|
حين يتكلم أردوغان فإن الجميع يرهفون السمع وينصتون، بعدما أصبح الرجل الأعلى صوتاً والأكثر صدقية واحتراماً بين زعماء المنطقة، وبعدما أصبحت حكومته لاعباً أساسياً له حضوره وكلمته في كل الملفات المهمة التي تحفل به الساحة السياسية . حتى وصفته بعض الصحف “الإسرائيلية” بأنه عبدالناصر هذا الزمان . في هذا الحوار الذي أجريته معه في أنقرة، قبل وصوله إلى القاهرة وانطلاقه منها إلى ليبيا وتونس، تحدث أردوغان عن كل القضايا الساخنة والتفاعلات الجارية في العالم العربي . اليوم يشرح موقف بلاده من “إسرائيل” وغداً يتحدث عن متغيرات الخريطة العربية .
في يوم وصولي إلى أنقرة - الأربعاء 7/9 نشرت صحيفة “معاريف” مقالاً لأحد كتابها (نداف إيال) تحت عنوان “عصر الضعف”، تحدث فيه عن “الإعصار السياسي” الذي تواجهه “إسرائيل” . وقال إن حكومة أنقرة تتحدى الآن “إسرائيل” وتعلن على الملأ عن طرد سفيرها وتقليص علاقاتها الاقتصادية معها، كما تتحدث علناً عن إمكانية وقوع مواجهة بين الدولتين بسبب تنقيبات الغاز التي تقوم بها “إسرائيل” في البحر الأبيض، ولا تتردد في أن تهدد في الطريق بلداً عضواً في الاتحاد الأوروبي هو قبرص . وحين تواجه “إسرائيل” أزمة من النوع الحاصل حالياً مع تركيا التي هي عضو كبير في حلف الناتو وقوة إقليمية عظمى، فإن ذلك يعني أن ثمة متغيرات استراتيجية، ترسم صورة للضعف والتآكل في مكانتها .
أضاف الكاتب قائلاً، إنه في اليوم الذي أعلنت فيه تركيا عن خفض مستوى العلاقات مع “إسرائيل” وعن العقوبات التي فرضتها، فإنها أعلنت أيضاً عن قبولها إقامة منظومات رادار تابعة للناتو على أراضيها (يفترض أنها موجهة ضد إيران) فإن أنقرة أرادت أن تبعث إلى أوروبا وواشنطن برسالة تقول فيها: نحن لا ننقطع عن الغرب، بل عن “إسرائيل” فقط . وهي رسالة ماكرة وذكية من جانب الأتراك، لكنها محزنة بالنسبة إلى “إسرائيل” .
مثل هذه الكتابات حفلت بها الصحف “الإسرائيلية”، منها ما ذكر أن العالم تعب من “إسرائيل” (هاآرتس 2/9)، وأن الجيش أخطأ (بقتله الأتراك التسعة الذين كانوا على السفينة مرمرة، وهو الحادث الذي فجّر الأزمة) لكن الدولة “الإسرائيلية” هي التي تدفع الثمن الآن (معاريف 4/9) . تحدثت صحف أخرى عن أن “الدولة في خطر” (هاآرتس 2/9)، وعن أن الاعتذار لتركيا يجنب “إسرائيل” الضرر الاستراتيجي الذي يترتب على القطيعة معها (معاريف 7/9) وأن “إسرائيل” أصبحت الآن تحت الحصار وليس غزة وحدها (هاآرتس 7/9) .
(2)
قلت لأردوغان: موقفكم فاجأ الجميع وخلط الأوراق في المنطقة، حتى أصبحت بعض الأطراف “الإسرائيلية” تتحدث عن عودة شبح الحرب إلى المنطقة (تصريحات اللواء بال ابزنبرج قائد الجبهة الداخلية في معهد البحوث “الإسرائيلية” ونفي وزير الدفاع إيهود باراك لها) .
- قال: بالنسبة لنا لم نفاجأ بشيء، لأننا منذ قامت “إسرائيل” بالهجوم على سفينة الإغاثة المتجهة إلى غزة (31/5/2010) أعلنا موقفنا بوضوح وحددنا طلباتنا التي تمثلت أولاً في الاعتذار للشعب التركي وحكومته، وثانياً تعويض أسر ضحايا الحادث، وثالثاً إنهاء حصارة غزة غير الإنساني وغير القانوني، لكن البعض لم يأخذ كلامنا على محمل الجد، رغم أننا كنا نعني ما نقول، ولم يتغير شيء في موقفنا الذي أعلناه منذ نحو أكثر من عام، لكنّ لدينا مشكلتين تفسران مسألة “المفاجأة” التي تتحدث عنها . الأولى أن “إسرائيل” اعتادت ألا تحاسب على تصرفاتها، وأن تعد نفسها فوق القانون ومعفية من أي حساب على ما ترتكبه من أخطاء أو جرائم . والثانية أنها تحولت بمضي الوقت إلى طفل مدلل أفسده المحيطون به، فلم تكتف بممارسة إرهاب الدولة بحق الفلسطينيين، وإنما أصبحت تتصرف برعونة تفتقد إلى المسؤولية، وتستغرب أن يحاول أي أحد أن يدعوها إلى احترام غيرها واحترام القوانين السارية .
قلت: هل ترى أن التلويح باحتمالات المواجهة المسلحة لا أساس له؟
- قال: “إسرائيل” بعقليتها التي أشرت إليها لا تريد أن تعترف لا بأخطائها ولا بأن العالم من حولها تغير . لا تريد أن تفهم أن في تركيا نظاماً ديمقراطياً حريصاً على أن يعبر عن ضمير الشعب وأشد حرصاً على أن يدافع عن كرامته . في الوقت ذاته فهي لم تستوعب جيداً حقيقة التغيرات التي حدثت في العالم العربي، حين سقطت بعض أنظمته المستبدة واستردت الشعوب وعيها ورفعت صوتها عالياً . مدافعة أيضاً عن الحرية والكرامة . بل إن “إسرائيل” باتت رافضة حتى للإنصات لبعض الأصوات العاقلة في الغرب التي أدركت حقيقة متغيرات المنطقة ودعتها إلى الاعتذار لتركيا عما فعلته بحق أبنائها الذين قتلتهم .
ماذا فعلت “إسرائيل”؟ سأل أردوغان ثم قال، كما أنها تسارع إلى اتهام كل من ينتقد سياستها بأنه معاد للسامية، فإنها تحدثت عن عودة شبح الحرب على ألسنة بعض المتطرفين فيها . ورغم أن تركيا في ردها على الاستعلاء “الإسرائيلي” لم تتحدث إلا عن التزام القانون الدولي واللجوء إلى العدالة الدولية، وحماية المياه الدولية في البحر الأبيض، إلا أنها آثرت تجاهل كل ذلك والاستسلام لسلوك الطفل المدلل الذي يؤثر الصياح وإثارة الضجيج على الاعتراف بمسئوليته عن الأخطاء التي ارتكبها .
قلت إن لجنة التحقيق الدولية برأت ساحة “إسرائيل” من العدوان على السفينة مرمرة وانتقدتها فقط في استخدامها المفرط للقوة ضد ركابها - (اللجنة شكلتها الأمم المتحدة برئاسة جيفري بالمر رئيس الوزراء النيوزيلندي السابق وحملت اسمه) .
- قال: هذا التقرير لا قيمة له، وهو عار على واضعيه وعلى الجهة التي أصدرته، يكفي أنه أضفى شرعية على الحصار، بما يفتح الباب لقبوله بشرعية الاحتلال، ثم إنه اتسم بالتناقض ليس فقط في المعلومات التي أوردها، ولكن أيضاً مع ميثاق الأمم المتحدة ذاته، لذلك فإننا لن نعترف به، وسنلجأ إلى العدالة الدولية للدفاع عن حقوقنا كحكومة وشعب، ولدينا من الوثائق والتقارير التي تدين الجريمة الإسرائيلية بصورة قطعية .
(3)
حين سألت رئيس الوزراء التركي عن تفاصيل هذه النقطة قال إن هناك جوانب في المسألة لا تقبل الشك هي: أن السفينة كانت موجودة في المياه الدولية على بعد 78 ميلاً من شواطئ غزة - وأنها كانت مسالمة تماماً ولم يثبت لأي جهة أنها كانت تحمل سلاحاً من أي نوع، وأن كل حمولتها كانت محصورة في المواد الإغاثية - وأن الجنود “الإسرائيليين” اقتحموا السفينة من البحر والجو وبادروا إلى إطلاق النار على ركابها المسالمين - الذين كانوا منتمين إلى 33 دولة - وأن القتل من جانبهم كان متعمداً حتى إن لدينا تقريراً للأطباء الشرعيين سجل أنهم تعمدوا قتل الأتراك التسعة الذين كان من بينهم شاب عمره 19 سنة يحمل الجنسية الأمريكية . وأثبت الطب الشرعي أن هذا الشاب فرقان دوغان قتل برصاصة وجهت إلى جبهته أطلقت عليه من مسافة 30 سنتيمتراً - الثابت أيضاً أن الأتراك التسعة تلقوا 35 رصاصة، وأن نصيب الشاب فرقان وحده خمس رصاصات (قال أردوغان إنه روى القصة للرئيس الأمريكي حين التقاه، وأخبره أن واشنطن تخلت عن أحد مواطنيها، وأن أوباما استمع للقصة ولم يعلق عليها - وقد وصفه روجر كوهين المعلق البارز في صحيفة نيويورك تايمز بأنه الأمريكي المنسي) .
وقتذاك -أضاف أردوغان- كان لابد لتركيا أن تحدد موقفاً إزاء ذلك العدوان الصارخ، وهو موقف ضد السلوك السياسي وليس ضد الشعب “الإسرائيلي” . ولأن الحكومة تعرف أن دفاعها عن كرامة الشعب التركي أهم بكثير من العلاقات التي تربطها بإسرائيل، فإنها طالبت “إسرائيل” بالأمور الثلاثة التي سبق ذكرها وهي الاعتذار والتعويض وإنهاء الحصار . وكانت تلك هي الخطة (أ) التي لجأت إليها في ترتيب التعامل مع القضية . وبعد إثارة الموضوع في دوائر عدة، تم تشكيل لجنة الأمم المتحدة، ومر أكثر من عام حتى انتهت اللجنة من تقريرها الذي جاء في أكثر من 200 صفحة . صبرت تركيا طول الوقت، واستجابت للرغبة في تأجيل صدور التقرير لإتاحة الفرصة لتسوية الموقف ودياً مع “إسرائيل”، ولكن حكومة تل أبيب واصلت الإعلان عن رفضها تقديم الاعتذار، ثم طلبت تأجيل إصدار التقرير لستة أشهر أخرى (وزيرة الخارجية الأمريكية كلينتون نقلت هذه الرغبة إلى وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو أثناء لقائهما في باريس يوم الخميس الأول من سبتمبر على هامش الاجتماع الذي كان مخصصاً لبحث الأوضاع في ليبيا، لكنه رفض العرض وأبلغها أن أمام “إسرائيل” مهلة أسبوع واحد لكي تحدد موقفها النهائي) . وحين سربت الصحافة الأمريكية مضمون التقرير في اليوم التالي مباشرة (2 سبتمبر)، كان لابد أن ترد تركيا . وبالتالي فإنها أعلنت عن إجراءاتها الخمسة التي تضمنتها الخطة (ب) المعدة سلفاً ضمن استراتيجية التعامل مع الملف، وفي مقدمتها خفض التمثيل الدبلوماسي إلى مستوى السكرتير الثاني، بما يعني طرد السفير ونائبته ومن دونهما حتى تلك الدرجة، وتجميد الاتفاقات العسكرية مع “إسرائيل” وتحريك البوارج العسكرية لحماية البواخر التركية في المياه الإقليمية شرقي البحر المتوسط، وتبني القضايا التي ترفعها أسر الشهداء ضد “إسرائيل” أمام العدالة الدولية .
قلت: معلوماتي أن الملحق العسكري “الإسرائيلي” رفض مغادرة أنقرة .
- قال: هذا صحيح ولكننا سنرغمه على ذلك بالوسائل الدبلوماسية، لأن تخفيض مستوى التمثيل يشمل الملحقية العسكرية أيضاً، بحيث تخفض من رتبة عميد إلى عقيد .
قلت إن تحريك البوارج التركية إلى موانئ شرقي البحر المتوسط أسهم في إثارة الشكوك عن احتمالات الحرب، كما أن تجميد العلاقات أدى إلى انهيار البورصة في تل أبيب .
- قال: دعني أشرح لك الموقف بصورة أكثر تفصيلاً .
(4)
لقد هاجمت “إسرائيل” السفينة مرمرة في المياه الدولية في استهتار شديد بالأعراف والقوانين المتعارف عليها، هكذا تحدث أردوغان، ثم أضاف أنه بهذا الهجوم فإن “إسرائيل” تعاملت مع البحر المتوسط وكأنه بحيرة “إسرائيلية” حكر عليها . وكان لابد لنا وللمجتمع الدولي أيضاً أن يردها إلى صوابها . وكل ما قلناه إن بوارجنا الحربية ستحمي السفن التركية من الاعتداء أثناء مرورها بالمياه الدولية، وهذا حقنا المشروع ليس لأحد أن يعترض عليه، لكن ذلك أغضب “إسرائيل” التي أرادت أن تدافع عن استيلائها على المياه الدولية في شرقي المتوسط .
أعدت عليه قولي إن وجود البوارج التركية يفتح الباب لاحتمال الاحتكاك مع البحرية “الإسرائيلية”، التي قد تحاول استفزاز تركيا واستدراجها إلى مواجهة عسكرية، عندئذٍ قال إن ذلك احتمال مستبعد، لا تؤيده كل معطيات الواقع الإقليمية والدولية، ومع ذلك فإن البحرية التركية مستعدة لمواجهة كل الاحتمالات وأسوأها .
في ما خص تجميد الاتفاقات -أضاف أردوغان- فإن الموقف التركي حدد الاتفاقات العسكرية ولم يشر إلى العلاقات التجارية على محدوديتها (حجم التبادل التجاري السنوي بين البلدين في حدود مليارين ونصف المليار دولار)، ومن جانبنا فإن العلاقات الاقتصادية يفترض أن تستمر كما هي حتى لو ألقت عليها التطورات الحالية بين البلدين ببعض الإسقاطات السلبية .
استدرك أردوغان قائلاً: رغم أننا لم نتخذ أي إجراء يمس العلاقات الاقتصادية مع “إسرائيل”، فإنها لم تتصرف معنا بشرف ولم تلتزم بأخلاقيات التعامل التجاري .
سألته كيف؟ فأجاب قائلاً: إن تركيا كانت قد اشترت من “إسرائيل” 6 طائرات من دون طيار، ودفعت ثمنها كاملاً أثناء العمل بالاتفاقات العسكرية الموقعة بين البلدين . هذه الطائرات احتاجت إلى صيانة خلال الأشهر الأخيرة فتم إرسالها إلى “إسرائيل” لإجرائها . وبعد أن تمت الصيانة المطلوبة فإنها رفضت إعادتها إلينا، واحتجزتها على أراضيها . وهو تصرف ما توقعنا أن تلجأ إليه نظراً لتعارضه مع المبادئ الأخلاقية المتعارف عليها في التعامل التجاري .
(5)
قلت لرئيس الوزراء التركي إننا فهمنا مضمون الخطة (ألف) والخطة (باء) في سيناريوهات التعامل مع ملف الأزمة، لكننا نستشعر فضولاً وقلقاً عن احتمالات الخطة (جيم)، فسكت لحظة.
وقال إننا لا نريد أن نستبق، لأن الإعلان عن الخطة وثيق الصلة بردود الأفعال “الإسرائيلية”، ومدى استعدادها للقبول بحل منصف وعادل يحفظ لتركيا حقوقها وكرامتها . وما أستطيع أن أقوله في هذه الجزئية إننا ملزمون بأربعة أمور هي: الحفاظ على كرامة وحقوق الشعب التركي الذي أولانا ثقته وتعين علينا ألا نفرط في دمائه التي أهدرها الجيش “الإسرائيلي” - وقف الاستهتار والعربدة “الإسرائيلية” التي اعتادت أن تدوس على القوانين والأعراف والمواثيق الدولية - ثم التمسك في تحقيق المطالب التركية بطرق أبواب العمل السياسي والدبلوماسي وبالاحتكام إلى العدالة الدولية، أخيراً فإننا نتمسك بإنهاء الحصار المفروض على غزة لتعارضه الفادح مع القانون الدولي .
قلت: رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو تحدث عن رغبة بلاده في تحسين وترميم العلاقات مع تركيا، ومعلوماتي أن هناك وسطاء كثيرين يعملون على وصل ما انقطع بين البلدين .
حينئذٍ علق أردوغان قائلاً: كل هذا صحيح، ولكن بعد أن تعتذر “إسرائيل” وتستجيب للشروط التي أعلناها، ولا ينبغي أن يتصور أي أحد، لا نتنياهو ولا غيره أن تركيا يمكن أن تفرط في كرامة شعبها ودماء أبنائها . وهذا الكلام سمعه كل من فاتحنا في الموضوع من وسطاء نحمل لهم مشاعر التقدير والاحترام .
أضاف: إن قادة “إسرائيل” حينما فشلوا في قراءة الواقع المحيط بهم، فإنهم خسروا أنصارهم وليس فقط أصدقاءهم، وذلك حاصل حتى في داخل الولايات المتحدة ذاتها . وحين يقول وزير الدفاع الأمريكي السابق ورجل الاستخبارات الأسبق إن نتنياهو خطر على “إسرائيل”، وإنه يدفع ببلاده إلى مزيد من العزلة الدولية، فتلك إشارة عميقة الدلالة، تبين مدى التأثيرات السلبية التي أحدثتها ممارسات السياسة “الإسرائيلية” بما اكتنفته من استهتار دفعها إلى احتقار القانون الدولي والمواثيق والأعراف المستقرة، في العالم المتحضر . وقد سكت كثيرون على ذلك حتى حولوا “إسرائيل” إلى طفل مدلل ومغرور، وما كان لتركيا أن تسكت حين أرادت أن تمارس ذلك الدلال والغرور حين أسالت دماء أبنائها، فقررت أن تتصدى لتلك العربدة وأن توقفها عند حدها .
في الإثنين 12 سبتمبر-أيلول 2011 07:58:52 ص