سقوط مدوٍ لاسطورة 'الموساد
بقلم/ عبد الباري عطوان
نشر منذ: 14 سنة و 8 أشهر و 18 يوماً
الثلاثاء 23 فبراير-شباط 2010 06:24 ص

الضرر الكبير الذي لحق بإسرائيل من جراء جريمة اغتيال الشهيد محمود المبحوح في امارة دبي، لا يتعلق فقط بانفضاح صورتها كدولة تمارس الارهاب، وتطعن حلفاءها الغربيين في الظهر، وتخون ثقتهم باستخدام جوازات سفرهم، لتسهيل عملياتها الارهابية هذه، وانما ايضا في سقوط اكبر خرافة صدّقها الغرب، وانخدع بها العرب، وهي 'خرافة الموساد'.

الاسرائيليون قدموا انفسهم الى العالم الغربي على انهم خبراء في محاربة الارهاب، واساتذة في علوم التجسس واختراق الجماعات المتطرفة، لتثبت عملية اغتيال المبحوح في دبي، والطريقة التي نفذت بها، انهم مجرد 'هواة'، ينتمون الى مدرسة متخلفة، ويتبعون اساليب بالية عفا عليها الزمن.

ومع سقوط اكذوبة 'الموساد' هذه سقطت ايضا اكذوبة اخرى اسمها الديكتاتوريات العربية، التي حظيت بحماية خاصة من الدول الغربية بسبب ادوارها المزعومة في محاربة 'الارهاب الاسلامي' وجماعاته، لنكتشف ان هذا 'الارهاب' يتزايد، وتتوسع دائرته، وتتضاعف خطورته بفضل هذه الدكتاتوريات وفسادها، واجهزتها الامنية البالية والقمعية، بحيث يتضاعف الثمن الذي يدفعه الغرب من جراء خبرات هؤلاء الحلفاء غير الموجودة، بل وذات الاثر العكسي تماما.

جهاز 'الموساد' حقق هذه الشهرة الكبيرة ليس بفضل عبقرية القائمين عليه، وانما بسبب ضعف نظرائه من الاجهزة العربية، وهي اجهزة تستهلك ميزانيات هائلة من قوت الشعب وامواله، وتنتقل من فشل الى آخر، لأسباب عديدة ابرزها انها انحرفت عن مهامها التي اوجدت من اجلها، اي حماية الوطن والمواطن، لتركز كل اهتمامها وجهودها على حماية النظام وإطالة عمره، وفساده، بمختلف الطرق والوسائل.

عملاء الموساد تحولوا الى تلاميذ هواة عندما جوبهوا بجهاز امني متيقظ وعصري تتميز به شرطة امارة دبي، وهي شرطة دخلت عصر 'الديجيتال' قبل سنوات، وامتلكت خبرات غير عادية في تحليل المعلومات والوصول الى النتائج المطلوبة بدقة غير مسبوقة في اكثر الدول تقدما في مجال الاستخبارات.

' ' '

افيغدور ليبرمان الذي كان يمشي كالطاووس فرحا وغطرسة، بعد وصول الانباء الاولى عن نجاح خلية الموساد في اغتيال الشهيد المبحوح، بدا مكفهر الوجه امام نظرائه الاوروبيين الذين استدعوه الى بروكسل يوم امس لتوبيخه على استعمال جوازات سفرهم في هذه الجريمة الارهابية، والاكثر من ذلك، محاولاته اليائسة للتنصل من العملية بطرق ساذجة لا تقنع اطفال الحضانة من شدة سذاجتها.

فإذا كان جهاز 'الموساد' لا يقف خلف هذه العملية فلماذا يستدعي وزراء الخارجية الاوروبيون نظيرهم الاسرائيلي الى بروكسل لتقديم توضيحات؟ ولماذا يقبل هذا الاستدعاء اذا كانت بلاده بريئة مثلما يدعي كذبا، ولماذا تستدعي بريطانيا وايرلندا وفرنسا سفراء اسرائيل في عواصمها للغرض نفسه؟ على من يكذبون ويتجمّلون؟

اسطورة الموساد المزعومة انهارت بطريقة مزرية في امارة دبي، لان قادة هذا الجهاز، الذي بنى امجاده على القتل والارهاب، حسب مزاعمهم الكاذبة، على درجة عالية من الغباء، بحيث لم يستوعبوا ان العالم يتطور حولهم، وان اساليبهم وخبراتهم متخلفة، ونجاحاتهم وهمية، وسمعتهم مبالغ فيها بشكل متعمد، لارهاب اجهزة عربية في تجمع دول المواجهة سابقا، والتي ما زالت تعيش في العصر الحجري، وتتمسك بأسلوب 'ما هو اسم ابيك الثلاثي واسم امك الرباعي' في مطاراتها.

عشرون عنصرا تابعون لجهاز 'الموساد' يجنّدون لاغتيال شخص اعزل، وفي دولة عربية مسالمة معتدلة ومفتوحة، يؤمها الملايين سنويا بغرض السياحة او العمل، فأين العبقرية والابداع في ذلك؟!

عندما شاهدت الشريط المصـــور للخلية المنفــــذة وتحــــركاتها، شـــعرت كما لو انني اشاهد فيلما مصرياً يعود الى حقبة الخمسينات او الستينات من افلام الابيض والاسود. عمــــلاء مخابرات يرتــدون قبعات، او 'باروكات' شعر مستعار، ويتنقلون بملابس التنس، ويضعون ذقونا او شوارب مستعارة، ويبدو من حركاتهم انهم لا يعرفون انهم في مدينة توجد فيها 1500 كاميرا، وجميع فنادقها مزودة بكاميرات ترصد تحركات النمل في ردهاتها وممراتها.

' ' '

الحكومات الغربية يجب ان تكون اول من يستخلص الدروس من هذا الفشل الاستخباري الاسرائيلي الذريع من حيث اعادة النظر بالكامل في الاسطورة الامنية الاسرائيلية الكاذبة والمزورة التي يعتمدونها كأداة موثوق بها وبقدراتها في حربهم ضد ما يسمى الارهاب.

فمن العار على هذه الحكومات ان ترسل بقوائم الركاب العرب والمسلمين الى 'الموساد' للتأكد من هوياتهم وعدم انتمائهم الى المنظمات الارهابية، باعتباره المرجعية الاهم في هذا الخصوص، بينما سجل هذه المرجعية حافل بالاخفاقات والاخطاء القاتلة.

ومن العيب ان تدفع بعض الدول الاوروبية والافريقية عشرات الملايين من الدولارات لاستقدام مدربين وخبراء اسرائيليين لتدريب اجهزتها حول كيفية محاربة الارهاب، وهؤلاء الخبراء سقطوا بشكل مخجل في حربهم ضد 'حزب الله' او حركة 'حماس'، حيث نجحت الحركتان في اختراق الاجهزة الاسرائيلية نفسها، وخطف جنود من قلاعهم المحصنة، وفي وضح النهار، رغم الفارق الكبير في الامكانيات البشرية والمادية والعلمية.

' ' '

الحكومات العربية، والممانعة منها على وجه التحديد، يجب ان تستخلص الدروس بدورها من عملية الموساد الفاشلة في دبي، باعادة النظر في جميع اجهزتها الامنية وطريقة عملها، لمنع اي اختراقات جديدة ومخجلة على غرار الاختراقات السابقة لجهاز 'الموساد'، التي تمثلت في عمليات اغتيال جرى تنفيذها في اكثر من عاصمة عربية وبطرق مذلة، اعقبها صمت مخجل، وتعتيم كامل على المعلومات لتجنب الفضيحة.

المسألة لا تحتاج الى ميزانيات مالية ضخمة لشراء اجهزة ليست في متناول اليد، فكاميرات التصوير التي كشفت سذاجة عملاء الموساد في دبي، تباع حالياً في محلات كثيرة في العواصم العربية، وتركيبها او تشغيلها لا يحتاج الى خبراء أجانب، فقط الى اناس مخلصين يعيّنون لكفاءتهم وليس لانهم من قبيلة او عائلة او طائفة الحاكم.

ويكفي القول بان اقتطاع نسبة عشرة في المئة من عوائد عمولات وارباح رجال الاعمال المقربين من الاجهزة الامنية، او المحميين من رجالاتها، او حتى العاملين تحت مظلتها، تكفي لتجهيز عدة اجهزة امنية كفوءة وفاعلة، وليس جهازاً امنياً واحداً.

اسطورة 'الموســــاد' سقطت، وستسقـــط اكثر الى الحضيض، عندما تعود معظم الانظمة العربية الى رشدها وبوصلــــتها الحقيـــقـــية، وتعـــــمل من اجل مصلحة الوطن والمواطــن، وليـــس ضدهما مثلما هو حاصل حالياً، وتجعل بوصلتها باتجاه اسرائيل، مصدر الخطر الحقيقي على هذه الامة وعقيدتها.