مباحثات يمنية سعوديه بخصوص إجراءات سير تأشيرات العمرة اجراءات حكومية رادعة ضد محلات الصرافة المخالفة والمضاربين بالعملة في جميع المحافظات المحررة حشود هادرة بمحافظة تعز تنديدا بجرائم الابادة والتهجير بقطاع غزة الذكاء الاصطناعي يورط عملاق التكنولوجيا «تسلا» ويقودها للمحاكمة عبر القضاء كلاب آلية تنظف أحد الجبال المصنفة ضمن قوائم التراث العالمي رابطة اللاعبين المحترفين تكشف عن المرشحين لجائزة أفضل لاعب في الدوري الإنجليزي لشهر أكتوبر دولة خليجية تبدأ بسحب الجنسية من المئات من مطلقات مواطنيها الإنذار المبكر ينشر توقعات الطقس خلال الساعات الـ24 القادمة في 11 محافظة يمنية قراءة تركية: من سيحسم المعركة الانتخابية في أمريكا ويفوز بكرسي الرئاسة؟ أول تعليق من أردوغان على تعيين نعيم قاسم خلفاً لـ نصر الله
أخيرا سالت الدماء مدرارة ضد الاستبداد في دولة عربية، في أول ثورة شعبية في منطقتنا المكلومة بحكامنا المستبدين، بعد ثورة السودانيين على الجنرال عبود والمشير النميري. لقد برهن الشعب التونسي على شجاعة لا ترهب الموت، وعلى استعداد للتضحية قل نظيره في شعوبنا.
وقد كانت ثورة شعبية مجيدة حقا التحم فيها الشعب بكافة أطيافه حتى إنك لتسمع فيها التكبير وترى صورة تشي غيفارا في المشهد ذاته. وعلى الشعب التونسي الذي فتح الطريق أمام شعوبنا بملحمته الرائعة في مقارعة المستبد حتى فر ذليلا مدحورا، أن يقدم نموذجا آخر في عدم التفريط في دماء شهدائه، من خلال بناء دولة الحرية والعدل والديمقراطية.
فكيف يجني الشعب التونسي ثمار الدماء الزكية التي سالت في معركة الكرامة الدائرة اليوم ضد الاستبداد والفساد، وكيف يحميها من المتسلقين في جنح الظلام؟
إن فلول نظام بن علي المستبد الفاسد لم تستسلم لثورة الشعب، كما لم تيأس القوى الغربية التي اعتادت على العبث بمصائر الشعوب من إمكان التحكم والسيطرة الخفية. وها نحن نعيش اليوم محاولة خبيثة لمصادرة أنبل ثورة شعبية في تاريخ العرب المعاصر، بنفس الطريقة التي تمت بها مصادرة الثورة الديمقراطية في الجزائر مطلع التسعينات، فأغرقت ذلك البلد في بحر من الدماء، ووأدت تطوره السياسي. وقد تلبس الغدر الذي تحاوله فلول النظام البائد في تونس لبوس الحكم الدستوري زورا وبهتانا، وهو أمر لا يجوز للشعب الذي بذل دماءه الزكية في سبيل الحرية أن يقبله.
إن الدستور التونسي –على علاته- صريح بحكم التعامل مع الفراغ في السلطة، حيث تنص المادة (57) من الدستور على أنه "عند شغور منصب رئيس الجمهورية لوفاة أو لاستقالة أو لعجز تام يتولى فورا رئيس مجلس النواب مهام رئاسة الدولة بصفة مؤقتة لأجل أدناه خمسة وأربعون يوما وأقصاه ستون يوما... ولا يجوز للقائم بمهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة الترشح لرئاسة الجمهورية ولو في صورة تقديم استقالته… وخلا المدة الرئاسية الوقتية يتم انتخاب رئيس جمهورية جديد لمدة خمس سنوات...إلخ".
فهذا نص صريح لا يدع مجالا للبس حول ما ينبغي فعله دستوريا بعد هرب الدكتاتور المدحور إلى الخارج. لكن ما حدث هو الغدر بتضحيات الشعب التونسي في غرف الظلام بين بعض المتنفذين، وبتواطؤ من فرنسا وبعض الدول الغربية التي كانت حليفة لبن علي. وقد تلبس المتسللون الجدد لبوس دستورية زائفة، فادعوا أنهم يتولون السلطة طبقا للمادة (56) من الدستور التي تتحدث عن تفويض الرئيس مهامه لرئيس الوزراء "إذا تعذر عليه القيام بمهامه بصفة وقتية".
ومن الواضح أن بن علي الذي هرب من نقمة شعبه، لا يمكن وصفه بالعجز المؤقت عن مهامه إلا عند عتاة المزورين الساعين إلى سرقة ثمار الثورة التونسية المجيدة. وعلى الشعب التونسي أن يعد العدة لمواجهة هذا التزييف، وأن يحرص على جني ثمرات ثورته التي رواها بدماء شهدائه، حتى لا يقع فيما وقعت شعوب كثيرة من قبل، بذلت دماءها ثم جنى المتسللون ثمرات تضحيتها، وحرموها حقها الذي بذلت ضريبة الدم من أجل تحقيقه.
وأول الخطوات في هذا السبيل هي تنحية رئيس وزراء بن علي من المنصب الذي استولى عليه زورا وتزييفا للدستور، وترك الخيارات الزمنية والإجرائية مفتوحة دون نهاية دستورية واضحة.
وأمام الشعب التونسي الأبي اليوم أحد خيارين لتصحيح الوضع: خيار دستوري أو خيار شعبي.
أما الخيار الدستوري، فهو أن يتولى رئيس مجلس النواب رئاسة الجمهورية للمدة الدستورية المنصوص عليها، والتي لا تزيد على مدة ستين يوما، وفي هذه الفترة تعد النخبة السياسية وقوى المجتمع المدني عدتها لخوض انتخابات رئاسية وتشريعية.
وأما الخيار الشعبي فهو أكثر تعقيدا، لكنه لا ينبغي استبعاده، خصوصا في حال تعنت رئيس الوزراء العجوز ومن وراءه من فلول زمرة بن علي. وفي هذه الحالة تحتاج الأحزاب المعارضة والقوى النقابية والشخصيات الوطنية التونسية في الداخل والخارج إلى التواضع على قواعد للمرحلة الانتقالية، والتوافق على حكومة إنقاذ وطني يتم تمثيل الجيش فيها، ضمانا لقيامه بحفظ الأمن وحياده السياسي، ريثما تتم انتخابات رئاسية وتشريعية عاجلة بمراقبة دولية.
ومن الضروري في هذه المرحلة الحرص على تمثيل كافة القوى السياسية والاجتماعية في عملية التحول، بحيث تجد هذه القوى صوتها ودورها في مجلس نواب منتخب انتخابا نزيها لا تزوير فيه ولا تزييف. وهنا يجدر بالمعارضين السياسيين التونسيين المنفيين بالخارج -من إسلاميين وليبراليين وغيرهم- أن يهرعوا إلى بلدهم للمساهمة في ترجمة ثورة شعبهم إلى مشروع سياسي مثمر، والحيلولة دون تمكن فلول النظام المتهاوي من البقاء ممسكة بزمام الأمور بعد وضع مساحيق على وجهها القبيح.
وللحفاظ على ثمار الثورة التونسية المجيدة، يتعين على التونسيين الانتباه إلى أربعة محاذير:
أول هذه المحاذير هو الركون إلى السكون بعد رحيل بن علي، وكأن رحيله غاية في حد ذاته، بينما الغاية ليست هدم النظام الفاسد، وإنما بناء نظام العدل والحرية.
فإذا ركن التونسيون إلى الدعة اليوم، واعتبروا سقوط بن علي نهاية للثورة، فإن مستبدا آخر سيجني ثمرات كفاحهم لتحقيق أهدافه الأنانية. إن البذور التي سقاها التونسيون بدمائهم الزكية يجب أن لا تضيع سدى، بل يجب أن تثمر ثمار الحرية والكرامة، لقد بذلت أمتنا بحورا من دماء الشهداء في مقاومة الاستعمار، وفي مقاومة الاستبداد، ثم لم تجن ثمرات جهدها وجهادها، وقد آن الأوان للوفاء لدماء الشهداء، وعدم القبول بأنصاف الحلول، أو الوقوف في منتصف الطريق.
وثاني المحاذير هو الاغترار بأصوات الدول الغربية المتواطئة مع الاستبداد، وهي دول دعمت بن علي أكثر من عقدين سياسيا واقتصاديا، وهي شريك في الجريمة التي تدور رحاها اليوم ضد الشعب التونسي، وشريكة في محاولة الالتفاف على تضحيات الشعب.
لقد رحبت هذه الدول –وعلى رأسها فرنسا- بما دعته "الإصلاحات التي تقدم بها علي"، في محاولة منها لحماية عرش الاستبداد المهزوز، أو منحه نفَسا وفسحة وقت ريثما تعد فرنسا بديلا يخدمها ولا يخدم شعب تونس.
وبعد انهيار رأس النظام ها هي الآن تسعى اليوم إلى مصادرة الحصاد، وإبقاء الزمرة الفاسدة العميلة من خلال الاعتراف بما دعته "الانتقال الدستوري" في تونس. لقد برهنت القوى الغربية –وخصوصا فرنسا- على أنها لا تريد حرية ولا كرامة للتونسيين منذ أيام استعمارها للبلاد حتى اليوم، فلا شيء اليوم يدعو الشعب التونسي إلى الثقة فيها اليوم، بعد أن قرر إمساك مصيره بيديه. أما رفض فرنسا استضافة بن علي، فلا يختلف عن رفض أميركا استضافة شاه إيران.
وثالث المحاذير هو اختلاف الصف داخل المعارضة بشكل يتيح لفلول نظام بن علي، أو للعسكريين الطامحين، أو للقوى الغربية المتربصة، بوأد الثورة الشعبية، من خلال تنصيب قادة دون تغيير جذري في البناء الدستوري والسياسي القائم.
فالمطلوب من قادة المعارضة وهيئات المجتمع المدني في تونس اليوم التخلي عن الأنانية السياسية، والحرص على تغيير قواعد تداول السلطة في تونس، فلا يهم من سيحكم منهم اليوم، إذا كان ذلك جزءا من تحول ديمقراطي حقيقي، أما إذا وجد الاستبداد سبيلا للرجوع فكلهم ضحاياه.
ورابع المحاذير وهو أسوأها هو السماح بالفوضى العارمة لتجتاح تونس، حتى يتمنى الناس حصول الأمن بأي ثمن، ولو بحكم استبدادي جديد. فالحس المدني مطلوب في هذه اللحظة، وروح الانضباط والتركيز على الأهداف السياسية في غاية الأهمية.
إن ما يتمناه كل مستبد هو أن يضع الشعب أمام خيارين: إما الرضا بحكمه وإما الفوضى والفتنة العارمة، وهذا هو منطق "أنا أو الطوفان" المشهور. فعلى التونسيين أن لا يرضوا بأي من هذين الخيارين.
إن أهم ما يحتاجه المجتمع التونسي في ختام هذه الفترة الحرجة أن يتولى رئاسة الجمهورية رجل وطني يحمل بين جنبيه صفات النزاهة والإيمان المبدئي بالحرية والكرامة والعدل الاجتماعي. ويعترف بأنه خادم للشعب لا جبار يستعبده، ويحظى بقبول من الأطياف السياسية المختلفة. ويوجد من أبناء الشعب التونسي العديدون ممن يتسم بهذه الصفات.
لكن الذهن ينصرف في هذه اللحظة إلى د. منصف المرزوقي، الرجل المنصف الحر الذي طالما رفع راية الدفاع عن المظلومين والمقهورين في تونس، وهو شخصية إجماعية يقف على خطوط التماس بين العلمانيين والإسلاميين في تونس، ويحمل تصورا واضحا وإيمانا عميقا بالكرامة الشخصية والحرية الإنسانية.
كما توجد شخصيات وطنية أخرى منها محمد نجيب الشابي الذي برهن على شجاعة في الحفاظ على صوت المعارضة والاعتراض داخل تونس أمام تجبر بن علي، كما برهن على توجه جبهوي جيد تحتاجه تونس اليوم.
إنها لحظة التمسك بالأهداف النبيلة التي ثار الشعب من أجلها، والتمسك بقطيعة كاملة مع حكم بن علي وزمرته، وعدم القبول بأي مساومة تبقي فلول النظام، حتى لا تضيع ثمار الثورة في تونس.