عن الغربة التي غسلناها بالدموع وكفنّاها بالأحزان
بقلم/ عبد الملك المثيل
نشر منذ: 12 سنة و 7 أشهر و 18 يوماً
الإثنين 26 مارس - آذار 2012 06:02 م
قبل أن أبدأ في فتح الباب لعاطفتي لتخرج موجة إنكسار وسيل أحزان يغمراني منذ السبت الماضي ، 24/3/2012 م ، أعتقد أنه من اللائق تقديم أبلغ معاني الإعتذار للقارئ الكريم ، لأنني سأكتب موضوعا قد لا يعنيه لا من قريب أو بعيد ، وربما يقول البعض ..وما شاننا وخصوصيات الكاتب ، ولكن الواقع الذي نعيشه هنا يحتم علينا أحيانا ، ليس الحديث والكتابة عن آمال وأحلام ومآسي وفواجع عشناها ونعيشها في بلاد المهجر ، بل والصراخ بصوت عال ليس للفت إنتباه احد ، ولكن ولفترة مؤقته للتخفيف من مواجعنا وتلطيف أحزاننا التي رافقتنا وترافقنا مع طلوع الشمس وغروبها ، ولحظات هبوب الرياح وزيارة الثلوج وتساقط أوراق الشجر .

لم يعد من الغريب أبدا وإن صح القول ، صار من المألوف أن نسمع عن رحيل الكثير من المهاجرين اليمنيين في وطنهم الثاني الولايات المتحدة الامريكيه ، دون أن ينجح الكثير منهم في تحقيق أحلام شخصيه ، كانت قبل الرحيل مشروعة في قاموس الطموح الشخصي ، الذي يكاد أن يتشابه في شكله ومضمونه بين الجميع الذين أتوا مهاجرين لسنوات كما اعتقدوا ، ليكافحوا ويعملوا حتى ينجحوا في جمع مبلغ ما ، ثم العودة إلى الديار للإستقرار بعد الإستثمار ، والعيش بهدوء وامان بين الأهل ومع تراب الوطن وذكريات العمر وأيام الصبا .

ليس من المهم كما أرى أن نتحدث عن الصدمات التي تعرض لها بعض العائدين إلى الديار ، ومن ثم سارعوا بالعودة إلى المهجر الأمريكي للبحث عن أمل جديد وطريق آخر ربما يعيد العائد إلى داره ليبحث عن فرصة جديده ، أو ليبدد آماله وطموحاته مرة أخرى ، والمهم كما أعتقد أن نتحدث عن غربة وجدنا فيها وطنا حقيقيا ، منحنا الأمن والأمان والحرية والعيش الكريم بل والعزة أيضا لأننا اكتشفنا هنا ، أننا ننتمي لعالم الإنسانية بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، وهو ما افتقدناه أو خسرناه في دارنا الأصلي .

صحيح أننا تملكنا تلك القيم بعد ان قدمها لنا قانون يساوي بين البشر في كل ما اختلفوا فيه ، لكننا مع ذلك نعيش في صراع مرير مع واقعنا الإجتماعي المميز كيمنيين ومع انفسنا ، حتى اننا بسبب ذلك الصراع نضطر في الغالب لخلق أعذار وحجج واهيه لتبرير سقطاتنا المتتاليه على مستوى الفرد والجماعه ، وهو ما أدى بنا إلى الوقوف في أعلى جبال الحيرة والإرتباك بين الإستمرار في العيش هنا والإيمان بأن دفع الثمن سيحدث عاجلا ام آجلا أو العودة إلى الوطن لتلافي مخاوف السقوط ، وهناك نعيش في أجواء الشوق والحنين لوطننا الثاني ، بسبب ان القائمين على أمور الديار فشلوا في كل شيء حتى في تنظيم السير وترك إشارات المرور تعمل بنجاح حتى لا تلاقي شرطيا يقفز أمامك ولو بدون مخالفة من أجل إبتزازك حسب قول مهاجر إقتنع وبشكل نهائي أن وطن الغربة أصله ومستقره .

وسط قيمتنا الإنسانية ومشاعر الخوف والإرتباك يمر العمر سريعا دون ان نشعر ، ولحظة إسترجاع شريط الغربة وبدون شعور أيضا تتساقط الدموع كتساقط أحلامنا ، لنكتشف أن غربتنا تغتسل بدموع القهر وان كل ما فيها مجرد لا شيء لحظة وقوفنا أمام فاجعة أن كفن الأحزان يلفنا ليقذف بنا من جديد إلى قمم الحيرة والإرتباك والمخاوف والتردد والسقوط .

السبت الماضي الموافق24/3/2012 م ، وقفت باكيا وبحرقة امام جسد راحل جديد ، ودع الدنيا قبل وصوله الأربعين وكذلك قبل تحقيق أحلامه التي ما مل من ترديدها علي في كل مرة أزوره أو ألقاه .

رحل الأخ /نبيل المدحجي عن الدنيا وفي وطنه الثاني ، لكن احلامه لم ترحل معه ، لأنها وبكل بساطه قاسم مشترك بين المهاجرين جميعا ، حتى انا شخصيا ، أحلم بالعودة إلى الديار ، ليس لتقبيل تراب الوطن في حركة زائفة لا تعني شيء ، لحظة تعرض العائد للإهانة والإبتزاز من أول من يلاقوه ويستقبلوه في المطار ، ولكن للبحث عن قيمتي كإنسان له الحق في العيش بعزة وكرامه دون أن يصادر احد ذلك الحق ، وعند الإختلاف مع أي ما ، يجد الجميع قانون يمنح كل ذي حق حقه بكل عدل ومساواه .

مع الراحل رحمه الله جمعتنا الأيام والسنين ، حتى صار أخوه الأكبر بعد رحلة صداقة تجاوزت ثلاثة عشر سنه أخي وشقيقي الذي لم تلده الأم حسب القول المأثور ، ولهذا كنا في قمة الإنكسار ونحن ننظر إليه بعد تقديم العزاء وقرائة الدعاء للراحل .

كانت الدموع في لحظات الصمت القاتله قاسما مشتركا بيننا ثم شاركنا فيها كل من لحق بنا ، بينما إكتسينا بالأحزان في منظر يثبت لكل مكابر أننا لحظتها وبدون شعور نستحضر أحزاننا مجتمعه ونرثي أنفسنا وكل من فقدناه ، لأن وطننا الأصلي غاب عنا في اللحظة التي كنا فيها بحاجة إليه .

كان حلم نبيل المدحجي رحمه الله ، أن يموت في وطنه ويدفن بجوار والده ، وهو حلمي أيضا وحلم كل مهاجر ، لكنه رحل وسيدفن هنا بعيدا عن والده وحلمه وقد نكون نحن كذلك ، وكان أمل الراحل أن يحمل أولاده الصغار ليتعرفوا على وطن الآباء والأجداد ، وذلك امل نتقاسمه جميعا ، مثلما نتقاسم أحزاننا التي ما برحت تطل علينا بين اللحظة والاخرى .

قد يكون من الواجب الشرعي والأخلاقي أن يقف المرء مع أهل الميت وذلك ما قام به كل من حضر ، لكنني شخصيا لم أذهب لتأدية العزاء فحسب ، بل كنت وانا أنظر إلى دموع رفيق الرحلة والغربة / عارف المدحجي وهو يرثي أخيه ويبكيه ، أسترجع بألم وقهر شريط احزان ظل همنا المشترك وسيظل كذلك حتى يأذن الله لنا بوطن نجده عندما نحتاج إليه .

كان وجه عارف مكسي بالحزن وأي حزن ، وكانت دموعنا تتساقط وهي حقا دموع أحزان وليس حزن راحل فقط ، فشخصيا كنت في حالة إنكسار وقهر وألم حتى قبل خبر الموت المفجع ، ليس لأنني ضعيف أو عاجز عن تحمل ومواجهة تقلبات الزمن ، ولكن لأن الحزن صار رفيقا لي ولرفيقي بسبب وقوع أحداث في حياتنا كمهاجرين لا نستطيع أبدا غض الطرف عنها والسكوت عليها سواء حدثت في داخل الوطن ام خارجه .

آه يا غربة الآمال والطموحات كيف صرتي رحلة حزن لا تمل أبدا من سقينا كأس الألم بين فترة واخرى ، وآه أيه الوطن الذي تختفي لحظة إحتياجنا إليك ولو لضم أهلك بين ترابك ، وآه يا أبا بديع كم بقي لنا من الزمن لنقاوم لحظة السقوط بعد الإنكسار .

كم بكينا وأبناء جاليتنا يقتلون واحدا تلو الآخر برصاص الغدر وهم يبحثون عن لقمة العيش ، وكم شعرنا بالقهر وعقدة النقص تطاردنا حتى في بلد المساواة والإنسانيه .

كم شعرنا بالمهانة وبعض أبناء جلدتنا يضع نفسه في موضع النقص فيترك الآخرين يستخدمونه ويسخرون منه ، وكم تمنينا باطن الأرض ولا ظاهرها وبعض بنات جلدتنا تنكر ذاتها وتستعر من يمنيتها حتى أقدمت بعضهن على تطليق أو خلع أزواجهن من أجل عيون زرقاء لشاب سيبيعها في أول موقف .

كان منزلك يا أبا بديع منطلقا لكل معاني العزة والكرامة والسمو بالذات ، مثلما كان منزلا نلقي فيه حمل أحزاننا ، كيف لا ونحن من بكينا دما عندما رأينا تقريرا عن أطفال اليمن وكيف يتم التعامل معهم في مملكة آل سعود تهريبا ومعاملة ، ثم متنا قهرا ونحن نناقش عار الزواج السياحي وكيف تباع بنات جلدتنا بسبب عقدة النقص التي زرعها نظام كثير جدا ما ناضلنا من اجل رحيله لعلنا نستعيد كرامتنا المهدور معناها على أبواب الملوك والامراء .

في لحظات الحزن القاتلة يا أبا بديع ، أقرأ تعابير وجهك وأشعر بألمك ، وأنت صاحب الإحساس العالي بأبناء جلدتك ووطنك ، وإن كنت فقدت أخا فقد إكتسبت إخوه لا عد لهم أو إحصاء ، ولعل الفاجعة التي حلت بك وبرغم أحزاننا المتراكمة أثبتت أننا لا زلنا على العهد وأن أصالتنا كامنة فينا حتى لو طمرتها أطماع المهجر ومكتسباته الأخلاقية البغيضه .

قف يا أبا بديع فلن نسقط ولو إنكسرنا ، وإن رحل من أهلنا من رحل ، فمشوار الحزن المشترك لا زال طويلا ، ورحلة النضال لم تنتهي بعد أيه الرفيق والثائر والكريم وعزيز النفس .

إنني يا أخي الغالي وفي لحظات أحزاننا القاتلة ، أشعر بالفخر أن الحزن كان قاسمنا المشترك على جالية ووطن ، وعلى تصرفات شعب لم يعرف أو يكتشف أنه مصدر العزة والشرف .

إن سبب شعوري بالفخر هو ذلك الإلتفاف الكبير والغير مسبوق من كل أبناء الجالية معك حتى أولئك الذين خالفوك الرأي وكالوا لك التهم ، رغم أنك لا تملك مالا ولست ثريا أو تاجرا ، لكن شخصيتك المتواضعة وحضورك الدائم ونفسيتك الكريمة كانت سبب تسابق الكل للوقوف معك وذلك الرصيد الحقيقي والأغلى من كل مناصب الدنيا واموالها .

قف أيه الجبل اليمني الشامخ فلا زال في جعبة الأيام من الأحزان ما يكفي لتساقط الدموع ، ولا زال في لحظاتها بقايا كفن وبين ذلك وتلك لا زلنا على العهد وحتما لن ننكسر.

aalmatheel@yahoo.com