الثورة والحرب الأهلية
بقلم/ د. محمد أمين الكمالي
نشر منذ: 13 سنة و 3 أشهر و 16 يوماً
السبت 30 يوليو-تموز 2011 08:05 م

مشاهد متعددة, شخصان في منزلين متجاورين في يوغوسلافيا بداية التسعينات يقترض احدهما من الآخر أخشاب للتدفئة, لبناني يلقي التحية على جاره في الطريق ليتواعدا على شاطئ الروشة مساء, ومزارعون في رواندا يقومان برعي الأبقار معا.

فجأة يبدأ القتل ويتم التصنيف هذا كرواتي مسلم وهذا لبناني شيعي وهذا رواندي من التوتسي.

إن الحيرة تصيب أعظم علماء الاجتماع وهم يشاهدون مزارعين بسطاء وجيران طيبون وأصدقاء أعزاء وهم يتحولوا إلي قتلة عنيفين لا تكاد الدماء ترويهم.

الحروب الأهلية قديمة قدم التاريخ وقد تكون أولى حالات النشاط الإنساني للاحتكاك والتفاعل هي الحرب الأهلية فاحد ابني ادم قتل أخاه ليثبت وجهة نظره ,وفي عصر الإنسان الصياد كان يتحتم علي البشر التعامل بطريقة المفترسات لإزاحة المنافسين عن الماء والطعام والنساء ,واتت عصور الحضارة لتثبت الحروب الأهلية إنها الأكثر قسوة والأكثر تدميرا وعندما تكتسي الحروب بطابع عرقي أو ديني أو متحيز تتبدى أسوأ ما في الطبيعة البشرية من وحشية حيوانية تنكرها حتى الحيوانات التي لا تقتل إلا لتأكل وليس بغرض الكراهية والانتقام والشعور بالتميز.

ويبدو أن من عادتنا نحن العرب أننا نبرع بالحرب الأهلية أكثر من غيرها, فقبل الإسلام لم يشتهر لدينا من أيام العرب سوى الحرب الأهلية كداحس والغبراء وحرب البسوس, وبعد الإسلام لم نكد ننتهي من فترة الفتح السريع لنجيب نداء الحرب الأهلية بين الهاشميين والأمويين لتتحول من صراع فكري بين أبناء العمومة إلى تحزب قبلي بين القيسية واليمنية والسنة والشيعة مخلفة إحساس بالتميز والتنافر مع الأخر لازال يمكن استخدامه حتى الآن في نزاعاتنا العصرية.

وفي اليمن تاريخ طويل من الحرب الأهلية والاستقواء بالخارج, فنصارى نجران استعانوا بالأحباش لينصروهم, فاستعمروا اليمن وابن ذي يزن التجأ للفرس فاحتلوها. وهكذا كلما طلب طرف من أطراف الصراع في اليمن النصر من قوة أجنبية أتت فأخذت البلاد وقهرت الجميع تحتها, وليس آخرهم الشريف الإدريسي الذي استعان بابن سعود فأخذ أرض اليمن في المخلاف السليماني تحته. وما زال بعض أبناء اليمن يراهن على حرب أهلية يستعين فيها بالأغراب.

في الحروب الأهلية يبحث القادة السياسيون والعسكريون عن أي اختلافات أو خلافات قديمة يستطيعون توظيفها لدفع الناس الي المحرقة, تنمية الشعور بالتميز والأفضلية عن الأخر الذي يشاركك ارض الوطن وسمائها, تنمية الشعور بالأحقية في السيطرة والتحكم بالآخرين علي اعتبار أنهم نوع أخر مختلف وأدنى مكانا, البحث عن أي جذور لمشاكل دفينة يتم إبرازها للسطح واعتبارها قضايا يجب الدفاع عنها لإخفاء الغرض الحقيقي وهو الحكم والسيطرة لقلة متنفذة.

والحرب الأهلية من أسهل الحروب, إذ يكفي إشعالها لتستمر ناشرة الحريق والخراب وصانعة للأحقاد والخسائر الجسيمة التي تضمن لها الاستمرار.

إن من يشعل الحرب الأهلية والعرقية والمناطقية لا يدرك عادة حجم الدمار الذي سيتسبب به لجماعته وللآخرين وللوطن ككل.

يقوم بعض السياسيين والعسكريين القابضين على بقايا النظام الساقط بتحويل المعركة من سياقها الطبيعي كثورة سلمية من أجل الحرية إلى قتل وتجويع يدفع الناس للذهاب للمطالبة بحقهم في الدفاع عن النفس وتحويلها آنذاك من مواجهة بين الشعب الثائر والظالمين إلى مواجهة بين قطاعات مختلفة من أبناء هذا الشعب هو أسوأ ما يمكنهم القيام بهم, فهم هنا سيدمرون البلد والشعب ككل. إن جريمتهم في محاولة تمزيق الشعب اليمني ودفع القطاع الذي كان أحرص على الوحدة فيه للمطالبة بالانفصال لم تندمل بعد وما زال الجرح مفتوح فيها, وهم يفكرون بمنطق أنا ومن بعدي الطوفان, إما أن نحكم أو ليذهب اليمن إلى الجحيم.

ما يراهن عليه هؤلاء المجرمون هو دفع البلاد إلى حالة من التمزق والفوضى هو ما سيمنحهم الحصانة الفعلية بنظرهم, متناسيين أننا إلى اليوم ما زلنا نشاهد مجرمي الحرب بيوغسلافيا يتم القبض عليهم واحدًا تلو آخر, وها هي الصومال ما زالت تعاني من الحرب الأهلية والتدخل الخارجي من الجيران القريبين ومن القوى الدولية.

على الشعب اليمني أن يدرك أنه الخاسر الوحيد من تحويل هذه المجزرة الأهلية إلى حرب أهلية, فيجب عليه أن يواصل ثورته ويتكاتف مع إخوته في كل أرض اليمن للقضاء على هذه المجموعة المسيطرة على القصر الجمهوري والتي تستخدم قواتها لضرب المدنيين في كل أرض اليمن. فالطغاة لا دين لهم ولا مذهب ولا ولاء. هم عصابة واحدة لا رابط لها إلا الامتصاص من دماء هذا الشعب.

فقمة السلمية في الثورة هي عدم الاعتداء وعدم تصنيف الآخرين؛ لعدم الإخلال بمبدأ حق الدفاع عن النفس وهو حق أصيل لصد العدوان ومنع العنف والقتل ضد أبناء هذا الشعب أينما كانوا.

الهامش بين الثورة والدفاع عن النفس والحرب الأهلية ضيق وبقايا النظام بتطبيقها لسياسة المجزرة الأهلية التي تستخدم القتل العشوائي والمكثف والذي لا يستثني أحد يدفع الناس إلى الاضطرار إلى استخدام حقهم في الدفاع عن النفس, فيقوم الطغاة بتحويل مسار الثورة إلى حرب أهلية عن طريق ضرب مكونات المجتمع بعضها ببعض.

وما يجري الآن من اشتباكات بالجوف واستهداف مفرط في أبين وتعز وأرحب وتهديد وضغط متواصل في صنعاء هو محاولة لصبغ الصراع بصبغة طائفية تارة ومناطقية وشطرية تارة أخرى؛ خدمة لأغراض طالما نجح النظام في تحقيقها, ويجب على قوى الثورة أن تقف أمامها وبحزم, وتتكاتف كل أطياف الشعب اليمني للوقوف أمام هذه الكتلة الفاسدة وإزاحتها ورميها خارج المسار التاريخي لليمن لنبدأ ببناء وطننا.

إن ما يحصل في اليمن هو ثورة بكل ما تحمله الكلمة من معنى نضالي, ولو اضطر الناس للدفاع عن ثورتهم بأي شكل من الأشكال لن تكون هناك حرب أهلية؛ لأن الثورة هي المانع والضمانة لعدم الانزلاق لحرب كهذه.