم يبن إلا المشروع العائلي الذي أوصل اليمن إلى المرتبة 164 في مستوى محاربة الفساد. والمرتبة ما فوق المائة والخمسين في الفقر والمجاعة والبطالة ورداءة التنمية وسوء الخدمات وغياب القانون وانعدام المساءلة والمحاسبة.

الإنسان وحده هو الخط الأحمر الذي لا ينبغي المساس بآدميته وكرامته وحريته وحقه في الحياة، أما عندما يصبح هذا الإنسان مقصيا محروما من كل شيء مفتقرا إلى أبسط معاني الحياة ومقوماتها، ومستهدفا من أساطين النهب وعتاولة الفساد، وعندما يصبح هذا الإنسان سلعة تجارية يتاجر به كما يتاجر بالقمح والملابس والأحذية والمعلبات، فإن كل خط أحمر آخر يصبح بلا قيمة ولا معنى طالما تجاوز الخط الأحمر الأول.

إذا أردتم لــ(الوحدة) أن تصير خطا أحمر فإعطوها قدسيتها، واجعلوها معبرا عن تطلعات الناس إلى الكرامة لا سببا من أسباب سحق كرامة الناس، واتخذوا منها وسيلة لرفع رفاهية الناس لا أداة لنهب ثروات البلد باسم الخط الأحمر، وحولوها إلى منطلق لترميم لتطبيب الوطن وترميم الشرخ الوطني، لا وسيلة لمراكمة ثروات اللصوص وناهبي المال العام ومحترفي النصب والاحتيال مقابل تمزيق الوطن وتفكيك المجتمع، فهل أنتم فاعلون أم أن الخط الأحمر ليس إلا تعبيرا عن حصيلة النهب والسلب والاستيلاء الذي مارستموه على مدى ما يقارب العقدين من الزمن؟؟

برقيات:

*ليس من قبيل الصدف أن تأتي الحملة العسكرية على محافظة الضالع وما رافقها من أعمال قتل وعدوان وتخريب وتشريد للمدنيين الأبرياء متزامنة مع قدوم المدعو ضبعان المشهود له بإتقان عمليات القتل والدمار في محافظة تعز، . . ستنتصر الضالع وسيذهب ضبعان كما ذهب أسياده إلى مزبلة التاريخ، . . . كل التضامن مع الضالع الأبية التي دحرت الطغاة والمتغطرسين على مر التاريخ.

*هل سيفهم العتاة والمتعجرفين ما يعنيه تقرير مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن، المقدم إلى مجلس الأمن يوم الخامس من ديسمبر الجاري؟ وهل سيكفون عن التظاهر بالذكاء المفرط بعد أن كشفهم الشعب اليمني، وعرى ألاعيبهم؟ أم إنهم ما يزالون يتصورون أن أساليب السبعينات والثمانينات ستنطلي على جيل الفيس بوك والتويتر بعد أن فضحها من يجيدون القراءة والكتابة.

*قال الشاعر العربي الكبير محمود سامي البارودي:

إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْفَتَى عَــــــقْلٌ يَعِيشُ بِهِ ..... فَإِنَّمَا هُوَ مَـــــــــــعْدُودٌ مِنَ الْهَمَلِ

فبادروا الأمرَ قبلَ الفوتِ، وانتزعوا ......شِكَالَة الرَّيْثِ، فَالـــدُّنْيَا مَعَ الْعَجَلِ

وَلاَ تَلَــــــجُّوا إِذَا مَا الرَّأْيُ لاَحَ لَكُمْ .......إنَّ اللــــــجاجة مدعاة إلى الفشلِ

قدْ يدركُ المرءُ بالتدبيرِ ما عجزتْ ....عَنْهُ الْكُـــمَاة، وَلَمْ يَحْمِلْ عَلَى بَطَلِ

وَلاَ تـــــــــخافوا نكالاً فيهٍ منشوكمْ ......فالحوتُ في اليمَّ لا يخشى منَ البللِ

عيشُ الفتى في فناءِ الذلَّ منقـصةٌ.. وَالموتُ في العزِّ فخرُ السادة النبلِ