التأصيل النقدي للعملة الوطنية
بقلم/ د.فيصل الحذيفي
نشر منذ: 16 سنة و أسبوعين و 4 أيام
الإثنين 27 أكتوبر-تشرين الأول 2008 03:47 م

مأرب برس – خاص

نجد أن الفكر الاقتصادي العربي والإسلامي يتضمن نوعين من العملة هما : الدرهم الفضي ، والدينار الذهبي ، ولم يكن الاقتصاد تاريخيا يشهد أزمات اقتصادية مماثلة لما شهده العالم في أزمتين كبريين : الأزمة الاقتصادية في العام 1929 من القرن الماضي ، والأزمة الحالية 2008 والممتدة إلى أجل غير معلوم ، وكلا الأزمتين كان سببهما كنه الاقتصاد العالمي:

1- اقتصاد يقوم على المركزية العالمية أو المنظومة الرأسمالية بزعامة الدولة الأكبر( الولايات المتحد الأمريكية ) حيث تهيمن بعملتها الورقية الدولار على السوق العالمية دون ضمان سوى القوة والهيمنة وعلاقتها التجارية المتشعبة مع دول العالم .

2- اقتصاد يقوم على التداول بالعملة الورقية بالدرجة الأولى وانحسر الذهب كعملة احتياطية لدى البنوك المركزية للدول الكبرى فقط ، بينما يحتل الدولار الأمريكي حضورا قويا في كل البنوك المركزية لدول العالم كنقد احتياطي ، وعندما تخسر أمريكا اقتصاديا يتحمل الجميع جزءا كبيرا من خسارتها بسبب هذا الارتباط النقدي .

3- اقتصاد يقوم جزء منه على المضاربات بالسندات والأسهم بهدف الربح السريع، وهي مضاربة تشبه إلى حدما صالات القمار ، لأن المضاربات تتم بالأرقام المعبرة عن المال وأحيانا تنحسر المضاربة بالعملات الورقية التي لا تحمل قيمة لذاتها ولكنها معبر عن قوة الدولة وسياستها الاقتصادية وتبادلاتها التجارية ومشاركتها السوقية بالإنتاج والتبادل التجاري.

4- اقتصاد رأسمالي تقوده الدول الصناعية السبع (روسيا ليست كامل العضوية في هذا النادي) وهي من تحدد المسارات الاقتصادية للعالم وللدول الدائرة في فلكها وللدول التي لا تستطيع الفكاك من هذه الهيمنة الرأسمالية التي تتجسد عبر مؤسستي:( البنك الدولي وصندوق النقد)

هذه المقدمة ستشكل مدخلا لطرح تساؤلات على شكل فرضيات :

1- ماذا لو كانت بعض الدول اليوم يعتمد اقتصادها على العملة النقدية المعدنية حصرا ( ذهب ، فضة ) ؟

2- وماذا لو كان احتياط الدولة النقدي من الذهب حصرا، ولا تقبل الشراء والبيع إلا بالمبادلة والمقايضة بالسلع، والشراء والبيع بالعملة النقدية ذات السعر العالمي؟

3- وماذا لو كان الرأسمال الوطني ( للدولة والشركات والأفراد) ليس مُهـَجـَّرا في البنوك الغربية خارج الحدود الوطنية؟

هل كانت هذه الدولة ستتأثر بالأزمة الاقتصادية الراهنة ؟

إن الإصلاح النقدي الذي نعنيه يقوم على أساس إحلال النقد المعدني محل العملة الورقية . فهل نستطيع فعل ذلك ؟ وما هي شروط هذا الإحلال ومقوماته؟.

يهمنا في هذا المقام توضيح ما ذا نعني بالعملة النقدية المعدنية وكيف يمكن أن تكون بديلا للعملة الورقية وعاملا مهما للاستقلال الاقتصادي والاستقرار المالي؟

تتكون العملة النقدية من معدن الذهب الأبيض ( بلاتين) والذهب الأصفر ، ويأتي في المقام الثالث والرابع معدن الفضة والنحاس. وبخلط هذه المعادن بنسبة متفاوتة يمكن تحديد قيمة التداول لكل قطعة نقدية مصكوكة بسعر ومقدار يتماشى مع مختلف الأسعار الدنيا للاحتياجات الفردية واليومية أو الأسعار التداولية التجارية والنقد الاحتياطي وذلك على النحو التالي:

يمكن للدول العربية أو أي دولة سباقة نحو هذا الإصلاح النقدي: أن تصك الدينار العربي على نوعين : ( دينار فضي ، ودينار ذهبي)

أولا : استعمال الدينار الفضي والذهبي:

1- الدينار الفضي : ( المسبوك من معدني الفضة والنحاس ) وهو دينار يفترض أن يستعمل لغرض التداولات والمشتريات والبيوع الصغيرة، لتلبية حاجيات الصرف الأدنى والتبادل السوقي لشراء حاجيات الأفراد اليومية.

2- الدينار الذهبي : ( المسبوك من الذهب الخالص أو المخلوط مع النحاس) ويستخدم للتبادل التجاري والقيم الكبرى للادخار أو المشتريات التجارية ويحمل عدة أوزان : الدينار العربي الكامل أصلا وزنه 25 جراما من الذهب الخالص، وينبغي أن تقل قيمة القطع النقدية المشتقة منه تدريجيا وفقا للوزن والعيار معا : مثلا : صك قطعة نقدية عيار6 ، 8 ، 10 للعملات الأكثر تداولا ، ثم تصاعديا للأقل تداولا بقطعة ذهبية عيار 12 ، 14 ، 16، 18. وحتى الدينار العربي الكامل ( عيار 24 ووزن 25 جرام).

ثانيا : استعمالات أخرى للنقد المعدني: الاحتياط النقدي والضمانات البنكية التجارية.

1- الاحتياط النقدي من الذهب عيار 24، ومن البلاتين.

2- التبادل التجاري الدولي مع الدول ذات العلاقة التجارية المتبادلة ويمكن اشتراط دفع الثمن عند التصدير بما يساويه ذهبا، أو المقايضة بسلع تبادلية أخرى).

ملاحظة : عيار الذهب يقاس بمزج الذهب الخالص عيار 24 بكمية محددة من النحاس ليقل عياره تدريجيا بحسب كمية النحاس المخلوطة معه والمضافة إليه، فكلما قل العيار تنازليا عن 24 زادت نسبة النحاس فيه وهكذا...الخ.

شروط صك النقد المعدني : أن تكون القطعة النقدية المعدنية ثمنها كقطعة معدنية ( نحاس فضة ذهب بلاتين أو بخلط نسب منها) مساو لقيمة التداول الشرائي للسلع والمشتريات الفردية أو التجارية .

إعطاء العملة النقدية إضافة سعر بمقدار 30 % على سعرها الأصلي مقابل تكاليف السك وضمان عدم استنزافها والمتاجرة بها أو تهريب العملة المعدنية إلى الخارج أو المضاربة بها باعتبارها معادن نفيسة قابلة للتداول عالميا وبدون ضمان لأن قيمتها في مكونها المعدني ولا تحتاج إلى ضمان بنكي كما هو حال العملة الورقية ، كما أن هذه النسبة تسمح بتدخل الدولة بخفض قيمة العملة إذا ما تعرضت المعادن إلى هبوط ملفت في قيمتها ويكون هذا التخفيض محتسب من الخفض في هذه الزيادة المضافة وليس خفضا في القيمة الأصلية للمعادن المكونة لها.

تجدر الملاحظة إلى أن وزن الدينار الذهبي في تاريخ الاقتصاد العربي – كما قلنا أعلاه - يساوي 25 جراما ، وبإضافة 30% إلى سعره الأصلي مقابل الصك وضمان الحماية من المتاجرة بالعملة الوطنية فإن القيمة الفعلية له يفترض أن تساوي عشرة ألف ريال يمني ( خمسون دولارا) كما نستطيع أن نشكل قطع نقد ذهبية دون الدينار بقيم متعددة : وفقا للعيار والوزن : قطعة نقدية تعادل أربعة ألف ريال ، وقطعة نقدية تساوي ألفين ريال ، وأخرى تساوي ألف ريال.

كما أننا بوسعنا أن نصك دينارا فضيا تساوي قيمته الكبرى ( ألف ريال ) ويتفرع منه نصف دينار ( خمسمائة ريال) وربع دينار ( مائتين وخمسين ريال) وعـُـشر دينار - بضم العين) ( مائة ريال)

كما يمكننا تجزئة عـُـشر الدينار إلى مائة قرش وهذه التسمية هي إحدى استعمالات النقد العربي الخالص ، بحيث يصبح عـُـشر الدينار يساوي مائة قرش من النحاس الخالص، وتتجزأ إلى قطع نقدية فئة عشرة وعشرين وثلاثين وخمسين قرش، وذلك بغرض الاستعمال الأدنى لقيمة المشتريات اليومية. ويكون ثمن وزنها مساو لقيمة التداول بها.

يفترض أن يتم إحلال العملة الورقية بالتدريج ، فكل عملة ورقة مهترئة تسحب من السوق وتحرق وتستبدل بعملة نقدية معدنية ، وكذلك استبدال النقد الاحتياطي بالذهب.

سيعتقد الكثير من الناس – خطأ - أن هذا النوع من النقد سيكون أصعب حملا وتداولا من العملات الورقية ، لكن العكس هو الصحيح ، فالمليون الريال من العمل الورقية اليمنية يشغل حيزا ووزنا أكثر من وزن خمسة دنانير ذهبية يبلغ وزنها 125 جراما ومساوية له في القيمة، ويمكن حملها في الجيب على نحو أخف وأقل حيز من العملة الورقية اليمنية تحديدا. 

ما هي الجدوى الاقتصادية لاستعمال النقد المعدني النفيس ؟

- عدم الحاجة إلى ضمان مقابل إصدار العملة المعدنية فقيمتها في ذاتها

- عدم انهيار العملة : فالتغيير الحاصل في أسعار العملة عادة ما يكون صعودا وليس هبوطا وهذا يكون لصالح الفرد والنظام الاقتصادي وتصاعد القوة الشرائية للعملة والمستعملين لها، وهو ما يؤدي إلى انخفاض الأسعار كلما ارتفع سعر المعادن المكون للعملة النقدية المعدنية.

- عدم مصاحبة الاقتصاد الوطني لظاهرة التضخم على أي وجه من الوجوه

- كلما ارتفع سعر معدن العملة كلما انخفضت أسعار السلع وشعر الناس بالرخاء وارتفعت قوتهم الشرائية.

- انخفاض سعر العملة المعدنية عادة بطيء وأقل عرضة لانهيار قيمتها مقارنة بالعملة الورقية ، وتستطيع الدولة بالتدخل بخفض قيمتها من القيمة المضافة لها والمقدرة بــ 30% .

- استقرار أسعار السوق وعدم حصول هزات اقتصادية .

- القدرة على التخطيط الاقتصادي الفردي للمشاريع الخاصة، والمؤسسي للشركات الاقتصادية ، واقتصاد الدولة على المدى الآني والقصير والبعيد وذلك بسبب الثبات المصاحب للتوازي الايجابي بين العملة المعدنية والأسعار.

- لسنا بحاجة إلى شركة دولية لصك النقود بمبالغ باهظة فكل صائغ يستطيع صك النقد الخاضع لإشراف الدولة بحسب القيمة المحددة وفق القاعدة التالية : ( قيمة المعدن حسب مكوناته، ووفقا للعيار والوزن، زائدا 30% قيمة مضافة إليه).

- حماية العملة من الغش والتزوير وسهولة المراقبة بعد وضع الختم السري على القطعة النقدية المعدنية والشعار والاسم والرسم والقيمة في وجهي العملة.

النظرة السطحية ستدفع إلى السخرية من هذا الاقتراح لأسباب:

- إننا دوما نقاوم التغيير للجديد ونتشبث بما هو مألوف لدينا مهما كان كارثيا

- إننا لن نتخلى بسهولة عن العملة الورقية إلى عملة يخيل إلينا أنها تعيدنا إلى العصور القديمة وأنه ليس بوسعنا أن نغرد خارج السرب ، مع أن المعادن النفيسة هي مما هو معلوم سعرها دوليا كمعيار للقيم ، ولا تغريد خارج السرب.

- نعتقد خطأ بصعوبة الاحتفاظ والنقل والحمل والتداول للعملة النقدية ، وبمقارنة بسيطة سيتبين أن العملة النقدية أسهل وأيسر في الاستعمال، وقد أشهرنا مثالا لذلك ، خمسة دنانير ذهبية (125 جراما) تساوي مليون ريال يمني.

- نقل العملة النقدية والاحتفاظ بها أكثر أمنا من الحريق أو الحوادث ، فهي لا تتعرض للحريق أو التآكل والتمزق ، فبينما نجد العملة الورقية المنقولة بشاحنة كبيرة معرضة للتلف لأي حادث كان ( حريق أو اصطدام ) فضلا عن تآكلها واهترائها بسبب الخزن أو الانتقال اليومي بين الأيدي.

فلنعد إلى العصر الإسلامي الأول إذا كان هذا الخيار هو الذي سيحمينا من الأزمات الاقتصادية العالمية المستفحلة والمتقلبة والمتعددة الوجوه ، وإذا كان سيحقق لنا جزءا من الاستقلال والاستقرار الاقتصاديين.

ما هي العوائق إزاء هذا الإصلاح النقدي ؟

هي عوائق ذاتية ، عائق الإرادة لدى صناع القرار السياسي والاقتصادي ومن يرسم السياسية العامة في أي دولة . لذلك فإن المعني بهذا المقال في أي دولة هم: رئيس الدولة ، رئيس الحكومة ، وزير الاقتصاد ، وزير المالية ، محافظ البنك المركزي ، مدراء البنوك التجارية والإسلامية ، ورجال الاقتصاد والأعمال ومؤسسات القطاع الخاص ذات الحضور المالي العالي ، وعلماء الاقتصاد والأكاديميون.

hodaifah@yahoo.com