علماء الجمعية بأي فقه يفتون؟
بقلم/ د/إسماعيل السهيلي
نشر منذ: 13 سنة و شهر و يومين
الخميس 13 أكتوبر-تشرين الأول 2011 06:31 م

صدر في الأسبوع الماضي بيان عن جمعية علماء اليمن الحكومية، وكان من أهم ما تضمنه البيان موضوع مركزي تم الاعتقاد أنه يلبي بعض احتياجات السلطة الحاكمة في مواجهة الثورة الشعبية في اليمن، وهو ينصرف الى القول بأن في ذمة الشعب اليمني بيعة منعقدة للحاكم، أو (ولي الأمر) بحسب تعبير البيان، وأن الواجب شرعاً على الشعب طاعة (ولي الأمر) ويلزم من ذلك إنهاء كافة أشكال ومظاهر الثورة الشعبية السلمية، والنزول على ما يراه الحاكم لتخفيف معانات الشعب.

وفي تقديرنا أن علماء الجمعية قد جانبوا الصواب مرتين، مرة في استنباط الحكم الشرعي في هذا الموضوع، وأخرى في تنزيل ذلك الحكم على الواقع اليمني.

وعليه يمكننا القول بدرجة عالية من اليقين إن الأساس الذي تقوم عليه طاعة الحاكم في الفكر السياسي الإسلامي تتفرع عن طبيعة التعاقد السياسي بين الشعب والحاكم بما يقدم تفسيراً شرعياً لعلاقة الأمر والطاعة، حيث يتم النظر إلى السلطة السياسية على أنها قد وُجدت بناءً على عقد بين طرفين، طرفه الأول الشعب، وطرفه الثاني الحاكم، وأن الواقعة المنشئة لتولي الحكم (انتخاب أو بيعة ً) قد أنتجت وكالة تعاقدية على معلوم (حراسة الدين وسياسة الدنيا به) وهي وكالة ترتب عليها التزامات متبادلة بين الحاكم والشعب بحيث يكون عدم وفائه بالتزاماته مبرراً كافياً لتحلل الشعب من التزاماته حياله في الطاعة، وعليه فقد اتجه الفكر السياسي الإسلامي، إلى ضبط الالتزام السياسي، أو حق السلطة الحاكمة في أن تأمر، وواجب المواطنين في أن يطيعوا، بنوع من العلاقة الشرطية، التي يترتب عليها التزامات متبادلة بين الطرفين، فطاعة الحاكم ليست واجبة لذاتها، وإنما للمقاصد والأهداف العليا التي يستحيل تحققها بدون تسليم الشعب لحاكمه بهذا الحق، ومعنى هذا أن الطاعة حق وظيفي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بانتهاج الحاكم في سياساته وممارساته لكل ما من شأنه انجاز الوظائف والمهام الواجب عليه القيام بها.

ولا يفوتنا التأكيد على أن هذه الالتزامات ليست اختياريه تجوز للطرفين التوافق على التحلل مما التزما وتعاقدا عليه، فإذا كان الشعب آثماً أشد الإثم إن أخل بالوفاء بحقوق الحاكم العادل، فإنه في المقابل يكون آثماً إن استمر في طاعة الحاكم الظالم الذي يتعمد الإخلال بالتزاماته.

وفي إطار هذا التكييف السياسي الإسلامي، نتوجه بمجموعة من التساؤلات لعلماء الجمعية: ألم تصبح اليمن وللأسف الشديد في ظل حكم السلطة الحاكمة الحالية دولة فاشلة أوتكاد تكون ؟, ألم يتواصل من هذه السلطة العصيان لأحكام الشريعة الموجهة والحاكمة للممارسة السياسية؟ ألم تتخذ هذه السلطة أدوات ديمقراطية شكلاً لا موضوعاً كالانتخابات ومجلس النواب بغرض تجديد استبدادها؟ ألم يفشَ من هذه السلطة العدوان على المواطنين السلميين ؟، ألم يستشرِ الفساد في إدارتها للبلد؟، ألم تتعطل الحدود وتمنع الحقوق في ظل هذه السلطة؟، ألم يتجرأ الظلمة في ظل هذه السلطة على الشعب المغلوب على أمره؟، ألم يتداعى الخلل إلى عظائم الأمور في أمن الشعب ومعاشه وكرامته واستقراره؟، أخيراً ألم يصبح السلوك السياسي لهذه السلطة على خلاف ما يفترض أن يكون عليه سلوك السلطة الحاكمة في الإسلام؟، ومن ثم أليست سياسات وممارسات هذه السلطة تمثل مبرراً شرعياً يوجب على الشعب اليمني عدم طاعة هذه السلطة بل عزلها؟

لاشك لدينا بأن بالسؤال الأخير - خلاصة التساؤلات - يجد الإجابة عليه في كتاب الله العزيز وسنة رسوله الكريم وأقوال فقهاء الإسلام، وستقتصر مهمتنا في ذلك على النقل والإيجاز بصورة تمكن القارئ من تفهم وجه الحق.

أولاً: من القرآن الكريم:

1-قوله تعالى: (لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) "(سورة البقرة، الآية: 124)، حيث ذهب جمهور المفسرين إلى أن الآية تشير إلى أنه لا يجوز أن تسند السلطة إلى غير العدل، لأنه ليس أهل لتقبل منه أوامر الله وأحكامه، وأنه لا يلزم الأمة إتباع السلطة الظالمة ولا طاعتها، لأنها سلطة باطلة أساساً، (تفسير الطبري، مجلد1، ج1، ص578, أحكام القرآن للجصاص، مجلد1، ص98)

 قال الإمام القرطبي: "استدل جماعة من العلماء بهذه الآية، على أن الإمام يكون من أهل العدل والإحسان والفضل، مع القوة على القيام بذلك، وهو الذي أمر النبي ? ألا ينازعوا الأمر أهله على ما تقدم من القول فيه " (أحكام القرآن للقرطبي ، مجلد1، ج2، ص108).

 وقد انتهى علامة اليمن الإمام الشوكاني إلى أن " من لا عدالة له لا يؤمن على نفسه، فضلاً عن أن يؤمن على عباد الله، ويوثق به في تدبير دينهم ودنياهم... لأنه مع عدم تلبسه بالعدالة، وخلوه من صفات الورع، لا يبالي بزواجر الكتاب والسنة، ولا يبالي أيضاً بالناس، لأنه صار متولياً عليهم، نافذ الأمر والنهي فيهم".(السيل الجرار للشوكاني ، ج3، ص702).

ومن ثم فقد تم اتفاق الأئمة والفقهاء، على أن كل ما يناقض العدالة، مؤثر في الخلع والانخلاع، وأن عقد الإمامة ينحل بما يزول به مقصود الإمامة، (شرح المقاصد التفتازاني ، ج5، ص257).

 2ـ قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً" (سورة النساء: الآية: 59).

ذهب جمهور (غالبية) المفسرين والفقهاء إلى أن الآية تقرر وجوب الامتناع عن طاعة الحكام في معصية الله، فعلى سبيل المثال نقل الإمام الرازي أن الأمة مجمعة على أن طاعة الحكام إنما تجب فيما وافق الكتاب والسنة، وأن طاعتهم في المعصية محرمة .(تفسير الرازي ، مجلد5، ج10، ص117).

وأكد الإمام الزمخشري على أن الآية توجب طاعة الحكام الموافقين لله ولرسوله في إيثار العدل واختيار الحق، والأمر بهما والنهي عن أضدادهما، كما أنها تقرر وجوب الامتناع عن طاعة من لا يؤدون أمانة ولا يحكمون بعدل، وإنما يتبعون شهواتهم من حكام الجور المنسلخين عن صفات أولي الأمر عند الله ورسوله.(تفسير الزمخشري ، ج1، ص524)

كذلك قرر الإمام ابن القيم أن الله تعالى لم يأمر بطاعة الحكام استقلالاً بل جعل طاعتهم من ضمن طاعة الرسول، إيذاناً بأنهم إنما يطاعون تبعاً لطاعة الرسول، ومن ثم فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته، ومن أمر بخلاف ذلك فلا سمع له ولا طاعة .(إعلام الموقعين لأبن القيم، ج1، ص50)

كما نقل الإمام ابن حجر عن الطيبي أنه قال: "أعاد الفعل في قوله "وأطيعوا الرسول" إشارة إلى استقلال الرسول بالطاعة، ولم يعده في أولي الأمر إشارة إلى أنه يوجد فيهم من لا تجب طاعته" (فتح الباري لابن حجر ، ج13، ص139)

 3 ـ قوله تعالى: "يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ًولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله" (سورة الممتحنة، الآية: 12)

في هذه الآية وردت بيعة الرسول ? مشروطة بالطاعة في المعروف على الرغم من أنه عليه الصلاة والسلام معصوم عن أن يأمر بمعصية الله تعالى.

وقد ذكر شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره للآية أن الله تعالى وجه رسوله ? أن لا يستحل أمرَ أمرٍ إلا بشرط، لذا لم يقل لا يعصينك ويترك حتى قال في معروف، ومن ثم كيف ينبغي لأحد أن يطاع في غير معروف، وقد اشترط الله هذا على نبيه وخيرته من خلقه. (تفسير الطبري، مجلد12، ص76).

كذلك قال الإمام عماد الدين الطبري المعروف بالكيا الهراسي أنه "قد علم الله تعالى أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا بمعروف، إلا أنه شرط في النهي عن عصيانه إذا أمرهن بالمعروف، لئلا يترخص أحد في طاعة السلاطين إذا لم تكن طاعة لله تعالى". (أحكام القرآن لعماد الدين الطبري، مجلد2، ج4 ، ص410) 

4- قوله تعالى: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون" (سورة هود، الآية: 113)

ذهب المفسرون إلى أن الآية تقرر المقاطعة الشاملة للحكام الظالمين، فقد نهى المولى عز وجل عباده المؤمنين عن الميل للظالمين بمعاونتهم ومداخلتهم ومؤانستهم ومداهنتهم، والرضا بأعمالهم، والتشبه بهم والانجذاب إليهم، ولما كان النهي متناولاً للانحطاط في الركون إلى الجائرين، فإنه من باب أولى أشد تناولاً لمن صار عوناً وأداة للحكام الجائرين.(الزمخشري، مصدر سابق، ج2، ص433، ابن، تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ج2، ص478).

ثانياً- من السنة النبوية:

 1ـ حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ?: "لا طاعة في معصية الله عز وجل، إنما الطاعة في المعروف" . (صحيح مسلم ، ج12 ، ص431، حديث رقم 4742)

2 ـ حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي ? أنه قال: "على المرء المسلم السمع والطاعة، فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".( صحيح مسلم ، ج12، ص430، حديث رقم 4740)

3- حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ?: "سيكون عليكم أمراء يأمرونكم بما لا تعرفون، ويفعلون ما تنكرون، فليس لأولئك عليكم طاعة".(نيل الأوطار للشوكاني ، ج7، ص174). 

 ولا يفوتنا التنبيه على أنه قد يحتج البعض بورود أحاديث تأمر بطاعة الحاكم وإن بدرت منه بعض المظالم، فنرد عليهم أنه لما كانت الآيات والأحاديث التي تقرر وجوب الامتناع عن طاعة الحاكم في المعصية هي أدلة كلية قطعية، وأن الأحاديث التي تأمر بطاعته، وإن حصل منه بعض المعاصي هي أدلة جزئية، فإنه لا تعارض بينها، ويجب فهم الدليل الجزئي في ضوء الدليل الكلي الذي يقيده.

ثالثاً: من فتاوى الأئمة والفقهاء:

1- قال الخليفة الراشد أبو بكر الصديق بعدما بويع بالخلافة "أيها الناس: فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة... أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم". (سيرة إبن هشام ، ج4، ص413).

 2-قال الإمام ابن عطية الأندلسي "والشورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا مما لا خلاف فيه".(تفسير ابن عطيه، ج1، ص534).

 3- قال الإمام ابن حزم الظاهري "الواجب إن وقع شيء من الجور، وإن قل أن يكلم الإمام في ذلك، ويمنع منه، فإن امتنع وراجع الحق... فلا سبيل إلى خلعه، وهو إمام كما كان لا يحل خلعه، فإن امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه، ولم يراجع، وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق، لقوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثم وَالْعُدْوَانِ)، ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع" (ابن حزم، الفصل في الملل، ج5، ص28).

 أخيراً نأمل من علماء الجمعية ممن له نظر شرعي حقيقي ويخشى الله تعالى وحده أن يراجعوا موقفهم وأن ينئوا بأنفسهم عن علماء السلطان، علماء الدنيا - حسب تعبير الإمام الغزالي - الذين يتصلون بالحكام لغرض إضفاء الشرعية والمشروعية على نظام حكمهم، والذين أصبحت مهمتهم هي تبرير السياسات الجائرة، والدفاع عن الحاكم الظالم بحق و بدون حق، وتقديم الفتاوى التي تتفق مع أهوائه، وكذلك إعانته على ظلمه، وتقريره على ما هو عليه، أو تحسينه له، أو إيراد الشبه في تجويزه، فهؤلاء يعدون كما يقول الإمام الشوكاني "في عداد الظلمة، وفريق الجورة "(رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين للشوكاني، ص70.) ،,وقد قيل قديماً (من تحسى مرقة السلطان احترقت شفتاه ولو بعد حين).

 رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة الإيمان