|
سَمى الثوار في ساحاتهم المباركة يوم الجمعة 6 مايو 2011 جمعة الوفاء للجنوب أو الإعتذار للجنوب، وهذا فعل ثوري صحيح وأٍسبابه صحيحة.
فقد كان الجنوبيون في بلادنا هم أول اليمنيين ثورةً ضد الفساد والظلم والقهر والإستبداد وخرجوا في مظاهرات عارمة واجهها الرئيس بالقوة والرصاص الحي القاتل... ونسب إلى مظاهراتهم السلمية كل نقيصة ، حاول في البداية تجاهلها وقال عنها أنها مطلبية لكنه لم يستجب للمطالب وإنما حاول شراء الولاء والذمم لكنهم كانوا من النضج في مستوى رفيع فلم يوافقوا على تحويل قضيتهم إلى تجارة ولا سلعة تباع في سوق النخاسة.
كان الجنوبيون في بلادنا هم أول من قال لا... لكن الخذلان كان عظيماً من قبل الجميع تجاه هذا الحراك المبارك.
لقد كان تحركهم ضد الفرض والإملاء حتى وإن تغطى بقيمة عظيمة هي الوحدة فلا توجد قيمة من القيم النبيلة يمكن فرضها على الناس بالقوة، فلا وحدة بالقوة ولا ديمقراطية بالقوة، وإذا كان الدين لا يصح الدخول فيه بالإكراه: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) سورة البقرة آية 256 . ، فهل توجد وحدة بالقوة والإكراه؟، يجب أن يختار الشعب وأن يقرر ما يريد، لم يعد بإمكان أحد أن يختار للشعب، يختار نيابة عن الشعب ويقرر نيابة عن الشعب، إن الشعب ليس قاصراً يختار عنه وليه، بل هو الذي يختار كيف يعيش وهو الذي يختار حكامه، الشعب يختار حكامه ولكن ليس لهم الحق أن يختاروا له.
والجنوبيون في بلادنا لم يطالبوا بالإنفصال ابتداءاً، ولكن الظلم دفع الكثير منهم إلى القول: إذا كانت الوحدة تعني ظلمنا، ونهب أراضينا وخيراتنا وأموالنا، فنحن لا نريدها، والدليل على ذلك أنه بعد الثورة المباركة، ثورة الشباب السلمية، لم نسمع أصواتاً تطالب بالإنفصال، ولم نر أيدٍ ترفع أعلاماً غير أعلام الوحدة والجمهورية اليمنية، والتحمت الثورة في جميع المحافظات بالثورة في الجنوب، صارت الثورة واحدة وصار المطلوب واحداً والمسار واحداً، وتلك من أفضال الثورة على الشعب اليمني العظيم.
وبناء الدولة الواحدة ينبغي أن يراعي البدء من البناء النفسي، فبصراحة بالغة لا تزال النفوس تختزن عن الدولة المركزية ذكريات بائسة.
فقد كنا في محافظة ريمة مثلاً أيام الإمام نشكوا من أن كل العاملين في الإدارة يأتون من صنعاء...العامل (مدير الناحية) والحاكم ( القاضي) ومأمور الأنبار والمالية والبرق، ومفرزة العسكر وقايد القشلة والموظفين الصغار حتى المراسل كل أولئك يأتون من صنعاء وأهل البلاد لا عمل لهم إلا خدمة هؤلاء وتدليلهم وجمع المال لهم وإطعامهم.
هذا إلى جوار دفع الضرائب والإتاوات والخراج والجزية التي كانت تُسمى زُوراً زكاة، وأجور العساكر وكفايتهم وخدمتهم، وكان أمل كل الناس أنه بقيام ثورة 26 سبتمبر 1962 سيتغير الحال حيث سيصبح لأهل البلد دور في إدارة شئونهم وترتيب أنفسهم، ومر وقت طويل بعد الثورة ولم يتغير الحال كثيراً لذلك فالشعب في كل مكان يرحب بكل دعوة إلى الحكم المحلي أو السلطة المحلية أو اللامركزية، ولكنها – مع الأسف – ظلت شعارات تُرفع ولا تُفعل.
حتى حين أُنتخب المحافظ أخيراً في بعض المحافظات فقد حكمته معايير حزب الحاكم ففُرغ من محتواه ولم يشهد المواطنون خيره أبداً حتى الآن.
وبقيت الموارد تُجبى إلى المركز بصنعاء وظلت حكومة صنعاء مستأثرة بكل شئ ولا تكاد تخول الإدارة المحلية في المحافظات أي صلاحية مالية.
لكل ذلك لعل الفدرالية الجادة هي الحل.
فما هي الفدرالية؟ وهل لها تطبيقات ناجحة في العالم من حولنا؟
وهل يخشى منها على الوحدة الوطنية أم أن الوضع الحالي هو الخطير على الوحدة؟
الفدرالية نظام سياسي من شأنه قيام اتحاد مركزي بين دولتين أو مجموعة من الدول أو الدويلات، بحيث لا تكون الشخصية الدولية إلا للحكومة المركزية، مع إحتفاظ كل وحدة من الوحدات المكونة للإتحاد ببعض الإستقلال الداخلي، بينما تفقد كل منها مقومات سيادتها الخارجية التي تنفرد بها الحكومة الإتحادية، كعقد الإتفاقات والمعاهدات أو التمثيل السياسي، ويكون على رأس هذا الإتحاد الفيدرالي رئيس واحد للدولة هو الذي يمثلها في المحيط الدولي.
*يتألف رعايا الدولة الفيدرالية من مجموع رعايا الدول أو الولايات المكونة للإتحاد، والتي تعتبر وحدات دستورية لا وحدات إدارية كالمحافظات في الدولة الموحدة، ويكون لكل وحدة دستورية نظامها الأساسي الذي يحدد سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، ولكن الدستور الإتحادي يفرض وجوده مباشرة على جميع رعايا هذه الولايات بغير حاجة إلى موافقة سلطاتها المحلية.
* تنشأ الدولة الفيدرالية في الأغلب بإنضمام عدد من الدول أو الإمارات المستقلة تحت ضغط دولي وعسكري أو بدافع سياسي، وقد يساعد على قيامها اشتراكها في لغة واحدة وغير ذلك من المقومات ومثال الدولة التي تألفت على هذا النحو، الولايات المتحدة، وقد تنشأ الدولة الفيدرالية بتفكك دولة موحدة إلى ولايات ذات إستقلال داخلي تربطها حكومة مركزية ومثال هذا النوع من الدول الفيدرالية البرازيل.
* ويختلف النظام الفيدرالي عن النظام الكونفيدرالي الذي يعتبر اتحاداً ضعيف الروابط، لهذا قد يتحول الإتحاد الكونفيدرالي ( أو التعاهدي) تحت ضغط الأحداث السياسية إلى إتحاد فيدرالي، من ذلك أن سويسرا بعد أن عاشت ستة قرون في اتحاد كونفيدرالي تحولت في القرن التاسع عشر إلى اتحاد فيدرالي ( أو مركزي) .
* والفيدرالية نظام سياسي يفترض تنازل عدد من الدول أو القوميات الصغيرة في أغلب الأحيان عن بعض صلاحيتها وامتيازاتها واستقلاليتها لمصلحة سلطة عليا، موحدة تمثلها على الساحة الدولية، وتكون مرجعها الأخير في كل ما يتعلق بالسيادة والأمن القومي والدفاع والسياسة الخارجية.
* والفيدرالية السمة الأساسية في الأنظمة الحديثة التي تعمل على حل مشكلاتها القانونية والتنظيمية والسياسية التي تعقدت بفعل التبدل الإجتماعي، والعلاقات الدولية، فهي على الصعيد الداخلي تسعى لتنظيم أمور الدولة الداخلية، بهدف تسيير العمل والوظائف وتوزيعها ما بين السلطات المركزية، والسلطات المحلية بحيث تحترم السلطة الفيدرالية المصالح الخاصة للقوى المؤلفة للدولة الأم، ومقابل تنازلها عن صلاحيات الأمة العامة.
وعلى الصعيد الخارجي تلجأ الدولة الفيدرالية إلى رسم علاقاتها الدولية لصالح مجموع الوحدات والكيانات التي تتكون منها.
فالفيدرالية إذن تتعلق بالنظام السياسي، وبالتنظيم الإداري وتنقسم صلاحيات السلطات الحاكمة وتنظيم العلاقات فيما بينها، وتأمين انسجامها لتمنع تغلب طرف على طرف آخر، فتحصر قرارات الدولة الفيدرالية المركزية بالقمة، وتترك الأمور المحلية للسلطات الأقليمية، والسلطات المحلية بدورها لا تخرج عن نطاق صلاحياتها، فهي لا تشرع للقضايا التي تتعلق بالدولة المركزية، رغم أنها تشارك في المؤسسات التي تعالج الأمور القومية، وتنظم هذه المؤسسات الصلاحيات وتوزعها بشكل يؤمن إستقلالية الوحدات المكونة للسلطة الفيدرالية ويضمن لها المشاركة الفعالة في القرارات المركزية والمصيرية.
وفي القرن العشرين إرتبطت ظاهرة الفيدرالية بمبادئ الدفاع عن حقوق الأقليات والأثينات القومية والدينية الصغيرة بالتوجه نحو إضعاف مفهوم الدولة المركزية، فتكثر الأنظمة الفيدرالية حيث يكثر التنوع القومي والأثني الديني، فهي مطبقة في كل من الولايات المتحدة، الأجنتين، البرازيل،المكسيك، سويسرا، استراليا، الهند، واندونيسيا وغيرها.
وقد اختلف مفهوم الفيدرالية وكيفية تطبيقها من دولة إلى أخرى، وبما أنها مفهوم سياسي يتعلق بالنظام السياسي والسلطة، وبما أن الديمقراطية والتمثيل السياسي وتقرير المصير هي من المقومات الأساسية للفيدرالية فإنها بذلك دائماً عرضة لسوء الفهم والتطبيق، ومعيارها الوحيد هو الديمقراطية، وإحترام المصالح والسيادة للدول والقوميات، ويكاد مفهوم الفيدرالية يترادف مع قول الفيلسوف ( جفرسون) في القرن الثامن عشر أن الدولة التي تحكم جيداً هي التي تحكم أقل، فالتجاوب مع الحاجات القومية والإقليمية هو معيار آخر للفيدرالية ، ومن هنا فإن الدولة الفيدرالية تكاد تكون النقيض للإمبراطورية التي تتميز بمركزية شديدة وبسيطرة المركز على الأطراف.
والفيدرالية على أنواع ودرجات متفاوتة في الأشكال والصيغ التطبيقية إذ تتراوح ما بين وحدة مطلقة، أو الإتحاد بين مجموعات متمايزة تماماً، وتتمتع بحرية كبيرة تكاد تصل حتى حق الإنفصال.
ومسيرة تكون الفيدرالية نفسها تتبدل من دولة إلى أخرى، فبعض الفيدراليات بدأت من وجود مجموعات وقوميات سياسية متفرقة تعاقدت على تبني سياسة مشتركة، فعقدت فيما بينها وحدة فيدرالية لتتخذ قرارات مصيرية مشتركة، بينما فيدرالية أخرى بدأت كدولة مركزية موحدة تفرقت إلى وحدات وقوميات متميزة ومنفصلة نسبياً سعياً إلى التمتع بحرية في قراراتها واكتفت بإقامة علاقة فيدرالية مع مجموعاتها الموحدة.
وغالبية الدول الفيدرالية تعتمد نظام فصل السلطات، والتمثيل الشعبي في الدول الفيدرالية يكون عادة على مستويين يتجسدان في نوعين من المجالس التمثيلية : مجالس منتخبة مباشرة من الشعب، ومجالس أخرى لها صفات فيدرالية موحدة.
المجالس الأولى تعكس المصالح ووجهات النظر المحلية المختلفة للدول المؤلفة للكيان الفيدرالي، وللوحدات الأقليمية السياسية وتسهر على القرارات التشريعية للمجلس الثاني ( الممثل للسلطة المركزية) لكي تحمي كياناتها ومواطنيها ضد أي إجراءات فيدرالية قومية أو مضرة بمصالحها .
والأمثلة كثيرة على الدول الفيدرالية في العالم والتي ذكرناها سابقاً، ويمكن الإطلاع على طريقة عملها وتنظيمها بالرجوع إلى النظام السياسي والدستوري فيها.
بعد هذا السرد والتعريف للفيدرالية وتطبيقاتها الناجحة في العالم من حولنا، نجزم بإن تطبيقها في اليمن الجديد سيضمن إستمرار الوحدة الوطنية، وستتكاتف الجهود والقدرات الوطنية على إخراج أحسن وأفضل ماعندها من الخبرات والمهارات لبناء وطن جديد تتكافأ فيه الفرص من دون غبن ولا ضيم، وهذا ليس بمستغرب على بلد الحضارة والتاريخ فنظام المخاليف الذي كان قائماً في اليمن يمثل حجر الأساس في تطبيق الفيدرالية، في إطار حكم ديمقراطي يؤسس للتنوع في إطار الوحدة من خلال إجراء تسوية للخلافات بين المكونات الإجتماعية المتباينة ويتم تضمينها في دستور ينظم العلاقة بينها.
والإطار الفيدرالي الموحد يعني تبني نظامٍ ديمقراطي، يتم الإتفاق مسبقاً عليه بين النخب السياسية لتحديد حجم الصلاحيات وبالتالي توزيع السلطات بين المركز والأطراف تحاشياً لتقاطع وجهات النظر بين النخب السياسية الممثلة للمكونات الإجتماعية المنطوية تحت الإطار الفيدرالي، وبحيث تكون علاقة الأطراف بالمركز علاقة تنسيقية وتعاونية وليست علاقة تناحرية، توزع بموجبها بعضاَ من سلطات المركز على الأطراف التي تقودها حكومات محلية تعكس التزامها بالدستور ووحدة التراب الوطني، وتسهم في صنع القرار المركزي الخاص بالشؤون الخارجية والأمنية ورسم السياسة الإقتصادية العامة للدولة.
وتمتاز الفيدرالية التنفيذية بالشفافية والوضوح في تحديد الصلاحيات والمهام بين المركز والأطراف، فالنموذج يجمع بين المركزية واللامركزية فلا يحق للحكومات المحلية اتخاذ قرارات منفردة، وليس من حق المركز فرض إرادته على الأطراف، أي أن اتخاذ القرار في الحكومة الفيدرالية توافقي وتشاوري ومحققٌ لمصالح الحكومات المحلية، وبالتالي فإن الإختلاف بينها حول الصلاحيات تكون محدودة، فرسم السياسات للدولة منوط باتفاق جميع الحكومات المحلية مع المركز للنهوض بأعباء الدولة.
والله من وراء القصد
في الإثنين 09 مايو 2011 10:34:20 م