الحريري والمسدس المصوب على رأسها
بقلم/ عبد الباري عطوان
نشر منذ: 13 سنة و 11 شهراً و 20 يوماً
الإثنين 15 نوفمبر-تشرين الثاني 2010 01:23 م

نتفق مع السيد سعد الحريري رئيس وزراء لبنان، وزعيم تيار المستقبل، في موقفه الذي عبر عنه في مقابلته مع محطة 'روسيا اليوم' التلفزيونية العربية قبل يومين، واكد فيه انه لن يرضخ للتهديد، لتنفيذ ما يريده الآخرون منه، في اشارة واضحة الى 'حزب الله' والسيد حسن نصر الله على وجه الخصوص، ولكن ما نختلف معه فيه ايضا هو رضوخه الحالي للضغوط الامريكية، وربما العربية التي تطالبه بالمضي قدما في تبني مشروع المحكمة الدولية المتعلقة باغتيال والده، وقرارها الظني المتوقع، رغم معرفته المسبقة بان هذا الرضوخ قد يؤدي ليس الى تفجير لبنان فقط، وانما المنطقة العربية بأسرها.

الذي يضع المسدس في رأس السيد سعد الحريري ليجبره على اتخاذ قرارات لا يريدها هو في رأينا الولايات المتحدة الامريكية بالدرجة الاولى، وبما يخدم الاجندات الاسرائيلية، وليس اللبنانية، من حيث القضاء على كل انواع المقاومة الوطنية المشرفة، وابقاء اسرائيل دولة نووية اقليمية عظمى مهيمنة ومسيطرة على المنطقة ومقدراتها وثرواتها، ومواصلة لعمليات الاذلال لشعوبها ومقدساتها. فممنوع ان تكون هناك مقاومة تذكر بالكرامة العربية المهدورة بعد ان استسلم كبار الكبار.

المحكمة الدولية مسيسة فعلا ولا جدال في ذلك، ويجري توظيفها حاليا من قبل الادارة الامريكية لخدمة اجندات تريد خلق الذرائع والحجج لايقاع حزب الله، ومن خلفه سورية، في مصيدة تحدي قرارات ما يسمى بالشرعية الدولية، من خلال تثبيت تهمة عدم التعاون مع محققي المحكمة، تمهيدا لشيطنتهما، وتبرير العدوان عليهما.

السيد الحريري يتعرض حاليا لعملية 'ابتزاز' امريكية واضحة للعيان، عنوانها تحريضه على الثأر لمقتل والده، بتأييد المحكمة واجراءاتها، وتحقيقاتها، وتبني اي قرار ظني يمكن ان تتمخض عنه، يدين 'حزب الله' او بعض عناصره، يكون مقدمة لبدء عجلة الفتنة الطائفية في الدوران، وبما يؤدي في نهاية المطاف الى حرب اهلية اخرى تحرق الاخضر واليابس في لبنان ويمتد لهيبها الى الجوار العربي وليس الاسرائيلي للاسف. تماما مثلما استهدف مفجرو الحرب الاولى في السبعينات رأس المقاومة الفلسطينية والتفاف معظم الشارع اللبناني المسلم حولها.

فهل من قبيل الصدفة ان المتهمين في المنطقة العربية في المحاكم الدولية هم من العرب والمسلمين الموضوعين على لوائح الارهاب الغربية، والمعارضين لمشاريع الاذلال الامريكية ـ الاسرائيلية المشتركة؟

لماذا لم تشكل الولايات المتحدة محكمة دولية لاغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات، او الزعيم اللبناني الدرزي كمال جنبلاط، او الرئيس الباكستاني ضياء الحق، او اليمني ابراهيم الحمدي او المغربي المهدي بن بركة، ولماذا لا نرى مجرم حرب اسرائيليا واحدا يمثل امامها وما اكثرهم؟

لماذا لا نرى محكمة دولية تشكل بقرار من مجلس الامن الدولي للتحقيق في جرائم الحرب الامريكية في العراق وافغانستان بعد اعتراف مرتكبيها بمسؤوليتهم عن هذه الجرائم من امثال جورج بوش الابن، وتوني بلير مبعوث 'السلام' الدولي في الشرق الاوسط، وديك تشيني نائب الرئيس الامريكي السابق، ودونالد رامسفيلد وزير دفاعه، وهناك في مذكرات هؤلاء، اصرار على الجرم، ومعلومات دامغة بالكثير مما يدينهم.

* * *

السيد حسن نصر الله كان محقا عندما قال ان اليد التي ستمتد الى اي من عناصر حزب الله لاعتقالهم من قبل المحكمة ستقطع، لانه لا يوجد هناك ما يمنع ان تكون قرائن هذه المحكمة 'مفبركة'، واتهاماتها مسيسة.

الم يكن فريق التفتيش الدولي في العراق، في زمن الرئيس الراحل صدام حسين مسيسا، ومزروعا بالجواسيس، من عملاء وكالة المخابرات المركزية، باعتراف سكوت ريتر الذي اصيب بصحوة ضمير مفاجئة دفعته للانقلاب على اسياده السابقين من المحافظين الجدد، وتقديم معلومات دامغة وموثقة حول طرق الاستفزاز التي اتبعها هؤلاء المفتشون لاخفاء نواياهم الحقيقية في استثارة اعصاب الرئيس العراقي، من خلال جرح نخوته وكرامته وبما يؤدي الى دفعه لطرد هؤلاء المفتشين لتبرير العدوان على بلاده لاحقا؟

فلماذا يذهب محققو محكمة الحريري الى عيادة نسائية في الضاحية الجنوبية، تتردد عليها نساء قادة المقاومة الاسلامية، وما هي المعلومات التي يريدون الحصول عليها من جراء فحص مئات الملفات الطبية المغرقة في الخصوصية النسائية، فهل جرى وضع خطة اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري في ارحام هؤلاء النسوة أو احداهن؟

الا يذكّرنا هذا الاستفزاز العلني المكشوف باصرار المفتشين من عملاء المخابرات المركزية على تفتيش غرفة نوم الرئيس الراحل صدام حسين بالاساليب نفسها التي يتبعها محققو المحكمة الدولية؟ وللاغراض نفسها وهم الذين دخلوا غرفة نوم الرئيس العراقي تحت ذريعة البحث عن اسلحة دمار شامل تحت سريره وهم يعلمون مسبقا، ومثلما كشفت الوثائق لاحقا، ان هذه الاسلحة غير موجودة اساسا في العراق، وجرى تدميرها بالكامل قبل سنوات.

* * *

الرئيس العراقي كظم الغيظ، وتعاون بالكامل مع المفتشين، وبلع جميع اهاناتهم، مكرها، ولكن هذا التعاون لم يغير من واقع الامر شيئا، ولم يمنع العدوان على العراق، وتغيير النظام، وقتل مليون انسان بريء، واغراق البلاد في حالة من الفوضى الدموية لم يسبق لها مثيل، ولا نحتاج لسرد تفاصيل الكارثة مجددا.

السيناريو نفسه يتكرر حرفيا هذه الايام في لبنان، وفي اطار اجندة مماثلة معدة فصولها بعناية فائقة، وابرز عناوينها تصفية سلاح المقاومة، ونزع اسنانها، وتقليم مخالبها، وتحويلها الى حمل وديع مثل جميع العرب الآخرين وجيوشهم الجرارة التي ينفقون على تسليحها مئات المليارات من الدولارات، ولكن لخوض حروب تدعم التفوق الاسرائيلي وتعززه.

السيد سعد الحريري رجل طيب، لا نشك في انه يتمتع بحس وطني وانساني صادق، ولكن من المؤلم ان هناك مخططاً جهنمياً لتوظيفه، وطائفته، في خدمة مشروع شيطاني لتدمير لبنان والمنطقة بأسرها، تحت مسميات العدالة والثأر لمقتل والده.

نحن مع العدالة، ومع القصاص من كل المتورطين في جريمة استشهاد والده الذي كان، حسب ما نعرف، من اشد الناس حرصا على نصرة القضايا العربية، والفلسطينية منها على وجه الخصوص، وتعزيز الوحدة الوطنية في لبنان شريطة ان لا تكون هذه العدالة مغشوشة ومزورة، والهدف منها الدمار والخراب وسفك دماء العرب والمسلمين مثلما حدث في العراق الشقيق. وترميل آلاف النساء، وتيتيم عشرات، بل مئات الآلاف من الاطفال الابرياء.

نتمنى من الحريري الابن ان يستفيد من ارث والده العربي القومي، وان يضع مصلحة لبنان والعرب جميعا، فوق جميع اعتبارات الثأر والانتقام، تماما مثلما فعل صديقه وليد جنبلاط، وان ينظر الى الامام لا الى الخلف، وإن فعل فسيدخل التاريخ من بوابة الشرف والكرامة والوطنية، وان لم يفعل فسيدخله من بوابة اخرى يعرفها جيدا.