ليس جديداً الحديث عما يشكله اليمن من أهمية استراتيجية بالنسبة إلى دول مجلس التعاون الخليجي، فهو حديقتها الخلفية وعمقها الإستراتيجي الجنوبي ومخزونها البشري الطبيعي والتلقائي غير المكلف، وهو امتدادها الاجتماعي بالقواسم المشتركة الكثيرة في العادات والتقاليد والثقافة والتاريخ، وهو السوق الاقتصادية القريبة والسهلة إليها والبيئة البكر للاستثمار بكل أنواعه في حال تحسنت أحواله الاقتصادية والمعيشية بما يمتلكه من حيوية كبيرة لدى شعبه وتنوع هائل في المناخ والبيئة الجغرافية والإمكانات المتاحة للاستثمار في شتى المجالات زراعياً وصناعياً وسياحياً وسمكياً وغير ذلك من المجالات المتنوعة.
هذا البلد الجار لم يعرف طعم الاستقرار إلا في فترات محدودة من تاريخه المعاصر لأسباب كثيرة تتحمل معظمها الأنظمة المتعاقبة التي حكمته، سواء في عهدي الإمامة شمالاً والاستعمار البريطاني جنوباً، ثم في العهد الجمهوري التشطيري بسبب صراعات الحرب الباردة التي كان أحد ساحاتها، ثم في عهد ما بعد الوحدة، خصوصاً بعد تكريس سلطة الرئيس السابق علي عبدالله صالح وانفراده بالحكم بعد إقصاء شركائه. كل ذلك أدى إلى انفجار الحراك الجنوبي في وجهه في العام 2007، وتبعته ثورة الشباب في مطلع العام 2011 ضمن موجة انتفاضات الربيع العربي حينها.
وفتحت هذه الثورة الباب على مصراعيه لمجلس التعاون الخليجي لاستعادة دوره الحيوي في اليمن عبر مبادرته التي تبناها وبلورها بعد القبول الكبير لها من طرفي الصراع.
قام حينها الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي عبداللطيف الزياني بزيارات مكوكية عدة لليمن والتقى بمختلف الأطراف للتشاور في شأن المبادرة التي اشتهرت لاحقاً باسم «المبادرة الخليجية». وفي وقت كان خصوم صالح جاهزين للتوقيع عليها، كان الرئيس السابق يناور ولا يتوقف عن المناورة بعدما أدرك أن تفعيل المبادرة دخل في مرحلة جادة لا عودة عنها بعدما حظيت بإجماع خليجي ودعم دولي وصل إلى حد الإجماع. ووصل به الأمر إلى حد محاصرة الزياني ومرافقيه في السفارة الإماراتية في ايار (مايو) 2011، وظل يناور حتى محاولة اغتياله الشهيرة في جامع الرئاسة وحتى بعد تعافيه من آثارها، ولم يوقع المبادرة إلا مرغماً في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام نفسه برعاية مباشرة من العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز.
قررت الدول الكبرى التدخل في معالجة الأزمة اليمنية حينها فاعتمد مجلس الأمن مبعوثاً خاصاً للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن، على حساب الدور المحوري لمجلس التعاون. وأصبح مبعوث الأمين العام السابق جمال بنعمر هو صاحب الكلمة الفصل بين طرفي الصراع في اليمن. ومع مرور الوقت تراجع دور مجلس التعاون الخليجي لمصلحة الأمم المتحدة، وكان ذلك خطأ استراتيجياً، إذ كان يجب أن تكون هناك شراكة كاملة بين المجلس والأمم المتحدة في إدارة الأزمة، لكن هذا لم يحدث واكتفت دول المجلس بأن تكون ضمن الدول العشر الراعية للمبادرة والعملية السياسية في اليمن والتي ازدادت مع الوقت إلى 18 دولة وأكثر.
وكان لهذا الخطأ الإستراتيجي آثاره الواضحة خلال الأعوام التالية التي شهدت نجاحات وإخفاقات في الوقت نفسه. ومنذ الختام الناجح لمؤتمر الحوار الوطني في كانون الثاني (يناير) 2014، مضت البلاد إلى الهاوية بسبب قرار الحوثيين وصالح التمرد المسلح على نتائج المؤتمر، بينما كان المبعوث الدولي السابق يعمل على حلول ترقيعية وتوفيقية للصراع المسلح الذي بدأ بذلك التمرد. وكانت دول مجلس التعاون قد أخذت تستشعر الخطر الآتي والانهيار المتوقع، لكنها لم تستعد زمام المبادرة إلا في وقت متأخر من ذلك العام عندما قررت تعيين الدكتور صالح القنيعير مبعوثاً للأمين العام للمجلس إلى اليمن، وقام بأول زياراته في أيلول (سبتمبر) 2014، قبل أيام من اجتياح الحوثيين للعاصمة.
كان التمرد والانقلاب في صنعاء رسالة واضحة من إيران إلى المنطقة جعلت دول المجلس تعمل بجدية، على رغم تأخر الوقت، لاستعادة زمام المبادرة في اليمن، فأداء الأمم المتحدة أوصل الأوضاع إلى حال انسداد، بل إنها شرعت خلال فترة استقالة الرئيس عبدربه منصور هادي (23 كانون الثاني- يناير- 20 شباط - فبراير) تعمل على شرعنة الانقلاب والتعامل معه كسلطة جديدة، لولا انتقال هادي إلى عدن وإعلانه العودة عن الاستقالة التي ظلت معلقة بسبب عدم قبول مجلس النواب لها، وفق الدستور.
وهكذا جاءت عاصفة الحزم ثم الجهود الديبلوماسية الاستثنائية للمجلس لإصدار القرار الرقم 2216 ثم انعقاد مؤتمر الرياض الذي كرس التفاف أهم القوى السياسية اليمنية حول شرعية الرئيس هادي. وهكذا نجح مجلس التعاون والمملكة من ورائه في تحقيق التفاف دولي كامل حول الشرعية اليمنية وإجهاض الانقلاب الحوثي وأهداف إيران منه. تواصل هذا الدور الحيوي أمر ملح اليوم في مرحلة البحث عن حل سلمي ووقف الحرب في اليمن، بل إنه يجب أن يكون دوراً محورياً على الأقل بموازاة الدور الأممي، فيما منطق التاريخ والجغرافيا والمصالح والحاضر والمستقبل يقول ان هذا الدور يجب أن يكون متقدماً عن دور الأمم المتحدة، وأن هذه الأخيرة يجب أن يكون دورها مسانداً وداعماً فقط لدور مجلس التعاون الذي يربط دوله باليمن المصير المشترك.
ولا شك في أن الانفتاح المدروس والمنضبط الذي قامت به دول المجلس مؤخراً على الحوثيين قبل مشاورات الكويت وخلالها يؤهلها كلياً لتصدر وإدارة عملية الحل السلمي ومن بعده الاتفاق السياسي، إضافة إلى الإشراف لاحقاً على ما تبقى من مهمات المرحلة الانتقالية التي نصت عليها المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، ومن بعدها الإشراف على تمويل تكاليف تنفيذ مخرجات الحوار الوطني، فاستقرار اليمن مرهون بإرادة مجلس التعاون وليس المجتمع الدولي، لأنه مصلحة خليجية كلياً، فيما لا يشكل أولوية بالنسبة إلى اهتمامات المجتمع الدولي والدول الخمس الكبرى.