إسطنبول .. مدينة عادية
بقلم/ محمد عبد الملك
نشر منذ: 8 سنوات و 8 أشهر و 20 يوماً
الأربعاء 24 فبراير-شباط 2016 07:40 م


لا تنسى جميع تلك الأغنيات المحفورة في ذاكرتنا منذ أيام الطفولة.

الطباشير والألوان، الأصدقاء، وأدوات ألعابنا البدائية وأمنياتنا البسيطة.

 اندهاشتنا الأولى بالانتقال الى مرحلة دراسة تخصص الجامعة ومصادفات القدر. 

 

"يخبرني أبي بانه سيشتري لي بدلة أنيقة مكافأة لتفوقي في المدرسة وسيصحبني معه غداً إلى مدينة تعز" ولا أنام بعدها طوال الليل وأنتظر تسلل بعض أشعة الشمس والصباح من جوار النافذة.

 ذلك السلم الذي صعدته اول مرة عند زيارتي للمدينة أصبح ركاماً بعد ان سقطت عليه قذيفة أطلقها الحوثيون، اما الخياط الذي اخذ مقاساتي واختار لي لون البدلة وكان يتظاهر لي بانه معجب بوسامتي لم تعجبني بدلته في النهاية وربما أصبح عاطلا عن العمل الان. 

 حسناً أنا لم أنسى كل هذه التفاصيل المهمة جداً وأعتبرها من بين مذكراتي المهمة، قلت مذكراتي، ذكرتني هذه الجملة بمذكرات محمد حسنين هيكل الذي توفى قبل أيام وكان ينوي زيارة اليمن، هذا البلد العظيم الذي يحبه الجميع وأشتاق إليه الان رغم كل ما به من وجع وجراح.

أغنيات أمي العظيمة في الحقل من كلمات الفضول، لم تكن تشبه اغنيات أبي الذي كان لديه مسجلة وراديو ويخرجها إلى فناء منزلنا ثم يستمع الى أغنية "آنستنا يا عيد" قبل ان يصبح لدينا تلفاز وتصر صغيرتنا أمة الرحمن ان تستمع الي انشودة طيور الجنة ولا تتركني أتابع الأخبار.

جميع الاشياء الان تقودني الى ذكريات هذا الزمن جميل أعترف بأني أكثر ما كنت أندهش فيه ببعض الأغنيات المختلفة عن أغاني أمي وأعتبر نفسي شاباً عصرياً وربما من النخبة، لا اقصد بالنخبة حزب ياسين سعيد نعمان الذين يستمعون لفيروز كل صباح ولا يكلفون أنفسهم بصياغة بيان سياسي صادق.

 مباشرةً إلى أكثر مصادفات تجارب دهشتي بالحياة الجديدة واكتشافنا لعميق أرواحنا الصادقة، لقد كبرت وأصبحت تعز واحدة من بين أكثر الأشياء التي أحبها وأشعر معها بالألفة والانتماء وارتادها وحيداً في حين كان أبي يتفاخر باعتمادي على نفسي من دونه.  

 صنعاء وجهتي القادمة الان لدراسة الجامعة-2011-2012م، أما الشيء المثير لرغبتي بالاندهاش فليست صنعاء المدينة الجديدة والتي أزورها لأول مرة وحيداً أيضاً بعد ان شاركت كأصغر رئيس لجنة انتخابات رئاسية.

 إنها انت وحسب يا "ع" وأنت تبتسمين ابتسامتك العريضة إلى صديقتك عندما تسمرت في المكان" تلك لحظة إندهاشتي الأولى والأخيرة ولا أتذكر ما الذي أصبت به وقتها.

 حدث هذا في فترة التحول الكبير للنظام السياسي في البلاد حينها كنت احلم بالجامعة وبالحب وبالوطن. 

وجع وفرح، قرب وبعد، تجارب أخرى ومختلفة اخرى كنت انت معها الشيء الثابت والوحيد الذي يفتح شهيتي للحياة والأمل والعمل وايضا اثبات ذاتي لأصبح صحافياً أكثر مما هو مستمع. 

اقتحم الحوثيون المدينة دون ان ننتهي من اكمال فصل دراسة الجامعة ونتبادل الورد مرة واحدة لمناسبتين كما اردت ان افعل ويكون.

الان اطارات الباص اندفعت بسرعة باتجاه الأمام، أصرت على حلمنا قسراً واختارت طريق الاغتراب أشعر بضعف وحزن كبيرين لان روحك والبلاد يشداني للوراء كلما ارتفع مؤشر السرعة امام السائق الذي لا تشبه ملامحه بلدنا.

 كانت هذه اخر ما استطعت ان اكتبه إليك قبل ان تضيع اشارات الاتصال على الحدود وكنت مجبرا على متابعة ما رأيت انه الانسب في ضل الوضع السائد بالبلد.

 في الغياب يصبح الحضور اقوى.. كنت اعتبر هذه واحدة من بين مبالغات الوهم التي يكتبها الشعراء ويتظاهرون بان الحنين يقتلهم مثلي عندما تأخذني لوعتي إليك.

المسافات بعيدا عن الوطن ستعصرك حتما وتجعلك تتذكر رائحة أمك من غسيل ملابس المدرسة، بل وأقصي مما اتمناه الان ان اعرف هل فجعتها اصوات طائرات الحرب. 

ستسترجع شريط هذا الزمان القديم ولن تستطيع أن تتجاوزه ستهرب إليه رغم المفارقات الكثيرة التي تعيشها الان.

ازدحام اسطنبول واندهاشك بالبنية التحتية لهذه المدينة الواسعة وجمال البحر ووسائل المواصلات التي تجاوز عدد الركاب في إحدى محطات المترو فيها أكثر من ١٢٢ مليون راكب خلال عامين.

 كل هذه لن تعني لك الكثير في لحظة شعور بالحنين الي رائحة أمك وابتسامة نبتة روحك تلك الوديعة الهادئة الساكنة في احشائك، هي أجمل مصادفات الحظ والقدر، ويبقى السؤال كيف تحضر في الغياب؟