شجاعة السنوار بين فلسفتين
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: يوم واحد و 3 ساعات و 39 دقيقة
الخميس 31 أكتوبر-تشرين الأول 2024 06:46 م
 

البعض كتب عن عبثية يحيى السنوار، عدمية شجاعته، شجاعة تنتمي لزمن القتال بالسيف والعصا، في زمن حروب الدرون والإف 16 والحروب التكنولوجية، شجاعة عنترة العبسي، راكباً فرسه، أمام جبروت الآلة العسكرية الفتاكة، شجاعة مثيرة للاستهجان!

كتابات عن الشجاعة بوصفها دماراً وضرباً من الاستهتار بحياة الناس، شجاعة تستحق التشنيع لا الإشادة، حيث ولى زمن الشجاعة بالمفهوم الكلاسيكي الديني للأخلاق الذي لم يعد صالحاً لزمن تحكمه تقنيات الذكاء الاصطناعي والروبوتات والحروب السيبرانية!

ضخت وسائل إعلام كثيراً من تلك العبارات التي تشير إلى تأثر كبير بخلفيات فلسفية ضاربة في أعماق قرون من التحول المفاهيمي القيمي في أوروبا، بدءاً، من الثورة على الكنيسة والقصر، ومروراً بالثورة على الإله، وصولاً إلى القرن العشرين وما بعده، حيث خلاصة الثورات السابقة، مضافاً إليها غرور الآلة، وتأله الإنسان، والانتقال من الفلسفة المثالية التي ترى ارتباط الأخلاق بالقيم الدينية الثابتة، وتنظر للقيم باعتبارها متصلة بالمثاليات والواجب والفطرة الإنسانية، إلى الفلسفة الواقعية أو الذرائعية البراغماتية التي ترى الأخلاق منظومة من السلوك المتحول، حسب العصر والمجتمع والمصالح المختلفة.

خلال القرن التاسع عشر مالت الفلسفة إلى التخلي عن مقولات كثيرة، وتناولت بالنقد عقائد دينية متشعبة، وبدأ الانزياح من الله إلى الإنسان، عند نيتشه، وانزاح الإنسان من مثالياته العقلية إلى حاجاته الغرائزية، وتحدث داروين عن الأصل الحيواني لهذا الإنسان، وهي النظرية التي غذت فيما بعد معظم ما أتى بعدها من اتجاهات “إنسانية” اختصرت الإنسان في جسده، وحبسته في مجموعة من العقد النفسية المبنية أساساً على حاجاته الغريزية، وهو الخط الذي توج لاحقاً بنظريات فرويد في التحليل النفسي، ثم الاتجاهات الوجودية عند سارتر وفلاسفة القرن العشرين، وغيرها من الاتجاهات التي قامت على رفض “الوصاية الأبوية”، سواء كانت تلك الوصاية من قبل الإله، أو الأب، أو البابا، أو السلطة، أو المنظومة القيمية والأخلاقية، وغيرها من اتجاهات التمرد الذي امتد لجوانب سياسية وثقافية وعلمية وفلسفية واجتماعية مختلفة.

وبما أن الإنسان مختصر في غريزته ولذته ومصلحته ومنفعته، حسب تلك الاتجاهات، فإن الأخلاق يجب أن تكون أخلاقاً نفعية، بعيدة عن مثاليات الأديان والعقائد الدينية، حيث يتحتم فصل الأخلاق عن الدين، لأنهما وإن كانا يمثلان حقلين متجاورين إلا أنهما حقلان منفصلان، حسب النظرة النفعية للأخلاق التي يجب علمنتها، بعيداً عن التفسيرات الدينية للقيم، مع ضرورة فصل الإنسان الأوروبي عن أخلاق “الكتاب المقدس”، على أساس أن النظرة المسيحية للإنسان تتمثل في كونه ملوثاً بالنقص والخطيئة، وهي النظرة التي رفضها التنويريون في القرن الثامن عشر.

 

وقد أسهم في تزايد الدعوات لفصل الدين عن الأخلاق ما اتسمت به المؤسسة الدينية الكنسية من ممارسات بشعة، من تحالف مع الملكيات والإقطاع، وادِّعاء الوساطة الروحية بين الله والإنسان، وتسخير الدين للمنفعة، عبر صكوك الغفران، عدا عن ممارسة الطغيان ضد المفكرين والعلماء، وجرائم محاكم التفتيش الرهيبة، وملاحقة كل من يتهم بمخالفة عقائد الكتاب المقدس، الأمر الذي أدى إلى رفض “أخلاق الكتاب المقدس”، حسب تجلياتها في سلوكيات المنظومة الكهنوتية، وتفسيراتها التي ربطها عدد من المفكرين التنويريين بالخرافات والأساطير، مثل: أفكار “الخطيئة الأولى”، و”التجسيد” و “ألوهية المسيح” ومن ثم بدأت الدعوة لأخلاق علمانية، ستتطور لاحقاً إلى الأخلاق الوصولية الذرائعية، أو النفعية البراغماتية، بعد تخليصها من العلائق الميتافيزيقية.

وهنا، وعلى عكس الطرح الديني، لم تعد الأخلاق تفسر على أساس أنها فطرية، نابعة من التكوين الفطري للإنسان، ومنغرسة في طبيعته ونزوعه المستمر للكمال والخير والجمال والحق، كما تقول الفلسفة المثالية التي تربط الأخلاق بالجوهر الإنساني، والتصور العقلي للواجب، كما نلحظ عند الفيلسوف كانط، وكذا دوركايم الذي رفض ربط الأخلاق بالتفاعلات الاجتماعية، والتجارب والخبرات الذاتية للفرد، بل جعلها مرتبطة بالمثاليات العقلية المرتبطة بأداء الواجب، مهما تكن نتائجه. وبفصل الدين عن الأخلاق أصبحت الأخلاق متغيرة غير ثابتة، أصبحت وسيلة نفعية، لا غاية مثالية، أصبحت مرتبطة بالجسد لا بالروح، وبالواقع لا بالمثال، أصبحت مرتبطة بالمصالح والمنافع، وبما أن المصالح والمنافع متغيرة وغير ثابتة فإن القيم متغيرة وغير ثابتة، بل تختلف من عصر لآخر ومن مجتمع لغيره، وأصبح ما هو صواب في عصر أو مجتمع خطأً في عصر أو مجتمع آخر، حسب النظرة الذرائعية للأخلاق.

وهنا غدتْ الأخلاق منظومة من السلوك المتدرج الذي يتأثر بتجارب الإنسان وخبراته الذاتية، وتفاعلاته المجتمعية، وفق تفسير يربط الأخلاق بتحقيق اللذة والبعد عن الألم، وهي مفاهيم تضرب بجذورها في فكر الفيلسوف اليوناني أبيقور الذي فسر الأخلاق على أساس أنها السلوكيات التي تؤدي إلى تحقيق المتعة للإنسان، والتخلص من الألم، وإن كان أبيقور قد غلب المتعة الروحية والعقلية على المتعة الجسدية والحسية.

وقد طور الفيلسوف الإنكليزي جيرمي بنثام وتلميذه جون ستيوارت هذه النظرة النفعية للأخلاق، حيث تُبرَّر الأفعال والسلوكيات بالنظر إلى المنفعة المتوخاة منها، حسب مقولة بنثام: “إذا لم أجد منفعة في إصبعي الصغرى فلن أحركها”، وهي نظر تجعل الدافع النفعي هو المحفز الأساس أو هو التفسير المنطقي للسلوكيات الأخلاقية.

وبعد ستيوارت وبنثام جاء فيلسوف “الأخلاق البراغماتية”، جون ديوي الذي ربط الأخلاق بشكل أكبر بالذرائعية Instrumentalism، بالمنافع والمصالح، مشيراً إلى انه بما أن المصالح متغيرة فإن الأخلاق تتغير تبعاً لذلك، وأن الأخلاق هي ما يحقق النفع واللذة ويبعد عن الضرر والألم، كما ربط ديوي الأخلاق بالتطور العلمي حيث “تحقق المجتمعات تقدماً أخلاقياً، على قدر ما تحقق من تقدم علمي”، وهي الفكرة التي تشير إلى أن القيم يمكن أن تتطور، كما تتطور المعارف والعلوم، وهي فرضية قد لا تصمد إزاء حقيقة استعمال مبتكرات تكنولوجيا السلاح، خارج الأطر القيمية والأخلاقية. وفقاً لكل ذلك التحول في المفاهيم تغدو شجاعة السنوار ضرباً من العبث والعدمية واللامعنى، وغير تلك من توصيفات خطيرة لا تأخذ في الاعتبار أهمية الثوابت في حياة الأمم والشعوب، بل وأهمية الثوابت الأخلاقية لشعب يقع تحت احتلال يفوقه تسليحاً وقوة، وهو الأمر الذي يجعل التمسك بالقيم والمبادئ، ودعم المنظومة الأخلاقية مهماً لتعويض فارق التسليح. فإذا كان الاحتلال الإسرائيلي يمتلك القوة المادية فإنه من الضروري الحفاظ على القوة الأخلاقية والروحية للفلسطينيين، لتعويض الفارق الهائل في القوة المادية التي تميل لصالح دولة الاحتلال. كما أن إلغاء النظرة التقليدية للأخلاق خطير على مستوى صناعة النماذج الملهمة التي تظل محفزات للمقاومة واستمرار النضال.

إن التقليل من صفة الشجاعة – كقيمة أخلاقية – خطأ وقع فيه من أراد أن ينتقد السياسات المتبعة، ولكنه تخطى انتقاد ما يمكن انتقاده من متغيرات تتمثل في سياسات المقاومين، باعتبارهم بشراً يخطئون ويصيبون إلى انتقاد الأسس الأخلاقية والروحية للمقاومة، هذه الأسس التي تعد من الثوابت الأصيلة اللازمة لاستمرار نضال شعب يرزح تحت الاحتلال منذ أكثر من سبعين عاماً