إمارة الشّارقة أنموذج المُعَاصرةِ المُتصَالحة مع الماضي
بقلم/ محمد الزكري
نشر منذ: 13 سنة و 10 أشهر و 29 يوماً
الإثنين 06 ديسمبر-كانون الأول 2010 06:05 م

العرب يفتخرون بهويتهم المعرفية وواقعها! مجالسنا تكشف لنا حجم اهتمامنا. فكثرة طرح الأسئلة والإسهاب في التحليل، من أجل معرفة موقعنا الحضاري بين الأمم، خير دليل على مدى الاهتمام إذ عادة ما تتوصل أحاديث مجالسنا المستغرقة في عملية التفكيك لحالة العرب المعرفية، إلى أطروحتين. الأولى متواكلة مبنية على أمجاد الماضي، تستشهد بيوم من التاريخ أنتجنا فيه معرفة هائلة تكتفي بمتعة ما يلحقها من لذة انتشاء سحر تراثنا المتخيل.الثانية متشائمة، ترمق الواقع المعاصر من خلف "عدستين سوداوتين" وتصورنا كأمة مستهلكة للمعرفة، عاجزة عن اللحاق بركب الحضارة البشرية، فتبعث فينا حالة من الإحباط والتعاسة.

أطروحتان تروّض عقولنا على اختزال تاريخنا، وواقعنا وأفكارنا، بمعنى آخر هويتنا، وتنقسم إلى مجموعة من الثنائيات المتنافرة مثل: تفاؤل - تشاؤم، أعلى-أسفل السلم، ناجح-فاشل، متطور-متخلف، منتج-مستهلك، تراث-معاصر.ليولـّد ذلك نهجا يجهض آلاف الفرضيات والحالات المتواجدة بين طرفي الأطروحتين من أن تنال قدرا مناسبا من التقييم والمراجعة والتقدير.

هناك تشخيصات لحالة النفس البشرية تتجاوز مجرد التفاؤل أو التشاؤم. هناك قيم أخرى مرتبطة بها مثل الإيمان، العزيمة، الهمة، التوكل، القضاء والقدر.

كما أن المعرفة تنعت بنعوت أكثر من مجرد متطورة أو متخلفة. فالأمة- توصف من ناحية عمرها بـ جنينية، يانعة، شابة، ناضجة، هرمة ومن ناحية ارتباطها بزمن المعرفة بـ تقليدية، تراثية، شبة متحدثة، معاصرة، مستقبلية، الخ.

وفي غمار انشغالنا بكسوة هويتنا المعرفية بملابس وملامح تناسب ميولاتنا نجد أن ثنائية التراث-المعاصرة تتجه نحو مسارين: الانسحاب لماضٍ متخيل أو التـّغرب في حاضر غير مألوف. فهي جدلية يضطرب فيها "التراث" و"المعاصرة" فالأول يفتقد لمعنى واضح والمفهوم الثاني يعسر تعريفه.

ضبابية واقعنا العربي كثيفة وتزداد بفكرنا الاختزالي، إلا أنه يوجد في ثنايا الضبابيه مشروع ثقافي يقع خارج هذه الصورة النـّمطيـّة متجاوزاً "الخوف" على الذات المتعلقة بالماضي إلى "الانطلاق" بـالذات الموالية لـ "الماضي-الحاضر-المستقبل". مشروع جعل من تراثه تربة نابضة لمستقبل التطور. هذا المشروع أطـْلِق عليه مسمى "الشارقة الثقافي". فهوية المشروع لا تنفصل عن التراث بل تطوعه بدمجه بالحداثة لتحريك التغير الاجتماعي فيه.

فارس هذا المشروع التنويري صاحب السموّ الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة الذي استطاع في ثلاثة عقود من أن يدفع بعجلة التغيير والتحويل والتطوير في الشارقة ليخلق واقع نادرا من الإنماء الفكري لتجربة الحكم الخليجي.

فعند البحث عن خطوات هذا المشرع سنجد أنه اعتمد سياسة بناء المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا فوق قاعدة ثقافية متينة. المشروع جعل من الثقافة المحرك الفاعل الأول ومن ثم سمح لباقي القطاعات أن تتشكل فوقه. وهو قرار متميز لا يوجد له مثيل في العالم العربي. مثل هذا المشروع يحتاج حتما إلى سواعد المثقفين من أهل الشارقة لتتضافر يدا بيد لتحقيق أهدافه.

ولكي يتحقق ذلك أنتهج الشيخ سلطان منهج الفكر "التـّحويلي" لبث مفهوم الهوية التـّحويليـّة بين أفراد إمارته. والتـّحويليـّة هي: تحويل الأمة من حال إلى آخر ثقافي\اجتماعي\اقتصادي\سياسي آخر بقيادة قائد يؤمن بقيم (عقائدية، فكرية، اقتصادية، سياسية، إدارية) متوافق عليها مع التمتع بخصال تجذب الأمة حوله. وتميزت أبعاد القيادة التحويليّة عند سموه بما يملكه من بُعْد نظر في التخطيط ومواهب إدارة التغيير، وقيم ومعتقدات الشخصية المتوافق عليها بين مواطنيه إضافة إلى الجاذبية الهادئة الحكيمة.

فجعل سموه "ذاته" أنموذجا ومثالا يحتذى به بين مواطنيه والعرب لكي يبث فيهم العزيمة التـّحويلية. من أجل ذلك قام سموه بمواصلة الدراسة ليرفع من رصيده العلمي ومن تعزيز قدرته النقدية المبنية على أسس علمية ومن ثم وبعنصر الجاذبية يؤثر "القائد التـّحويلي" في أهل الشارقة ليتحولوا إلى أمة علمية تبجـّل البحث والنقد العلمي. التحق الشيخ في برنامج الدكتوراه في جامعة إكستر البريطانية مقدماً على ذلك رغم ارتباطه بوظيفة العمل فيها يمتد إلى 8 ساعات يوميا، وظيفة لا تعرف توقيت عمل منتظم، وتستدعيه أن يلبي ندائها في أي وقت، فهو يشغل وظيفة حاكم إمارة الشارقة، بدولة الإمارات العربية المتحدة منذ عام 1972م.

إقبال الشيخ المتمتع بخصال "القائد التـّحويلي" على العلم شجع كل موظف في إمارته وخارجها على محاذاة سموه والشروع بتحصيل العلم وترك التعذر بمشاغل الوظيفة. فسمو الشيخ متزوج ولديه خمسة أبناء ليكون بذلك محفزاً الأبوين ذوي الأطفال على المثابرة في طلب العلم. فسمو الشيخ نال شهادة لا ينالها المرء إلا بعد جهد التحصيل المعرفي وخاض مشقة مناقشة رسالته وأطروحته العلمية أمام لجنة علمية. نال الشيخ دكتوراه في الفلسفة بالتاريخ من جامعة إكستر في عام 1985البريطانية. هناك رؤساء ممن حصلوا على شهادة الدكتوراه أيضا مثل السيدة أنجلى ميريكل المستشارة الألمانية. ولكن الشيخ القاسمي أقبل على ما لم يقبل عليه سوى القلة من أصحاب شهادات الدكتوراه. فقام بتحصيل شهادة دكتوراه أخرى. فنال دكتوراه الفلسفة في الجغرافيا السياسة للخليج من جامعة دورهام البريطانية في عام 1999. بهذا فهو، كما نعرف، الحاكم الوحيد على الأرض الذي يحمل لقب "دكتور دكتور" أمام أسمه.

من أعمال سموه :

- عضو المجلس الأعلى لاتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة منذ عام 1972م•

- حاكم إمارة الشارقة، دولة الإمارات العربية المتحدة منذ عام 1972م•

- العضوية الفخرية في مركز الدراسات الشرق أوسطية والإسلامية 1992م جامعة دورهام المملكة المتحدة•

- الرئيس الأعلى لجامعة الشارقة منذ عام 1997م•

- الرئيس الأعلى للجامعة الأمريكية في إمارة الشارقة منذ عام 1997م•

- أستاذ زائر، جامعة إكستر منذ عام 1998م•

- رئيس المجلس الفخري، الخدمات الجامعية العالمية منذ عام 1998م•

- محاضر بجامعة الشارقة تاريخ الخليج الحديث منذ عام 1999م•

- الرئيس الفخري للجمعية المصرية للدراسات التاريخية منذ عام 2001•

 

وظائف متنوعة ومتشعبة ولكن مع هذا وجد الفرصة للتأليف في التاريخ والأدب والسياسة. وبلغ إنتاجه المعرفي 30 كتاب:

 

1. أسطورة القرصنة العربية في الخليج، ط.1986

2. الإمبراطورية العمانية (1856-1862)، ط. 1989

3. الاحتلال البريطاني لعدن، ط. 1992

4. العلاقات العمانية الفرنسية 1715، ط.1993

5. الوثائق العربية العمانية في مراكز الأرشيف الفرنسية، ط. 1993

6. يوميات ديفيد ستون في الخليج(1800و1809)، ط. 1994

7. جون مالكوم والقاعدة التجارية البريطانية في الخليج 1800م، ط. 1994

8. الخليج في الخرائط التاريخية ج1 و ج2، 1996

9. الشيخ الأبيض (رواية) ط.1996

10. رسائل زعماء الصومال إلى الشيخ سلطان بن صقر القاسمي في العام 1837، ط. 1996

11. عودة هولاكو (مسرحية)، ط. 1998

12. الأمير الثائر (مسرحية)، ط. 1998

13. صراع النفوذ والتجارة في الخليـج (1620-1820)، ط.1999

14. الخرائط التاريخية ما بين عامي 1478 و 1861 عن ثينك برنت ليمتد ( 1999 ) .

15. بيان للمؤرخين الأماجد في براءة ابن ماجد، ط. 2000

16. القضية (مسرحية)، ط. 2000

17. الواقع (مسرحية)، ط. 2001

18. بيان الكويت (سيرة حياة الشيخ مبارك الصباح)، 2004

19. الحقد الدفين (رواية)، ط. 2004

20. الإسكندر الأكبر (مسرحية)، ط. 2006

21. اليوم العالمي للمسرح، الرسائل العلمية (1962-2007)" ط. 2007

22. رسالة إلى أهل المسرح، ط. 2007

23. الأعمال المسرحية (6 مسرحيات)، ط. 2008

24. نشأة الحركة الكشفية في الشارقة، ط. 2008

25. التذكرة بالأرحام، ط. 2008

26. النمرود (مسرحية)، ط. 2008

27. شمشون الجبار (مسرحية)، ط. 2008

28. محطة الشارقة الجوية بين الشرق والغرب، ط. 2009

29. وصف قلعة مسقط وقلاع أخرى على ساحل خليج عمان، ط. 2009

30. سرد الذات، ط. 2009

كما ذكرنا في المقدمة فهناك من اعتادوا حياة "القطيعة مع المعاصرة" بحجة أنها مهلكة لتراث الماضي، كما أن هناك من نسوا التراث وشرعوا إلى عصْرَنة كل ما فينا حتى قيمنا العزيزة لكن الشارقة مشروع الحراك والتفاعل الهادف مع الواقع المتجدد دون الخروج على قيم الآباء وموروثاتنا الجوهرية.

المختلف الذي انفردت به الشارقة هو نهج القيادة التحويلية الذي ابتدأ بالاعتراف بالحاجة للتغيير فخرجت رؤية جديدة جعلت التغيير عمل مؤسسي. ثم نمت المؤسسات وأخذت الطابع القانوني والاعتباري وبهذه الهوية تشكلت ملامح الدولة وعرفت به.

من خلال خصال القائد التحويلي الذي يتمتع به الشيخ سلطان تمكن من البحث عن الأفكار الجديدة وتشجيع حل المشاكل بطريقة إبداعية من قبل العاملين معه، ودعم النماذج الجديدة والخلاقة لأداء العمل. قائد يستمع بلطف، ويولى اهتمام خاص لاحتياجات مواطنيه وكذلك انجازاتهم من خلال تبنى استراتيجيات التقدير والإطراء. فسمو الشيخ حافظ على صلة بينه وبين أهله من عامة الناس من خلال سياسة الأبواب المفتوحة، من خلال حضوره مجالس الناس والاحتكاك بهم في محافل الثقافة العلم في مجالات التاريخ البشري، التراث، المتاحف، الفن (المسرح، الرسم، الخط)، الرياضة (الجماعية والفردية)، المجد، التجارة، الصناعة،العقار، السياحة، الحدائق، المجمعات، دور السينمات، الشواطئ.

رويدا رويدا أدرك الناس أن ساحات تلاقي الشعب مع الحاكم هي ساحات ذات طبيعة معرفية. ومع تراحل الوقت حصدت خطة التطوير التنظيمي ومفهوم إدارة التنظيم التـّحويليـّة عند سموه نجاح نقل الشارقة من مجرد إمارة تجارية إلى إمارة ثقافية-تجارية-صناعية-خدماتية ذات سمعة خاصة بها.

شخصية سموه العربية العادلة (التي تؤمن بصلة الرحم مع مواطنيه ومع العرب) تحولت إلى ذلك المثال الجميل الذي يسعى المواطنون إلى التماثل معه. مثال حول "التراث-المعاصرة" لتتحول من جدلية متأزمة إلى مشروع إنسجامي يسمح للتراث "المناسب والبنـّاء" بالنفاذ بين مسارب حياة عصرها لجعله خير معين لمواصلة اللحظة التاريخية الراهنة.

أنثربولوجي بحريني مستقل

للتواصل:

m.alzekri@gmail.com