في مصلحتنا فاسد كبير
بقلم/ د. عبد الله أبو الغيث
نشر منذ: 12 سنة و 10 أشهر و 17 يوماً
الجمعة 30 ديسمبر-كانون الأول 2011 08:40 م

لا يخفى أن الفساد قد استشرى في العهد الصالحي إلى درجة صار معها هو الأصل وما دونه أصبح الاستثناء، فقد انتشر الفساد بشكل مرعب وأصبح غول يطيح بالشرفاء والمخلصين من أبناء هذا الوطن، إلى درجة جعلت المجتمع يتماهى مع الفساد ولا يعيب على الذين يمارسونه، حتى أنك قد ترى الناس وهم يفاخرون بذكاء موظف ماء بأنه لم يمر عليه في الموقع الإداري الفلاني إلا بضع سنوات ومع ذلك فقد أصبح يمتلك فيلا فاخرة وعمارات وسيارات عديدة! رغم معرفتهم الأكيدة بأن دخله الشرعي من هذه الوظيفة لا يكفيه ثمناً لضرورات الحياة إلى آخر الشهر. وفي المقابل تجدهم يتغامزون بسخرية بأن فلان أصبح له في موقع إداري آخر عشرات السنين ومع ذلك "جالس يتنبع من باص إلى باص" لكونه لا يملك سيارة خاصة به، وراتبه الشهري لا يمكنه من استئجار سيارة تاكسي في مشاويره، وذلك لأنه إنسان وموظف شريف.

ولا يفهم من هذا أن الفساد يقتصر على الجوانب المالية لكنه امتد ليشمل العديد من الجوانب الأخرى، فالمسؤول والموظف الذي يوضع في موقع وهو غير مؤهل له يعد فاسداً هو ومن عينه. وكذلك المسؤول الذي يتجرد من القيم والأخلاق والمبادئ ويصبح شعاره "الغاية تبرر الوسيلة" هو فاسد من العيار الثقيل.

وأيضاً الطبيب الذي يتخلى عن إنسانيته ويحنث بقسمه ويتحول إلى جابي أموال جشع، ويحوّل مرضاه إلى فئران تجارب، أو يتستر على الجرائم الطبية لزملائه. ثم تجد الواحد منهم وقد فتح له عيادة في إحدى الشقق وأطلق عليها مسمى (المستشفى النموذجي) وبدأ يمارس فيه عمليات الجزارة بإطباء متدربين دون رقيب أو عتيد.

ويضاف إليهم بعض القائمين على المؤسسات التعليمية الذين يفتقدون لأبسط قواعد التربية، ولا يفرق أحدهم بين إدارة جامعة أو مدرسة وبين إدارة سجن للمجرمين. وتم فتح الباب على مصراعيه لإنشاء جامعات ومدارس أهلية، بعضها أقيم في بدرومات عمائر لا تنفع حتى لعيش الحيوانات، وبكادر تعليمي غير مؤهل، دون اعتراض من أحد ماداموا يوردون المعلوم للمسؤل المختص.

معظم مسؤلينا مارسوا التعصب الأعمى في مواقعهم الإدارية وكرسوها لخدمة أسرهم وقبائلهم ومناطقهم وطوائفهم وأحزابهم. وأصبحت حياتنا فساد في فساد: شركاء حماية أعاقوا عملية الاستثمار.. مهربون يدمرون خزينة الدولة وصحة المواطن.. محصلو ضرائب وجمارك فرطوا بحقوق الدولة مقابل أن تملئ جيوبهم بالمال الحرام.. نهب منظم للأوقاف والآثار؛ وحاميها حراميها!.. تفريط بثروات اليمن البترولية والغازية والسميكية مقابل تضخم أرصدة القائمين عليها.. استزاف جائر للمياه.. أما الفساد في الهيئات العسكرية والأمنية فحدث ولا حرج.. وكذلك الحال في السفارات والبعثات الدبلوماسية.. وفوق كل ذلك قضاء يدار في معظمه بالتلفون من وراء الستار؛ وذهلنا في يوم ما من قول رئيس سابق للمحكمة العليا لبعض المتظلمين لديه من جور بعض الأحكام: "ما أنا إلا قاضي بعسيسة!"، والبعسيسة لمن لا يفهمها هي الشيئ التافه الحقير.

هذه بعض أمثلة عابرة وليست شاملة لأنواع الفساد المستشري في هذا لبلد التعيس الذي كان في سالف الأيام يوصف بالسعادة، الأمر الذي جعل المشاريع التي تنفذ -على قلتها- تقام بالمخالفة للمواصفات، ولذلك لم يكن من المفاجئ أن تجرف الأمطار جميع الطرق التي نفذت في محافظة إب بمناسبة إختيارها مكان للاحتفال بعيد الوحدة، بينما صمدت الطرق القديمة أمام تلك الأمطار رغم أنها قد نفذت منذ عشرات السنين. وكانت الصاعقة عندما أعلنت اللجنة التي أرسلها مجلس النواب إلى المحافظة بأن تكاليف المشاريع المنفذة بهذه المناسبة لاتتجاوز الأربعة مليار ريال، رغم أن رئيس الدولة كان أعلن في يوم الاحتفال بأن التكلفة بلغت أربعة وثمانون مليار ريال، ولا أدري لماذا لم يخبرنا مجلس النوب ولجنته الموقرة عن أصحاب الجيوب التي ذهب إليها الفارق المهول بين الرقمين!.. وعلى ذلك يمكن القياس في بقية المشاريع.

وإذا بحثنا عن أسباب ذلك الفساد كله سنجد انه يعود للمعايير التي كرسها نظام العهد الصالحي، وصار معها الفساد والإفساد جزء من إدارة الدولة، ووسيلة لإرضاء أصحاب القرار فيها، ولذلك صار معظم رؤساء المصالح الحكومية من المنغمسين في الفساد حتى آذانهم، الأمر الذي جعلهم يفسدون من هم تحت إمرتهم، ويعتبرون العناصر الشريفة والمؤهلة خطر على وجودهم، وهكذا انتشر الفساد حتى عم الجميع إلا من رحم الله، وصرنا نسمع المفوظفون في المصالح الحكومية يشكون ويئنون من الفساد من غير أن يجدوا آذان تصغي لشكاويهم.

الآن وبعد رحيل كبيرهم الذي علمهم الفساد، وتشكيل حكومة الوفاق الوطني، وتخلص الناس من الخوف الذي عشعش في قلوبهم، وتأصيل الثورة الشعبية لمفهوم الدولة المدنية الحديثة القائمة على المؤسسية وحكم القانون وتساوي الفرص بين الناس، وإدراك الناس لحجم التشوه الذي ساد حياتهم، رأيناهم وهم يقودون ثورة مجتمعية ضد الفساد، وانتقلت الثورة من الساحات إلى المصالح والمؤسسات الحكومية، وبدأوا يرفضون بقاء الفاسدين ويطالبون برحيلهم الفوري، وصار لسان حالهم وهم ينظرون إلى رؤساء مصالحهم الحكومية يقول: في مصلحتنا فاسد كبير يجب أن تكون من اولوياتنا العاجلة التخلص منه وقذفه خارج المصلحة.

وسيتحتم علينا ونحن نقود حركة التغيير والإصلاح الإداري داخل المصالح والمؤسسات العامة أن لا نكتفي برحيل الفاسدين، ولكن نحرص كل الحرص أن تتوفر في البدلاء الخبرة والنزاهة والكفاءة، بعيداً عن المناصفة والمحاصصة السياسية والمناطقية والفئوية. وسيكون من الضروري على رئيس الجمهورية الجديد ومعه حكومة الوفاق الوطني تبني هذه الثورات المؤسسية وعدم الوقوف ضدها، وتمكينها من العبور بسلاسة، لأن إصلاح الرأس سيعني بالضرورة إصلاح الجسد. وسيحمد الشعب لهم صنيعهم لو أنهم سبقوا هذه الثورات وبدأوا هم عملية تصفية مؤسسات الدولة ومصالحها من كبار المسؤولين الفاسدين الذين فاحت رائحة فسادهم وصارت تزكم الأنوف.