مقامرة الحوثي الأخيرة
بقلم/ فضل حنتوس
نشر منذ: 3 ساعات و 59 دقيقة
السبت 01 فبراير-شباط 2025 10:05 م
  

في مشهد يكشف عن طبيعة المشروع الحوثي القائم على توظيف الصراع كأداة للبقاء، تحشد الميليشيات الإرهابية الحوثية في الآونة الأخيرة قواتها باتجاه مأرب، متوهمةً أن بإمكانها فرض واقع جديد يعيد خلط الأوراق السياسية والعسكرية. إن هذا التصعيد لا يمكن فصله عن جملة المتغيرات التي بدأت تتشكل على المستويين الإقليمي والدولي، حيث يجد الحوثي نفسه اليوم أمام معادلة مختلفة تفقده الكثير من أدوات الضغط التي ظل يستخدمها طيلة السنوات الماضية، سواء عبر استغلال الأزمات الإقليمية أو من خلال استثمار حالة الفوضى لإدامة مشروعه القائم على العنف والإرهاب. لم يكن اختيار هذا التوقيت لتصعيد العمليات العسكرية ضد مأرب اعتباطيًا، بل هو محاولة يائسة لتعويض الخسائر السياسية والعسكرية التي لحقت بالجماعة الحوثية، خاصة بعد أن بدأت تتكشف هشاشة ادعاءاتها حول ارتباطها بـ محور المقاومة وهو الادعاء الذي وظّفته لفترة طويلة لحشد الأنصار وتبرير انتهاكاتها في الداخل اليمني. لقد شكل توقف الحرب في غزة ضربة قاصمة لهذا المشروع الدعائي، إذ سقطت مسرحيات الحوثي التي حاول من خلالها التغطية على أزماته الداخلية عبر الإيهام بأنه جزء من معركة كبرى ذات أبعاد إقليمية ودولية. غير أن انحسار هذه الحرب جعل الجماعة تواجه فراغًا استراتيجيًا إذ لم يعد بمقدورها تسويق خطابها القائم على الاستثمار في قضايا خارجية لتبرير سياساتها القمعية وانتهاكاتها الممنهجة ضد الشعب اليمني.

 

 الحوثي اليوم يدرك أن خطابه المضلل لم يعد كافيًا لاستمرار السيطرة، لذا فقد وجد في التصعيد العسكري وسيلة لإعادة توجيه الأنظار وإحياء مشروعه القائم على منطق الحرب الدائمة. فمأرب بما تمثله من أهمية استراتيجية ليست مجرد هدف عسكري، بل هي عقدة رئيسية في مشروع الحوثي، حيث يسعى من خلالها إلى تحقيق مكاسب متعددة: فمن الناحية العسكرية، يسعى إلى استكمال السيطرة على ما تبقى من المناطق الخارجة عن نفوذه، ومن الناحية الاقتصادية، فإن السيطرة على موارد مأرب النفطية والغازية ستمنحه شريانًا حيويًا يعوّض الخسائر التي لحقت به نتيجة الضغوط الدولية المتزايدة على مصادر تمويله، أما من الناحية السياسية، فإن سقوط مأرب – وهذا لن يحدث – سيمنحه قدرة تفاوضية أعلى، تمكنه من فرض شروطه في أي محادثات قادمة.

 

غير أن ما يتجاهله الحوثي هو أن الظروف التي أوصلته إلى هذه المرحلة لم تعد قائمة، وأن المتغيرات السياسية والعسكرية لم تعد تصب في صالحه كما كان الحال في سنوات الانقلاب الأولى. فالجهات التي ساندته، سواء بالتواطؤ أو بالصمت، بدأت تعيد حساباتها بعدما بات واضحًا أن هذه الجماعة ليست سوى أداة لتوسيع الفوضى وزعزعة استقرار المنطقة. كما أن المجتمع الدولي الذي تعامل سابقًا مع الحوثي كـ طرف سياسي بات يدرك اليوم أن هذه الجماعة لا تختلف في جوهرها عن باقي التنظيمات الإرهابية التي تستند إلى خطاب ديماغوجي يقوم على استغلال الدين لتحقيق مكاسب سياسية. لكن الأخطر من ذلك هو أن الحوثي يواجه اليوم تحديًا داخليًا متزايدًا، إذ لم يعد قادرًا على إخفاء الانهيارات التي تضرب بنيته التنظيمية مع تصاعد الخلافات بين أجنحته، وتزايد الاحتقان الشعبي في المناطق التي يسيطر عليها نتيجة سياساته القائمة على النهب والقمع والتجويع. فبعد أن ظل يستخدم الحرب في غزة كأداة لتخدير الداخل وجد نفسه اليوم أمام واقع مختلف، حيث لم يعد بمقدوره تسويق انتصارات وهمية، ولا الادعاء بأنه يخوض "معركة الأمة" بعدما انكشفت حقيقة أن كل ما قام به لا يعدو كونه محاولة للمتاجرة بقضية عادلة من أجل تحقيق مكاسب سياسية ضيقة.

 

إن اللجوء إلى التصعيد العسكري في هذه المرحلة ليس سوى محاولة للهرب إلى الأمام، إذ يدرك الحوثي أن أي تهدئة طويلة الأمد ستكشف المزيد من التصدعات في بنيته الداخلية، وتُسقط المزيد من الأقنعة عن مشروعه القائم على الاستبداد والتبعية لأجندات خارجية. ولهذا فإنه يسعى إلى استباق أي استحقاقات سياسية قادمة بمحاولة تحقيق انتصار عسكري يعيد ترتيب المشهد لصالحه، ولو كان ذلك على حساب المزيد من الدماء والدمار.

 

لكن ما لا يريد الحوثي الاعتراف به هو أن الشعب اليمني لم يعد كما كان، وأن القوى الوطنية، رغم كل ما واجهته من تحديات، باتت أكثر وعيًا وإدراكًا لحقيقة هذا المشروع، وأكثر استعدادًا لمواجهته وإفشاله. فالمعركة لم تعد مجرد معركة جغرافيا بل أصبحت معركة وجود، بين مشروع وطني يسعى لاستعادة الدولة، وبين مشروع طائفي يسعى لتحويل اليمن إلى مستعمرة تابعة لأجندات خارجية.

 

إن مقامرة الحوثي الجديدة، رغم كل ما قد تسببه من تداعيات، لن تغير من حقيقة أن مشروعه يواجه اليوم تحديات وجودية تهدد استمراره، وأن محاولاته للهروب من استحقاقات الواقع لن تفلح في إنقاذه من المصير المحتوم الذي ينتظره. فالشعوب قد تصبر لكنها لا تنسى، والتاريخ لا يرحم من اعتقد أن بإمكانه فرض شرعية زائفة بقوة السلاح، متناسيًا أن إرادة الشعوب هي التي تكتب النهاية، وأن المشاريع القائمة على العنف والإرهاب، مهما طال أمدها، لا بد أن تسقط في نهاية المطاف، كما سقطت من قبلها مشاريع الاستبداد والطغيان التي ظنت أن بإمكانها البقاء إلى الأبد.