منذ اللحظة الأولى لتولي الرئيس هادي مقاليد الرئاسة في البلاد، انشغل كثيرا باللعب على التناقضات بين الأضداد والخصوم السياسيين وإثارة الأحقاد ونوازع الانتقام عند أصحاب الثارات أملا في التخلص منهم جميعا «للتفرغ لبناء الدولة اليمنية المدنية الحديثة» - كما يكرر دائما في خطاباته - وإخلاء الملعب ليبقى هو اللاعب والناظم الوحيد للعملية السياسية، دون أن يتنبه إلى عواقب الفراغ الذي لا يمكن معه أن يستقيم اللعب، فقواعد اللعبة في الظروف المعقدة التي يعيشها اليمن تقتضي الإبقاء على لاعبين - وإن ضعفاء - ليسهل معهم تبادل تمرير الكرات وتسديد الضربات، تماما كما هو في كرة القدم هو في السياسة أيضا.
ولعل الرئيس هادي ظهر في بداية معركته كأنه قد انقلب على المراهنين على ضعفه وقلة خبرته، وأضعف مراكز قواهم في القوات المسلحة والأمن لصالح مشروعه في السيطرة على هاتين المؤسستين المهمتين، فأبعدهم تدريجيا عن سلطة مباشرة اتخاذ القرار، معتمدا في ذلك على اقتناص الفرص لتمرير ما يريد، لكن المشكلة أن الرئيس تعامل مع الجميع كخصوم سياسيين في وقت واحد، وحاول أن يقضي على الجميع في وقت واحد أيضا.
ففي الجانب العسكري، لعب على حدة التنافس بين طرفي الصراع الرئيسيين في (نظام الرئيس السابق) صالح وأبنائه وإخوته وأبناء أخيه من جهة، واللواء علي محسن الأحمر (أقوى القادة العسكريين) ومجموعته من القيادات المنشقة معه عن الجيش من جهة أخرى، واستغل رغبة كل طرف في إلغاء الآخر، فوجه ضربته للطرفين معا وعمل على إزاحتهما عن المشهد العسكري والأمني باسم (الهيكلة)، التي تمت خلال الأعوام ما بين 2012 - 2014، واستبدل بالقيادات الموالية لكل طرف قيادات عسكرية موالية له، وبالذات من أبناء منطقته أبين.
ونجح الرئيس هادي في إضعاف وإقصاء اللواء علي محسن الأحمر ثم التخلص منه، بينما كان يبدو - بخلاف قادة آخرين - أكثر انقيادا وإخلاصا له، وحرصا على عدم تجاوزه خلال توليه منصب المستشار للدفاع والأمن، فضربه ضربة موجعة بتسهيل وتواطؤ وزير دفاعه لإسقاط عمران في أيدي الحوثيين وسيطرتهم على أهم الألوية العسكرية الموالية له والتخلص من قائده اللواء القشيبي، ليتبعها التخلص منه شخصيا وترتيب إخراجه من صنعاء بعد إسقاطها في أيدي الحوثيين أيضا.
ولكن الرئيس هادي فشل مع صالح حيث نجح مع محسن، فالحوثيون الذين سيطروا على مقر الفرقة الأولى مدرع (المعقل العسكري المفترض للواء علي محسن) واقتحموا قصره وتتبعوا أثره، لم يقتحموا قصر صالح أو قصور أبنائه، ولم يتحركوا باتجاه مواقع تمركز حراسته وقوته، ولم يسيطروا على ممتلكاته كما كان متوقعا - على الأقل - عند التخلص من مستشاري الرئيس هادي، الذي اكتشف - متأخرا - أنه لم يتمكن من قصقصة أذرع صالح العسكرية ولا الأمنية والسياسية.
فصالح، اللاعب الماهر والماكر، تمكن في ظل جهاز أمني ضعيف ومخترق أن يؤجج الصراع ضد خصومه، وضد الخصوم المفترضين لهادي، من خلال تسريب سلسلة من معلومات استخباراتية تضخم من خطر اللواء محسن وحلفائه على نظام هادي من نوع الحديث عن «التخطيط لتنفيذ انقلاب عسكري وشيك مدعوم إقليميا ضد الرئيس»، مما دفع بالرئيس وطاقمه لأن يستعجلوا في التخلص من اللواء الأحمر، عبر تسهيل مهمة الحوثيين، الذين كانوا في الوقت ذاته على تنسيق مع الرئيس صالح في دخول صنعاء وإسقاطها في لحظات خاطفة ومفاجئة.
وكما لم ينجح هادي في توجيه ضربته لصالح، لم ينجح أيضا في استقطاب الحوثيين الذين أصبحوا يتحكمون في حركة الحياة السياسية والعامة في ظل رئاسته بصنعاء وبقية محافظات الجمهورية، ولم ينجح أيضا في احتواء الحراك الجنوبي، لا على مستوى مشاركتهم في الحوار الوطني (18 مارس «آذار» 2013 – 25 يناير «كانون الثاني» 2014)، ولا في قبولهم وإشراكهم في تشكيلة حكومة بحاح (7 نوفمبر «تشرين الثاني» الحالي) المرفوضة حراكيا، والتي تبدو غريبة على أغلب القوى والمكونات السياسية في البلاد، رغم أن الرئيس هادي دفع بسخاء المليارات من الريالات لتشكيل كيانات حراكية موالية، وحاول استقطاب زعامات في الحراك الجنوبي في الداخل والخارج، وهي جهود تحسب له، لكنها باءت جميعها بالفشل، لسبب جوهري ومهم وهو أن الإدارة السياسية للقضية الوطنية وللقضية الجنوبية، بصورة خاصة خلال الثلاث سنوات الماضية من رئاسة هادي للبلاد، لم تخرج عن نمط الإدارة بعقلية إثارة صراع «الطغمة والزمرة»، التي خلفتها أحداث 13 يناير 1986 بين الرفاق في عدن، التي خلفت خلال أسبوع من الاقتتال أكثر من 20 ألفا بين قتيل وجريح، والتي كان الرئيس هادي جزءا من طرفي الاقتتال فيها.
ولعل اللجوء إلى إحياء فكرة العقوبات الدولية التي فرضها مجلس الأمن على الرئيس صالح واثنين من قيادات الحركة الحوثية في 7 نوفمبر الحالي 2014، كانت هروبا إلى الخلف، فهي غير منطقية وغير معقولة، ولن تقدم جديدا للعملية السياسية غير المزيد من التعقيد والتصعيد، لعدد من الأسباب أهمها:
- إن تبنى قيادة الدولة وترحيبها بفرض عقوبات ضد مواطنين يمنيين ينتمون إلى قوى مهمة وفاعلة في العملية السياسية والتطورات القائمة (المؤتمر الشعبي العام، وأنصار الله «الحوثيين») - أمر يتناقض مع اتفاق السلم والشراكة الموقع عليه في 21 سبتمبر (أيلول) الماضي ويهدد بنسفه، كون المؤتمر والحوثيين طرفين رئيسيين فيه.
- يهدد فرض العقوبات بحجب ثقة البرلمان الذي يمتلك فيه «المؤتمر» أغلبية مريحة عن حكومة (بحاح) الذي سارع ورحب بقرار العقوبات ضد الرئيس صالح وقياديين حوثيين قبل أن تمنح حكومته الثقة.
- قرار فرض عقوبات ضد مواطنين يمنيين يفتح الباب لعقوبات من نوع آخر، ولتدخل عسكري أجنبي مباشر محتمل ضد اليمن، يهدد بمزيد من انتهاك السيادة الوطنية.
- يحفز قرار العقوبات القيادات اليمنية المستهدفة وهيئاتها التنظيمية كـ«المؤتمر الشعبي العام» الذي يعتبر أكبر قوة سياسية في اليمن على الدخول في تحالفات علنية مع قوى متهورة غير راضية عن أداء الرئيس هادي وحكومته، الأمر الذي سيسهم في المزيد من إرباك المشهد اليمني المعقد، وقد يراهن على نسف العملية السياسية القائمة برمتها.
ومن هنا، يتضح أن السعي لفرض إقرار العقوبات ضد صالح وقيادات حوثية كان خاطئا وغير موفق، تماما كما كانت الكثير من الخطوات التي اتبعت في مسار العملية السياسية والأمنية خاطئة وغير مدروسة، بما فيها التعامل مع الحوار الوطني ومخرجاته، والتعامل مع الشركاء بكونهم جميعا خصوما يفترض التخلص منهم، وأخيرا تشكيل الحكومة الذي حدث بخلاف ما تم التوافق عليه وفق «السلم والشراكة».. وهي كلها قضايا أسست وتؤسس لأخطاء متلاحقة لا يتحمل وزرها الرئيس وحده، بل المحيطون به أيضا من المستشارين والمقربين، فهؤلاء يمثلون مشكلة الرئيس الكبرى.. لأنهم أربكوه وأربكوا معه المشهد اليمني وزادوه تعقيدا ومأساوية.
* وزير ثقافة يمني سابق
* نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط