فعلها الرئيس هادي أخيرًا، وأصدر قراره الذي لفظ علي محسن و أحمد علي خارج قيادة الجيش!، وهو قرار جريئ وشجاع بكل المقاييس، وانتظره الجميع بالداخل والخارج، ولعل الرئيس هادي يتحسس طريقه نحو استبدال مراكز النفوذ والقوة، والتي – طالما بقيت – فإن الرئيس سيكون بلا شك الحلقة الأضعف!
فالمرحلة الأولى من قرارات الهيكلة أطاحت بمسميات الفرقة الأولى مدرع والحرس الجمهوري، وجعلت أحمد علي وعلي محسن بغير صفة شرعية تحت سقف الدستور والقانون!، وجاءت هذه المرحلة الثانية من قرارات الهيكلة لتجرفهما نهائيا خارج قيادة الجيش، ولتبقي على محسن مستشارا لرئيس الجمهورية لشئون الدفاع والأمن بصلاحيات مجهولة! ولتأخذ أحمد علي سفيرا خارج الحدود، فيمضي التوازن العسكري والسياسي في البلاد حرًا طليقًا من قبضتيهما الحديدية، خاصة مع هذا النمط من التفكير المصحوب بطول النفس والقدرة المدهشة للرئيس هادي على تحويل كل الأزمات التي يفتعلها خصومه أمامه - بضرب خدمات الكهرباء والغاز والنفط وإقلاق الأمن وحوادث الاغتيالات - إلى فرص ذهبية له وللجمهورية اليمنية الثانية.
القرارات هذه تأخرت كثيرًا بالتزامن مع وجود علي عبدالله صالح داخل البلاد، فما إن غادر إلى الرياض حتى تنفست هذه القرارات الصعداء وخرجت كلها دفعة واحدة كزفرة هائجة، ما يعني بالضرورة أن القرارات جاءت بإرادة محلية مسنودة بارتفاع اليد الغليظة للحليف الأمريكي الغربي والسعودي الإقليمي بوقت واحد في وجه الطرفين اللذين استأصلهما القرار من قيادة المؤسسة العسكرية!
وإن كان الأمر برمته يعيد إلى الأذهان حقيقة أن الرياض لا تزال هي مطبخ الأحداث المفصلية في تاريخ اليمن! فصالح وقّع في الرياض على المبادرة الخليجية وتنحيه عن الحكم، العام الماضي، وحين عاد إليها الأسبوع الماضي خرجت هذه القرارات الجديدة! وهو ما يفسر الترحيب العاجل لأحمد علي وعلي محسن بالقرارات التي أطاحت بهما!
وتشكل هذه القرارات انفراجة كبيرة في وجه اليمن لأنها - بعد تنفيذها - ستنهي انقسام الجيش، وتبعًا لذلك فتقضي على شبح الحرب الأهلية والعودة للمربع صفر، بذات القدر الذي تطمئننا على حضرموت، خصوصًا والوحدة الوطنية بشكل عام، و فوق كل ذلك بناء جيش وطني غير جهوي ولا عشائري أو قبلي عشعش فيه الفساد لدرجة وجود أكثر من 120 ألف اسم جندي وهمي فضلًا عن صفقات السلاح المشبوهة والطائرات التي تسقط على رؤوس المواطنين، وما خفي كان أعظم! في بلد تسبب انقسام الجيش فيه بتنامي الإرهاب وتخلق جماعات العنف! كما تملك هذه القرارات - بعد تنفيذها - أن تعبر باليمن نحو الانتخابات الرئاسية القادمة بثقة كبيرة من تربُّع الرئيس هادي ثانية على عرش الرئاسة!
لكن الحصافة السياسية كعادتها لا ترفع سقف التوقعات ولا تطلق العنان لأحلام اليقظة! فالظاهر أمامنا بعد إعلان القرارات وحتى بعد أن يتم تنفيذها، أن الجنرال علي محسن باقٍ في صنعاء مستشارًا للرئيس وليس للقائد الأعلى!، وهو ما يجعله قريبا من الرئيس هادي في الوقت الذي يحتفظ فيه بأدوات نفوذه وعوامل قوته، التي طالما جعلته الرجل الثاني بقدرات الرجل الأول!
صحيح أن القرارات الأخيرة قد نزعت عنه الشرعية وجردته من موقع القيادة، لكن نفوذه المتجذر في مختلف مفاصل الجيش والحياة السياسية والوظيفة العامة ورجاله الذين صنعهم وادخرهم لهذه الظروف سيجعلونه حاضرا -بكل تأكيد - وإن بدرجة أقل عما كان! وتحويل موقع الفرقة المدرعة إلى حديقة عامة تحمل اسم اليوم الذي انضم فيه للثورة ما هو إلا تخليد له واعتراف بدوره في الثورة، وهو بهذا يستحق ذلك!
وباستثناء أن الطرف الآخر لم يكن ولن يكون قريبًا من الرئيس، فإن خروج أو إخراج أحمد وطارق وعمار خارج الحدود - يضيف فقط لما ينطبق عليهم مم ذكرته عن الجنرال - أنهم سيكونون خارج البلاد بعيدين عن التواصل المباشر مع قوى المركز والأطراف للتحضير والاستعداد للانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة العام المقبل، وهم يستحقون ذلك! وإلا عادت عقارب الساعة إلى الوراء، ليبدو القنصل عمار أمام لعب دور أمني استخباري في القرن الأفريقي وفقا لطبيعة الحضور اليمني الذي بدأ في عهد صالح داخل اثيوبيا والقرن الأفريقي، وخصوصا ما ارتبط حينها بظهور القرصنة البحرية! وهو ما سيبدو ملائمًا للوكيل السابق للأمن القومي اليمني الذي تأسس برغبة وتمويل أمريكي!!
غير أن احتفاظ الخليج، وفي مقدمتهم السعودية بمطبخ الأحداث وشخوصها قد يعني هنا أمرًا أبعد بكثير عن كل ما سبق! فرموز العهد الملكي الإمامي من بيت حميد الدين يعيشون في السعودية كأمراء، والعملية السياسية في اليمن تجري وفقا للمبادرة الخليجية، وفي حال عدم رضى الخليج عن سير الأداء، فإن عودة علي سالم البيض إلى واجهة الأحداث في الجنوب هذه الأيام يمكن أن تتكرر في الوقت المناسب مع صالح المتواجد في الرياض والسفير أحمد في الإمارات!!، أما طارق وهاشم فالظاهر أنهما "الحيطة القصيرة" في حسابات الوزن والنفوذ لمختلف الأطراف في الداخل والخارج!!
وإذا تفحصنا الصورة الكبيرة من زواياها المختلفة، سنجد أن سنحان وعائلة الأحمر - التي كانت اليمن ببحرها وبرها وسمائها تحت قبضة جنرالاتها - قد دفعت ثمنًا باهظًا لانقسامها على نفسها! ففشلهم في إدارة البلاد واقتتالهم مع بعضهم جعلهم الفاتورة التي تدفعها اليمن اليوم!!، ولن تبكي عليهم البواكي، لأنهم حين اتفقوا ظلمونا وحين اختلفوا قتلونا!! فكان اتفاقهم مشكلة واختلافهم مشكلة أكبر، لكنها أطاحت بهم جميعا بضربة واحدة وبقرار واحد..!
وعلى قاعدة المثَل الشهير: "أُكلت يوم أُكل الثور الأسود" فإن الإطاحة بأحمد علي وعلي محسن ويحيى وعمار وطارق وهاشم قد بدأت في اليوم الذي اقتتل فيه الحرس مع الفرقة! وخطها صالح بيده في اللحظة التي وقّع فيها على المبادرة الخليجية وتخليه عن الرئاسة!!
ليبقى السؤال الآن: وماذا بعد؟! هل حقًا أن هذه القرارات ستقرأ الفاتحة على ضريح مراكز القوة والنفوذ التي حكمت البلاد وتقاسمت ثرواته منذ 17 يوليو 1978م حين وصل صالح الحكم على رؤوس الثعابين؟!!
تقديري أن الحال قد يبقى على ما هو عليه فترة قصيرة، وقد تطول قليلًا أمام تفكك وارتخاء القبضة الحديدية للمركز المقدس في صنعاء!، فالقوة والنفوذ لا تتبخر بقرار لكنها تخضع مع الوقت لعمليات التحلل الطبيعي من داخلها! وأجزم بأنها ستتسرب من بين أيديهم وأمام أعينهم وبخاصة حين يجف الضرع ويصبحون جميعًا وادٍ غير ذي زرع!!
لكني أستطيع القول من الآن، لسيادة الجنرال وسعادة السفير... وداعًا !!!.