قطار العاشرة
بقلم/ نشوان السميري
نشر منذ: 16 سنة و 8 أشهر و 23 يوماً
الأحد 24 فبراير-شباط 2008 06:32 ص

مأرب برس – خاص

كان مساءً بارداً من ليالي ديسمبر القارسة. أتذكر ذلك جيداً .. الشوارع مبتلّة وبقايا رذاذ خفيف يداعب الوجوه بلطف، ومعدتي تعتصرني من الجوع لأني لم أتناول شيئاً منذ الصباح.

  تونس عاصمة جميلة جدا لكنها بدت لي موحشة ذاك المساء. وأنا لا أعرف أحداً قريبا في هذا المكان، منذ خمس ساعات أجوب الشوارع، أتأمل وجوه المارة، وأفكر في حل. ودائماً أتوقف أمام محطة القطارات الرئيسية في المدينة .. غير أني لا أملك ثمن وجبة آكلها فكيف يكون في حوزتي ثمن بطاقة ركوب القطار طريقي الوحيد إلى سكني الجامعي الذي يبعد 30 كيلو مترا عن المدينة؟؟

تسرعتُ بل قل تهورتُ عندما أقدمت على صرف آخر مدخراتي من المال في شراء ملابس شتوية. وكان عليّ أن أحسن التصرف مثل أي طالب واجبه الاحتراس من مفاجآت الزمن، مثل تأخر النقود كما حدث ذلك اليوم.. فقد أنفقت آخر "مليم" في جيبي في التنقل إلى مبنى البريد لأفاجأ أن حوالتي المصرفية لم تصل بعد كما تعودت.

***

  أصبح الوقت متأخراً، وأقرب صديق لي يسكن على بعد أميال عديدة من وسط العاصمة. لقد بدأ الطقس يتحسن. غير أنّي لم أشعر بالانتعاش المفترض بل خمنت وجوده لدى الآخرين فحسب.

تذكرت أن بعضاً من الناس يلجأون أحياناً إلى المارة، يطلبون إعانتهم من أجل تدبير ثمن بطاقة الركوب للعودة إلى المنزل.. بعض هؤلاء يكونون سكارى والبعض الآخر فتياناً يانعين عادة.. أذكر أن أحدا مرة أسمعوه ما يكره، وآخر كاد أن يضرب.

  يا إلهي.. من سيصدق أني أوقعت نفسي في المأزق نفسه؟. لم أجرؤ على اللجؤ إلى أحد.. خشيت كثيراً من ردة الفعل، إنها محاولة فاشلة مسبقاً سوف أدعها وأفكر في غيرها.

لقد أصابني الإعياء والتعب؛ فخطر لي حينها ما يعانيه أولئك الجياع والضعفاء والمحتاجون من آلام وشدة ضعف، وما أكثر هؤلاء في البلدان الغنية أو الفقيرة على السواء.. فهم يقتاتون من المزابل ويعيشون على كسرات الخبز، ويلتحفون العراء فالأرض لهم فراش والسماء غطاء.

لكني شعرت أن مصائبنا يجب أن لا تكون ذات وجه سلبي لدينا على الدوام فمن رحم الإساءة يمكننا صنع الإحسان، ومن عثرة أوقعتنا أرضاً قد نملك بعدها فرصة حقيقية للصعود إلى قمة الهرم .. رغم آلام السقطة وأوجاعها.

فلكل حقيقة وجهان: وجه ناصع وآخر قاتم، كما الحياة والموت، والحزن والفرح، والحب والكراهية. وفي نهاية المطاف تتجلّى الحقيقة في ثنائية مطلقة: ثنائية الخير والشر الكامنين في صدر الإنسان وله الاختيار.

وتنقطع خواطري فجأة مع لفحة ريح باردة تلامس وجهي فأسال نفسي مجددا بحرقة: كيف يمكن لغريب مفلس العودة إلى مسكنه قبل انتصاف الليل؟

***

إنه شعور فظيع ما يعانيه غريب مفلس في عاصمة واسعة، إذ يقل التآلف عادة بين سكان العواصم. غير أن الطرق لم توصد في وجهي بعد. بدأت حقاً أستلذ المغامرة، فربما تكون فرصة مناسبة لصنع ذكرى رجَوْت أن لا تتكرر ثانية، وتمنيت في أعماقي أن تنتهي بسلام.

  لقد بدأت أشعر بالدوار والبرد، ولم تبق سوى ثلاثين دقيقة فقط على موعد مغادرة آخر قطار في اتجاه الضواحي حيث أسكن، "حتى الوقت يسير ضدّي".

  قاعة المحطة بدت خفيفة الحركة، فيما صوت قطار يغادر. الكراسي فارغة إلا من كهل أحسست أنه كان يرقبني طيلة الوقت. أمر عادي فليس لديه ما يفعل! هكذا حدثت نفسي.

خطر لي أن أقترب من أحد موظفي المحطة لعله يملك لي حلاً يحفظ ماء وجهي. سأحرص على أن يكون متقدماً في السن، فهؤلاء الكبار يكونون عادة متفهمين، خاصة لحالات الطلبة والجنود. ولديهم فراسة من واقع الخبرة لتمييز الصادق من الكاذب .. ثم إن سريّ سوف يرحل معه في وقت أقصر مما لو كان مازال شاباً!! يالي من تعيس وسئ بتفكيري هذا . لكن الفكرة بدت لي عموماً مقبولة ولم يمنعني من تنفيذها سوى أن ركبتاي لم تقويا على حملي؛ ليس من الجوع بل من شدّة الحياء.

كان الإرهاق والشحوب يبدوان واضحين على قسماتي. والقلق أيضاً. تهالكت على أحد مقاعد الانتظار قرب ذلك الكهل الذي بدا عليه الوقار. كان ينظر في ساعة يده من حين لآخر. ربما ينتظر وصول مسافرين. سألته برفق عن الوقت ؟ ردّ عليّ باندهاش :

- ولكنك تحمل ساعة في معصمك يا ولدي.. ألا تعمل ساعتك ؟

أحرجني الموقف وبلعت ريقي بهدوء. فلم تكن حركتي هذه سوى محاولة سخيفة تشبه أساليب المغازلة في شوارع العاصمة. اعتذرت له وسكت. لكنه عاد والتفت إليّ مواصلاً الحديث سألني إن كنت غريباً عن البلد ؟ ومن أين أنا ؟ وكل الأسئلة التي تعود عليها الطلبة الأجانب هنا.

تحدثنا كثيراً. كان يسألني بلطف وأجيبه باقتضاب غير مخل بأدب الحديث. نظرت في ساعتي .. لم يتبق سوى دقائق معدودة. لا حظ ذلك وسألني إن كنت سأستقل القطار في رحلته الأخيرة؟ لم أستطع منع أمعائي من الصراخ . سمعها فابتسم؛ وتجاهلت الأمر..

عاد وأخبرني أن قريباً له يسكن في السكن الجامعي الذي يؤويني..

- " حقاً " أجبته مبتسماً بتصنع. نظر في ساعته ثم حيّاني بعدها بمودة ظاهرة قبل أن يستأذن في الانصراف.

***

" والآن لأرى ما نهاية يومي هذا"؟ أطرقت مفكراً " فبعد دقائق سينتهي كل شئ "! .

  وأطار هواجسي صوت أحد موظفي المحطة يدعوني لألتحق بالقطار سريعاً. ثم سلمني التذكرة وبقايا القطعة النقدية ؟! قال لي دون أن يأبه للاستغراب الباد على محيّاي : "إن قريبك قد تركها لك وانصرف مستعجلاً لموعد ينتظره".

  تلفتّ حولي مراراً لكني لم أر أحداً. كان الرجل الطيب قد اختفى.. شعرت بالقشعريرة تسري في أوصالي من شدة التأثر وقلت بصوت لا يكاد يسمع " لازال الخير في الدنيا " وظللت أرددها وأرددها، حتى أيقظني من أحلام غفوتي على المقعد نفسه وخزات أصابع صديق عزيز لي صادف مروره في محطة القطارات، لأيقن أخيراً أني سأكون بعد زمن قصير في غرفتي الصغيرة الدافئة في تلك الليلة من ليالي ديسمبر الباردة.

  * خبير إعلامي ومدرب

n.sumairi@gmail.com