|
إن أصول أو جذور الحكمة والقوة والبأس (الشديد)؛ بالنسبة لنا كيمنيين؛ تضرب في عُمق تاريخ ما قبل الإسلام وعبقه وعراقته؛ وما جاء ذكرها ونسبتها إلى اليمنيين في العصر الإسلامي إلا تأكيدا لحقيقة قد دونها القرآن الكريم وأثبتها لليمنيين منذ ألاف السنيين؛ والنص القرآني بقدر ما أثبت لهم تلكم الصفات؛ أثبت لهم وبذات القدر أن حكمتهم تزدان قوتهم وبأسهم ؛ وهذا ما نفهمه من قوله الله عز وجل على لسان الملكة بلقيس التي تتقد حكمة ورجاحة عقل: (يا أَيُّهَا الْمَلأُ إِنَّي أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِى فِ ي أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالاٌّ مْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنِّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ).
إن الآية - بادئ ذي بدء - تثبت لليمنيين قديما أنهم أصحاب شورى؛ وأن مواقفهم تصدر عن رأي جماعي؛ بمعنى آخر يمكن أن نعد نظام الملكة بلقيس على أنه كان نظاما مؤسساتيا بقدر إمكانيات ذالكم الزمان والمكان ، وثانيا - وهو موضوعنا - أن اليمنيين يتسمون - كما سلف - بالقوة والبأس ( الشديد ) ؛ و ثالثا - وهو الأهم - أنهم أهل الحكمة وخواصها ؛ لهذا كان ت حكمة اليمني ي ن دائما وفي كل الملمات والنوائب تغلب بأسهم وقوتهم، وسر ذلك يرجع إلى أن مواقفهم تصدر تجاه معضلة عن رأي جماعي لا فردي، وعليه يمكن القول أن الرأي الجماعي هو ينبوع الحكمة ومشكاة نورها الذي لا يخبو مهما اشتد ظلام المعاندين وبان ضلالهم.
والحكماء وحدهم غالبا ما يرجحون جانب الحكمة؛ لهذا كانت الملكة وقومها والموقف الذي صدر عنهم تجاه دعوة سليمان عليه السلام، كان كل ذلك يمثل الحكمة اليمنية عن ممارسة وهي في أعلى صورها ؛ وبدلا من اتخاذ قرار [ الحرب ] واستعمال القوة والبأس مع القدرة الكاملة عليه (نحن أولي قوة أولي بأس شديد) ؛ ات ُّ خ ِ ذ قرار [إرسال هدية ] ليتغلب نبراس الحكمة ؛ (وَإِنِّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ) ؛ وسنة الله اقتضت منذ سالف الأزمان أن الحكماء على اختلاف مشاربهم ملوك وأمراء وفلاسفة هم قلة، وكانت الملكة بلقيس مثلا لتلك القلة الفريدة في بلاط الملك؛ الذين يستمعون إلى صوت رسل الحق ؛ وكان في الجانب الأكبر هم الدكتاتوريون ومثالهم في عصر ما قبل الإسلام فرعون مصر، والفراعنة - قديما وحديثا - لا يس ت معون إلى صوت الحق، بقدر ما ينصتون إلى صوت شهوة الملك والشهرة؛ فتأخذهم العزة بالإثم وفرق كبير بين خطابين الأول لبلقيس التي مثلت الجانب الحكيم والأخر لفرعون الذي مثل الجانب العقيم إذ كانت كل قراراته ومواقفه عن أحكام فردية فهو من قال الله - عز وجل على لسانه: (ما علمت لكم من إله غيري) رأي فردي ممقوت وممجوج أدى به وقومه إلى نهاية مخزية .
وهكذا تتابع الفراعنة استمرت تصريحاتهم تتابع؛ إذ سمعنا في العصر الحديث على ألسنة الفراعنة الجدد؛ تصريحات فرعونية تعود إلى العهد القديم من حيث المفهوم؛ بيد أنها كانت في غاية الحقارة من حيث استخدام المصطلح في التعبير عنها في الوقت المعاصر ؛ من مثل [جرذان] – مثلا -على لسان القذافي ، و[طفيليات] على لسان يحيى محمد عبد الله صالح بن أخ صالح المخلوع؛ إذ وصف الثوار في أول ظهور له بعد هروب عمه إلى السعودية بأنهم طفيليات.
وصالح نفسه كثيرا ما كان يردد المصطلح الفرعوني (شرذمة) في أغلب خطابته؛ إذ عزا النص ا لقرآني هذا اللفظ إلى القاموس ال فرعون ي القديم؛ وصاحبه الدكتاتور الأول؛ إذ قال عز وجل على لسانه؛ (إن هؤلاء لشرذمة قليلون)؛ وهو يقصد معارضي حكمه المستبد والمستعبد؛ فلسان صالح - على الرغم من تبدل الأماكن وتغير الأزمان - نفسه هو اللسان؛ فلطالما هذا الأخير الصغير بالإضافة إلى استعمال ألفاظ فرعونية؛ قد رفض الحوار وركض وراء دول الجور - عفوا - الجوار؛ ورضي لنفسه الاستبداد بالرأي والإنفراد الذي أفضى به - كما كان شأن صاحبه العتيق إلى الغرق ؛ لكن كان غرق هذا الأخير تحت أمواج الشعب ؛ وعندما أدركه الغرق مثل صاحبه فرعون - آمن بالحوار وأهميته، ومما تشابه به فرعون وصالح - بالإضافة إلى التصريحات؛ الأفعال؛ إذ كلاهما قتل الأطفال؛ بيد أن الأول كان يذبح رؤوسهم في حين الثاني فجرها تفجيرا.
و صالح وعصابته؛ يريدون أن يواجهوا ألق الشعب اليمني واصطفافه السلمي المتحضر الذي ظهر في أحسن صورة مدهشا بها العالم؛ وهو الآن يريد أن يشوه هذه الصورة من جديد كما سعى في تشويهها سلفا؛ فمن ناحية يصر على أن يرسخ أمام العالم فكره العقيم من أن الشعب اليمني عبارة عن عصابات مسلحة وقطاع طرق ومتخلفين ؛ وذلك بعدما فوت عليه الشعب الصورة الأولى المشوهة فأثبت ع يانا بيانا من خلال سلمية ثورته؛ أن عقلية صالح هي الرجعية وهي المتخلفة. ومن جهة ثانية حتى لا تفضي صورة السلمية إلى بناء يمن جديد مدني فالسلمية هي القاعدة الصلبة لقيام الدولة المدنية كما أنها رأس مال الثورة؛ لهذا هو يتحدى شعبه السلمي دائما محاولا إخراجه من سلميته حتى ي ضربه بيد من حديد مخالفا بذلك كل أصحاب الرأي الرشيد الذين انشقوا من حزب المؤتمر، بعدما تأكد لهم أن صالح هو عمل غير صالح؛ بتمسك برأيه و عناده وانفرا د ه؛ مما أودى بالبلاد والعباد إلى مهاوي الفساد وانحرف بالجميع عن سبيل الرشاد ؛ كصاحبه التليد الذي ظن أن رأيه لوحده هو الفريد والسديد (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)؛ فهذه هي خلاصة حوار الفراعنة والتابعين لهم بإتقان ؛ يدعون للحوار على أساس قاعدة: (أحلبي وإلا السكين) .
وهذا هو حال الشعب اليمني مع علي صالح وعصابته؛ مطلوب منه أن يغلب حكمته على تعنت صالح وأن يتحمل كل بطش تلك العصابة على الرغم من قدرته على مثل ذلك البطش بل بما هو أشد، لكن كما قلنا مرارا إن الشعب اليمني دائما مت تسبق حكمته قوته وبأسه، وفي صورة لقمان الحكيم يضع نفسه، حتى يفوت على علي صالح فرصه في جر الشعب إلى أتون حرب لن يكون إلا صالح هو الخاسر الأكبر فيها وعصابته، وتغليب صوت العقل على صوت الحرب لا يعني – إطلاقا – أن الشعب اليمني ضعيف أو ذليل؛ بقدر ما يشهد له أنه يتفجر حكمة وصالح وعصابته والمتآمرين يشتطون غضبا من حكمة اليمنيين.
وعليه فإنني - هنا - لا أوافق قراءة سيد قطب - رحمه الله وأسكنه فساح جناته – أو أتفق معها عندما قال - معلقا على قوله تعالى على لسان قوم الملكة بلقيس: (نحن أولي قوة وألي بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين) – أن قوم الملكة بلقيس (وهم أهل اليمن) ضعفاء وليسوا ب أقوياء وأذلاء وليسوا ب أصحاب بأس؛ لأنهم أرجعوا الأمر إلى الملكة ؛ وهي امرأة؛ والمرأة في الغالب- ب رأي قطب - لا تتخذ قرار الحرب ؛ لطبيعتها الرقيقة؛ وهذا الرأي على الرغم من وجاهته؛ بيد أنه لا ينطبق مع حال اليمنيين ألبتة؛ فالآية نزلت في سياقهم؛ وقول سيد قطب السابق يتناقض مع ما منح الرسول صلى الله عليه وسلم اليمنيين من أوسمة فريدة ؛ إذ وصف النبي صلى الله عليه وسلم اليمنيين بأنهم ظهر وسند ومدد ، ؛ وهذا يتناقض تماما مع ما ذهب إليه قطب من نفي القوة والبأس (الشديد) عن اليمنيين؛ بيد أن حكمة اليمنيين هي التي تحدد زمن ومكان استعمال القوة والبأس، وليس من يحدد ذلك صالح، فاليمنيون يريدونها حكمة يمنية ويمن إيمان؛ في حين أن صالح يريدها حكمة [أفغانية] ويمانستان بدلا من يمن الأيمان.
في الجمعة 30 سبتمبر-أيلول 2011 03:50:36 م