كانت مشكلتنا مع علي عبدالله صالح تسييس الوظيفة العامة واستخدامها لكسب الولاءات وهو ما أدى الى توزيعها وفق المحاصصة الحزبية احيانا ، والمحاصصة الأسرية والقبلية والمناطقية احياناً ، وفي اطار النخب المتحالفة مع صالح ونظامه في أغلب الاحيان ، ولهذه مستوياتها المتدرجة من الاعلى الى الاسفل
الآن بدأت بعض المؤشرات المريبة تصدمنا ، إذ نشهد تداولات بعضها معلن وبعضها يتحرك تحت السطح في المقايل والغرف المغلقة ومراكز النفوذ وجماعات الظغط ولوبيات المصالح المتجذرة ، وكلها تعمل بدأب لإبقاء الوظيفة العامة رهن التقاسم والمحاصصة ، وأكثر ما يدعو للدهشه والاحباط تحمس بعض القوى السياسية المنضوية في اطار الثورة الشبابية السلمية والتي وصلت للحكومة ووزاراتها في سياق المشروعية الثورية ، تحمسها لهذه المعايير التي تقتحم الوظيفة العامة وتسيسها
وطالما والنوايا التي بدت بعض مؤشراتها تحرث في وادي صالح علينا أن نرفع أصواتنا من الآن ، فما زلنا في طرف " السوم " وبإمكان الساحات الثورية والرأي العام أن يظغط لمنع القوائم المسلوقة في مقرات الاحزاب ومقايل جماعات الظغط من التحول الى قرارات رسمية
ولعل المتراس الأول في مواجهة أي تعيينات تخل بمعايير الوظيفة العامة هو المؤسسات والجهات ومنتسبيها اللذين يدركون جيداً أوضاع مؤسساتهم وهم وحدهم أخبر بشعابها . فقد أزيحت كائنات مزمنة في التوجيه المعنوي وطيران اليمنية والمؤسسة الاقتصادية وغيرها بفعل توفر أسباب موضوعية للإزاحة أهمها الرفض الكاسح لهذه الكائنات من قبل أغلبية المنتسبين لهذه المؤسسات وموظفيها والعاملين فيها ، ولم تأتي هذه التغييرات لأن الحزب الفلاني حرك الموظفين أو لأن جماعات المصالح الجديدة قررت الظغط لاحداث هذه التغييرات
وقد وصل الوضع بالبعض في جهتي الوفاق الى حد المطالبة باعتماد المحاصصة في المؤسسة السيادية العسكرية ، وأثاروا انتقادات وبعض الغبار على قرارات الرئيس هادي التي لبت جزءا من مطالب الشعب بانهاء احتكار الاسرة للمراكز القيادية في الجيش والأمن ، وهي القرارات التي اتسمت غالبيتها بالمعيار الوظيفي المهني وتجنبت المعايير التقاسمية الى حد كبير
ويتطلع الشعب اليمني الى رئيسه الجديد وحكومة الوفاق لتحقيق استقلالية الوظيفة العامة ومؤسستي الجيش والأمن عن الهيمنة العائلية والقبلية ، واعتماد معايير مهنية محايدة في التعيينات الجديدة ، وفي اطار رؤية منهجية لإعادة بناء المؤسستين العسكرية والأمنية على أسس وطنية ، وتحرير الوظيفة العامة من الاستخدام السياسي الذي بقيت لزمن طويل أحد أدواته . فقد وصل الحال في الفترة الماضية الى حد توزيع عشرات الدرجات الوظيفية وحالات ضمان اجتماعي بالمئات على النافذين واعضاء مجلس النواب المنتمين للحزب الحاكم ليوزعوها بمعرفتهم وفق معايير الانصار والموالين والاتباع
وكان الانتماء لحزب الحاكم بوابة العبور للكراسي والوظائف العليا وغيبت المعايير المهنية ومفرداتها ، الكفاءة والخبرة والأقدمية والمؤهلات العلمية . وكانت الهوية الحزبية للمنتمين لاحزاب المعارضة كافية لحرمان هؤلاء من استحقاقات وظيفية تتوفر فيهم شروطها ومعاييرها ، ولا نريد الآن أن تتكرر الحالة بالمقلوب ، وأن يغدو الإنتماء الحزبي هو رافعة الموظف غير المؤهل للحصول على درجة وظيفية لا يستحقها ، وحرمان المؤهلين ومن تتوفر فيهم المعايير المهنية للتعيين في الوظائف العليا ، لأن كشوفات التقاسم الحزبي خلت من اسمائهم
الاسبوع الماضي جمعني مقيل الاستاذ نصر طه مصطفى بوزير الخدمة المدنية نبيل شمسان وقد سمعنا من الرجل المعني بإعداد اللوائح التنفيذية لتطبيق التقاعد والتدوير الوظيفي ما يدعو للاطمئنان ، والمعيار الرئيسي أن تقف السياسة والاحزاب عند درجة الوزير ونائبه ، ولا تتعداهما وكذلك ان لا يكتفى بالتدوير فليس من العدالة أن يبقى احدهم مديراً لثلاثين عام ويستمر من يماثله في الوظيفة والمؤهل والخبرة والكفاءة موظفاً عادياً من يوم دخوله الى يوم خروجه للتقاعد .
والغريب أن مدراء عموم مزمنين في كراسيهم من بداية السبعينات الى اليوم ، ولم يمر عليهم قانون التقاعد ، وعندما يحتج المتضررون من وجوههم المملة يكتشفون أن للحكاية دهاليز خلفية يستطيع من خلالها هؤلاء باتصال تلفوني أن يغيروا استمارة التوظيف التي تتضمن تاريخ الالتحاق بالوظيفة العامة وتغيير تاريخ التخرج ، ليضعوا أنفسهم في الاطار القانوني على الورق ، ولا جدوى هنا لكل الحقائق على الواقع بما فيها الوجوه المزمنة التي تستمر في اللمعان جيلا بعد جيل .
لقد عمل تأبيد الفرد المستبد على كرسي الرئاسة وتوريثه واحتكار السلطة العليا في البلد في اطار العائلة والعصبية الضيقة ، عمل كقانون تم تعميمه على النخب المتحالفة مع المحتكر الأكبر في المستويات الوسطى والدنيا للجيش والأمن والوظيفة العامة والقضاء والنشاط التجاري الطفيلي الذي يتم عبره غسل وتدوير وتنمية الثروات المتراكمة من ريع الموقع السياسي .
وسقوط النظام لا بد أن يؤدي بالضرورة الى فكفكة شبكة المصالح غير المشروعة وتحرير الوظيفة العامة من قيود النظام ومعاييره واعادة بناء الجيش والأمن على أسس وطنية ... وإستعادة الدولة بمجملها من بين مخالب مختطفيها