|
فى الازمة اليمنية،نحن أمام نموذج شبيه،بالنموذج السودانى على نحوما،كما ان كلاهما نموذج يختلف عن نموذج الازمات الصومالية والافغانية والعراقية، حيث اليمن والسودان، تجرى وقائع ازمتهما بصراعاتها المسلحة وعمليات تفكيك جغرافيتهما وجهاز الدولة المركزية، دون احتلال عسكرى اجنبى مباشر على الارض.
الازمة اليمنية تجرى من اولها الى اخرها،فى ظل حكم يمنى يتمتع "بكامل" السيادة على ارض الوطن — كما هوحال السودان — وهو ما يطرح التساؤل عن من وماذا وراء ما يجرى هناك،اذ لوكان هناك احتلال عسكرى اجنبى لكان هو المتهم واضح الفعل والدور وفق كل التجارب التاريخية التى شهدتها الدول التى عاشت أو عانت من تجربة الاحتلال حيث المستعمر لا يدخر جهدا لا وقت الا وكرسه فى اتجاه اثارة الفتن فى داخل المجتمع وبين المقاومة والشعب بل بين صفوف المقاومة ذاتها.
لكن الاجابة على مثل هذا التساؤل تتطلب اولا،توصيف ما يجرى فى اليمن وتحديد ملامح الازمة وطريقة سير الاحداث،اذ معرفة الفاعل فى الاحداث السياسية الغامضة، عملية يجب ان تجرى على طريقة استنتاج الفاعل فى الجرائم الجنائية من خلال معرفة طريقة ارتكاب الجريمة،اذ الفاعل المحترف يختلف عن الهاوى، كما ان الاهم ليس البصمات بل البحث عن هدف الجانى من ارتكاب الجريمة.
فى الشق الاول، فيما يجرى فى اليمن، تبدو قضية الحركة الانفصالية الجنوبية التى يقودها ما يسمى بالحراك الجنوبى، هى القضية الاحدث والملمح الجديد والكاشف لكل ما يجرى فى اليمن فى مختلف المناطق. الحراك الجنوبى يعمل على استعادة وضع اليمن المقسم تحت شعارات واضحه، وان كانت الاسباب المطروحة لا تؤدى الى مثل تلك الاهداف. الحراك الجنوبى هو حركة انفصالية تستهدف انهاء الدولة والجغرافيا اليمنية الموحدة، لا انهاء الشكل السياسى لطريقة حكم دولة الوحدة التى تشكلت بعد حرب الجنوب والشمال،او هى بالدقة حركة تحاول استعادة الوضع الاستثنائى الذى مرت به اليمن، حين قسمت الى شمال وجنوب — واصبح لكل منهما دولة وهولم يكن سوى حادث عارض فى التاريخ اليمنى الطويل، ذلك ان الوحدة اليمنية الحالية — بغض النظر عن العمليات السياسية والعسكرية والاوضاع الاجتماعية — لم تكن سوى عودة الى ما كان عليه هذا البلد عبر التاريخ. نحن امام حركة انفصالية لا هدف لها الا الانفصال والتفتيت والتقسيم، مهما كان الحديث صحيحا حول السياسات التى جرى تطبيقها بعد الوحدة،بما ادى الى التهميش اوالافقار — فى كل انحاء اليمن — اوالاضطهاد حتى لمواطنى جنوب اليمن.الحراك الجنوبى هوحركة انفصالية، اذ لا خلاف "ايديولوجى" الان بين اليمنيين كما كان الحال عليه ايام حكايات الاشتراكية،التى جرى الانطلاق منها لتشكيل اليمن الجنوبى المختلف فى سياساته ونظامه الاقتصادى والاجتماعى عن اليمن الشمالى. وفى ذلك نحن امام حالة تكشف عدم قدرة النخب العربية على مواجهة تحديات الحكم وعدم القدرة على بناء دولة موحدة، بما يعيد الى الاذهان تلك المرحلة التى مرت بها اوروبا قبل نشأة الدولة الوطنية الحديثة،لكن فى القرن الواحد والعشرين وبالتراجع عن كل ما تحقق. وامام حالة تكشف ما وصلت اليه جماهير الامة التى تثبت هنا — كمثال لما هوجار فى بلدان اخرى — عدم يقظتها ووعيها او هى حركة مؤشر الى ما وصلت اليه جماهير الامة من ضجر يؤدى الى مهالك.
وفى الشق الثانى لمكون الازمة اليمنية، تبدو قضية الحوتيين — اوالحوثيين حسب نطق اهل اليمن — هى حالة خاصة للغاية فى العالم العربى والاسلامى المعاصر، اذ هى حالة نموذج مستحدث هو الاول من نوعه، فى مواجهة الدولة الحديثة التى تشكلت خلال مرحلة الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية.
فى "الحالة الحوتية" نحن امام صراع مذهبى مسلح ضد الدولة الى درجة تدفع الى الحيرة فى معرفة اهدافه النهائية. فى لبنان،حمل حزب الله السلاح وفق مشروعية مستمدة من مقاومة الاحتلال، وفى ذلك كان الحزب يعوض ضعف الدولة اللبنانية التى لا تملك طريقة ولا قدرة لطرد المحتل "كدولة"، وهو وجد فى البيئة الطائفية ما يعزز وضعيته فى الصراع ضد اسرائيل، وفى ذلك هو عزز موقع طائفته وحدد معالم قوته "الجديدة". ومن بعد حين اشتعل الصراع الداخلى، استخدم هذا السلاح، لكنه عاد من بعد مجددا وعلى عجل للحوار مع الداخل بل هو دخل فى الحكومة مرة تلو الاخرى — مع وجود السلاح بيديه فى كل هذا المشوار الطويل — لكنه لم يطرح "رؤية مذهبية لبناء الدولة "، بحكم توازنات الوضع الطائفى وحالة التعدد والتنوع المانعة لاستئثار اى طائفة بسلطة الدولة. لكننا فى الحالة الحوتية امام مجموعة مذهبية تحمل السلاح فى مواجهة الدولة وبقية المجتمع، بما يطرح التساؤلات حول ما اذا كانت تستهدف اعادة مذهبة الدولة بالسلاح، وهو لا يعنى فى نهاية المطاف الذهاب بالامور الى صراع عبثى داخلى لن ينتح عنه سوى تحطيم المجتمع والدولة والدخول فى دوامة حرب اهلية اذا ما انفكت الدولة. واذا لم يكن ذلك هو هدفها، فليس هناك سوى هدف اقامة كيان مذهبى مصغر على جزء من ارض الدولة، فى تلك البقعة التى تنشط فيها. وهو ما يطرح تساؤلات عميقة حول حالة الانبعاث الحضارى الراهنة،التى ما تزال تطرح الاسلام كمذاهب وفرق تستقى فكرها وتجاربها ومواقفها من اخر مراحل التخلف الحضارى دون قدرة على ميلاد تيارات حديثة قادرة على تجديد الرؤى ومراجعة تلك المراحل التى مرت بها الحركات الاسلامية خلال ما قبل الحقبة الاستعمارية.
وفى الشق الثالث، فنحن امام ترد اقتصادى واجتماعى وسياسى فى ادارة الدولة "الوطنية"، بات ينتج بؤرا صديدية فى داخل المجتمع تتنوع اشكاله وتتعدد مخاطره، دون قدرة من النخبة الحاكمة على اعادة تدوير كراسى الحكم بينها، لدرء مخاطره واعادة المشروعية للدولة ولوجودها، ولا نقول بما يعيد للحكم مشروعية بقائه،اذ المهدد الان بقاء الدولة لا استمرار الحكم، وهو ما يطرح تساؤلات حول "الدور التاريخى" لنخب الحكم العربية،التى بدأت الحكم بعد الاستقلال على اساس فكرة الوطن ومواجهة المستعمر، وها هى تترك الساحة الان للاضطرابات والحروب والفتن الداخلية، وما يهمها هو مصالحها ومن اقرب اليها فى الحكم ومؤسساته.
وبتوصيف ملامح الازمة وتساؤلاتها، يمكن البحث عن من وراء تفجير الاوضاع على هذا النحو فى اليمن. لكن فهم الازمة اليمنية يتطلب اولا مراجعة حالات التشابه والاختلاف بينها والازمات الاخرى الناشبة فى المنطقة،للقياس عليها.
اليمن والسودان!
تبدو الازمة اليمنية اقرب الى الازمة السودانية من زاوية ان كلا البلدين يجرى تفكيكهما وتتصاعد ازمتهما، دون وجود احتلال خارجى مباشر. وفى واقع المجريات على الارض، فان ثمة مجالات اخرى للتشابه. اذا كان محور صراع الجنوب فى كلا البلدين مختلفا عن الاخر فى زاوية الشعارات المطروحة اساسا للصراع — جنوب السودان يطرح شعارات الهوية وجنوب اليمن على اساس افكار التهميش والظلم — فان النتيجة تكاد تكون واحدة:الجنوبان يسعيان للانفصال عن جسد الجغرافيا السياسية للدولة، وفى ذلك يمكن القول بان التحرك فى جنوب اليمن هو قريب الشبه ايضا بما يجرى فى دارفور، اذ أن كلا من متمردى جنوب اليمن ومتمردى دارفور لا يتمايزان عرقيا اوحضاريا عن بقية المجتمع، وان كان "اليمنى" يطرح انفصالا، بينما متمردو دارفور لم يطرحوا هذا الامر بعد، وان كانت كل ممارساتهم ومواقفهم تسير الى هذا الاستهداف برفضهم كل محاولات الحوار مع الحكومة السودانية ودأبهم على افشال ما يبدأ عبر وسطاء عرب أو أجانب حتى.
لكن التشابه بين الازمتين له ابعاد اخرى كاشفة اكثر بما تطرح من دلالات ابعد. فى الازمة السودانية، نحن امام تعدد القوى الذاهبة الى تفكيك واضعاف جهاز الدولة بالعنف المسلح، سواء من قوى التمرد فى الجنوب — عبر تاريخ مرير من الصراع — أو من القوى المتمردة فى دارفور،كما القوى التى تمثل عصب ومركز الدولة هى قوى ايضا فى حالة تصارع مع بعضها البعض ومع الحزب الحاكم الى درجة تأييد التدخل الخارجى، كما هو حال حزب المؤتمر الشعبى وحزبى الامة والاتحادى. وذلك هو ذات النمط الذى يعيشه اليمن الان — من هذه الزاوية العامة — اذ تعانى الدولة من الانهاك فى الصراع العسكرى والسياسى مع الحوتيين وقبل ان تفيق او تحقق نصرا واضحا، عاجلها الحراك الجنوبى الانفصالى وبالقوة المسلحة ايضا، كما أن كلا التمردين جاريان، بينما مركز الحكم وقواه السياسية والاجتماعية ومؤسساته تعانى جميعها من الاضطراب والاختلاف بين الفرقاء!.
وفى الازمة السودانية،نحن امام قوى واتجاهات متعددة فى مناطق مختلفة من اقليم الدولة السياسى (فى الجنوب والغرب والشرق)، تسعى جميعها الى اسقاط الدولة المركزية وتفكيكها او اعادة بنائها على اسس اخرى، وهو ذات الامر الذى يجرى فى اليمن، الذى اصبحت الدولة المركزية فيه فى مواجهة هجوم وتمرد انفصالى فى الجنوب واخر فى الشمال — فى المناطق التى يسيطر عليها الحوتيين — بما يحملها اعباء ضخمة — اذ ان الدولة المركزية تعانى اصلا من حالة ضعف تاريخية فى بنيتها وقدراتها، لم تفلح كل الجهود التى بذلت فى تقويتها.
غير ان الاهم من كل ذلك، هو ان كلا الحكومتين السودانية واليمنية، تتحدثان فى دعايتهما الموجهة ضد المتمردين، عن تلقيهم دعما خارجيا، بما يقويها فى مواجهة الدولة ويحقق لها نفوذا داخل المجتمعات — خاصة الفقيرة — وان تلك الحركات تعمل وفق اجندات خارجية وضد مصالح المجتمعات.
طبيعة الدور الخارجى
فى تحديد طبيعة الصراع، يبدو الاهم — من وجهة نظر الحكام والحكومات — هو اننا امام تساؤلات جدية حول الدور الخارجى فى دعم الحركات الانفصالية واعمال الانهاك والتفكيك للدول والمجتمعات العربية والاسلامية. من المفهوم ان الخطة الغربية للصراع ضد الدول الاخرى تجرى فى المرحلة الراهنة وفق قاعدة تفكيك الدول وتغيير الخرائط السياسية الوطنية التى تحققت عقب الاستقلال. وفى واقع الامر يبدو واضحا ان الدعم المالى الخارجى حادث فى كل الحالات الانفصالية الجارية فى منطقتنا — وهى فى اغلب الاحوال تجرى فى مناطق فقيرة ومهمشة بما يعنى ان اهل تلك المناطق غير قادرين على توفير الدعم المالى لتلك الحركات — وهو ما يظهر فى عمليات التسليح والانفاق على المجموعات القتالية، التى تحتاج الى ميزانيات سنوية بالملايين. كما يمكن القول — من متابعة التطورات — ان هناك دعما سياسياً ودبلوماسيا وإعلاميا لكل الحركات الانفصالية، ممثلا فى مساندة اقتراحات واراء تلك الحركات والترويج له فى المؤسسات الدولية وفى اوساط الاقليم وبين حكوماته، ومن خلال فتح اجهزة الاعلام امام العناصر القيادية لتلك الحركات. كما الدعم الخارجى يتمثل ايضا فى دورات التدريب ونقل الخبرات للعناصر السياسية والإعلامية والعسكرية..الخ.
لقد كان نموذج العراق كاشفا لابعاد الفعل الخارجي قبل العدوان، اذ تبنت ايران مجموعات سياسية بعينها سلحتها ودربتها وأمدتها بالمال والخبرة، كما دخلت اسرائيل على خط دعم حركات انفصالية بكل الوسائل والطرق بما انهك النظام العراقى وهيأ اوضاع الانفصال الجارية. وفى الحالة السودانية، جرت اتهامات عديدة — بل صدرت اعترافات من المتمردين انفسهم — لدول خارجية ودول فى الاقليم بامداد حركات التمرد فى جنوب السودان وفى دارفور. وهكذا الحال فى اليمن ايضا،اذ صدرت اتهامات من جهات رسمية يمنية لاطراف اقليمية ودولية بدعم حركات التمرد واسنادها، وهو ما تدعمه الاحداث الجارية بالوقائع سواء بالنسبة لاعمال الحراك الجنوبى او بالنسبة لتحركات ودور الحوتيين.
لكن الاقتصار على هذا الفهم، وايا كانت درجة صحته،لا يقدم الاجابة الحقيقية الكاملة عن من وماذا وراء ما يجرى فى اليمن وغيرها.
الدور الداخلي
مع التسليم بالدور الخارجى وارتباطه بمصالح الدول الاستعمارية بل وحتى الدول الاقليمية ذات المصلحة فى إحداث القلاقل فى هذا البلد اوذاك، فان الاصل فى الامر هو:لماذا تتمكن الدول الاخرى من احداث مثل تلك الاختراقات فى داخل هذه الدول التى تملك كل الحقوق فى السيطرة على مجتمعها وادارته؟.والاجابة بوضوح،ان العامل الداخلى هو ما يهيئ الاجواء لتلقى الرأى العام لتلك الحركات والتعاطف معها على هذا النحو او ذاك، وبالدقة ان نظم الحكم — كمسيرة تاريخية — هى المسئولة عن وصول المجتمعات الى هذه الدرجة من التفكك، بفعل الفساد والاضطهاد وعدم الكفاءة وغلبة المصالح الضيقة لنخب الحكم على مصالح المجتمعات والدول، بل هى المسئولة عن تدهور الروح والولاء الوطنى وسيادة النزعات العرقية والقبلية والجهوية فى داخلها.
في السبت 01 أغسطس-آب 2009 07:08:47 م