|
مضى محمد مرسي إلى ربه شهيدا بإذن الله، ولقبه الجديد هو الشهيد محمد مرسي، فليس على وجه الأرض منزلة تفوق منزلة الشهداء هذه إلا منزلة الأنبياء، وقد اجتمعوا مع "الصديقين" فيمن جعل الله لهم "أجرهم ونورهم".
شهيد بإذن الله؛ ليس فقط لأنه مات في السجن، وهذا يكفي، بل أيضا لأنه قُتل عن سبق إصرار وتخطيط.
ولن أعيد هنا ذات الكلام الذي نشرته قبل أيام عن دلائل قتله، والذي ذكرته أيضا في مقال قبل 6 سنوات، ولكنني أذكّر بأن قتله كان ضرورة بالنسبة للانقلاب كي يدفن معه تفاصيل الرواية التي وقعت منذ فوزه بالرئاسة وحتى الانقلاب، والتي كان بطلها الأبرز هو قائد الانقلاب، ومعه الأجهزة الأمنية والعسكرية، بجانب الدعم الخارجي السافر؛ بلونيه العربي والدولي.
السؤال الأكبر الذي نتحدث عنه هنا هو: "هل حكم الإخوان المسلمون فعلا؟". وتبعا له: "هل حكم الدكتور محمد مرسي فعلا؟".
ولكن لماذا أشرنا إلى عمرو موسى في العنوان؟
السبب هو تلك التغريدة التي نشرها تعليقا على "وفاة" استشهاد مرسي، وهي ذات الفكرة التي ترددت مرارا؛ بحسن نية من البعض، وبسوء نية من كثيرين منذ الانقلاب ولغاية الآن.
قال عمرو موسى في التغريدة التي سنضطر إلى تصحيح أخطائها الإملائية والتعبيرية: "كان محمد مرسي رمزا لحكم الإخوان المسلمين لمصر لعام كامل لم يستطع أن يؤدي (دوره) فيها كرئيس لكل المصريين. سوف يحكم التاريخ على نتائج حكم الجماعة ورئيسها لهذا البلد الكبير. أعتقد أنه سيكون حكما سلبيا. رحمه الله وغفر له".
القضية الكبرى هي الحديث عن عام كامل من حكم الإخوان المسلمين. والسؤال الذي يطرح نفسه، وهو السؤال الأكبر الذي نتحدث عنه هنا هو: "هل حكم الإخوان المسلمون فعلا؟". وتبعا له: "هل حكم الدكتور محمد مرسي فعلا؟".
ابتداء؛ لم يكن لقيادة الإخوان دور محوري على النحو الذي يروّجه البعض لأجل الإساءة، فقد كان الرجل يتصرف في معظم الأحيان بمفرده، ومعه المستشارون الذين اختارهم، وتاليا كان السيسي هو الأكثر قربا منه، وهو الموجّه عمليا للقرارات.
إن حاكما ليست له كلمته على الدولة العميقة، لا يمكن أن يكون حاكما
قد ينطوي هذا الكلام على إساءة للرجل، كأنه يقول إنه كان مغفلا، وإن السيسي قد تلاعب به، لكن واقع الحال هو أنه كان ضحية لمنظومة كبيرة، وليس ضحية السيسي وحده الذي كان المفوّض بالتصرف عن تلك المنظومة، وهي ذاتها التي اختبأت خلف مرسي في سياق الإطاحة بالكبار الذين تمت الإطاحة بهم
كان هناك مطبخ كبير يتشكل من رموز المؤسسة الأمنية والعسكرية يدير المشهد برمته، وهو من اتخذ قرار الإطاحة السريعة بالرجل، ولكن ضمن خطة مدروسة.
أولئك الذين رفضوا المناصب الكبيرة التي عُرضت عليهم من قبل مرسي (وهم كثر)، لم يكونوا زاهدين فيها، لكن الرسائل الواضحة كانت تصلهم بأن هذا الرجل لن يبقى في السلطة طويلا، فاتركوه لمصيره ولا ترتبطوا به. وأولئك الإعلاميون الذين كانوا يهاجمونه ليل نهار، لم يكونوا أبطالا بحال، بل كانت المؤسسة الأمنية توجههم، وتؤكد لهم أن مصيره معروف.
سأروي هذه القصة عن الشهيد جمال خاشقجي، والتي حدثني بها شخصيا، وأقسم بالله على ذلك. فبعد فوز مرسي بأسابيع كان يجلس في مجلس ما بحضور عدد من المسؤولين الخليجيين، فما كان من أحدهم إلا أن قال له، إن "صاحبكم" (هكذا) لن يكمل عاما في الرئاسة!!
بكل بساطة إن مرسي لم يحكم، وهذه حقيقة لا صلة لها به فقط، فمن يعتقد أن الدولة الحديثة يمكن أن تنقل سلطاتها لرئيس منتخب واهمٌ كل الوهم
في قصة أخرى رواها خيرت الشاطر، نائب المرشد العام للإخوان لنفر من الناس من خارج مصر زاروه في مكتبه، وكانت ردا على أحدهم حين طالبه باستقطاب العناصر الأخرى، مشيرا إلى أحد الأشخاص المعروفين من بقايا النظام السابق بالاسم، فرد الشاطر بأننا فعلنا ذلك، ولكن النتيجة أننا رفعنا سعره عند جهات خارجية، واستفاد من ذلك، ورفض العرض.
نعيد القول إن حاكما ليست له كلمته على الدولة العميقة، لا يمكن أن يكون حاكما، فكيف حين تكون بكل تفاصيلها (المؤسسة الأمنية والعسكرية والقضاء والإعلام) تتآمر عليه على صعيد واحد؟!
لقد ألقى صنّاع الخطة في روع الجميع أن هذا الرجل راحل لا محالة، ولذلك تجرأ عليه الجميع، وكان يتشبث بأحد رموز الدولة العميقة (السيسي)، على أمل أن يخترق الجدار الصلب، لكن المصيبة أن الأخير كان هو رأس اللعبة برمتها، بل كان مديرها الفعلي بالتنسيق مع الداخل والخارج.
هكذا يمكن القول بكل بساطة إن مرسي لم يحكم، وهذه حقيقة لا صلة لها به فقط، فمن يعتقد أن الدولة الحديثة يمكن أن تنقل سلطاتها لرئيس منتخب واهمٌ كل الوهم، ما لم تكن الدولة العميقة فيها راضية عنه. وفي حالة مرسي كانت جميعها ضده، ولذلك هو لم يكن حاكما بالمعنى الحقيقي للكلمة.
هل كان بوسعه أن يفعل شيئا في مواجهة هذه العملية؟
الجواب هو: ربما، ولكنه كان في حاجة إلى نهج ثوري كامل الثورية على طريقة تشافيز في فنزويلا، وهو لم يذهب نحو هذا الخيار، مع العلم أن نجاحه لو ذهب فيه لم يكن مضمونا أيضا، لأن معادلة الداخل والخارج الفاعلة ضده هنا، كانت أقوى حتى من الحالة الفنزويلية.
المؤكد أن العملية قد أديرت بشكل خاطئ منذ الترشح للرئاسة، وحتى تفاصيل ما بعد ذلك، لكنه كان اجتهادا عنوانه الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية، ولم يكن في الأمر أية نوايا إقصائية كما أشاع البعض في سياق من الشيطنة، فالإقصاء يمارسه من يملك السلطة، وليس من يجلس على هامشها.
والنتيجة أن مرسي لم يحكم أصلا، بل مرّ مرورا عابرا على المؤسسة، وحين بدأ يدرك الحقيقة، كانت المصيبة قد اكتملت، فيما كان الخطأ الأكبر هو رفضه الاستفتاء الذي لربما أدى إلى تقليل الخسائر، وحرمان الانقلاب من دعايته، ويبدو أن التسريبات التي صاغها صنّاعه (الانقلاب أعني)، لم تسهل الطريق في هذا الاتجاه.
لم نكن نخط في الرمل حين مكثنا شهورا نتحدث عن الانقلاب القادم. وحين تحدد موعد الثلاثين من يونيو، قلنا إنه فقط لتقديم الذريعة لتنفيذه، فيما يبدو مؤكدا أن السيسي ظل يؤكد لمرسي أن الوضع تحت السيطرة، وأنه لا حاجة للتنازل.
كل ذلك وغيره، يمثل تفاصيل كثيرة كان يمكن أن يرويها مرسي، وهي التي كانت السبب في حرمانه من التواصل مع العالم (وحجبه بلوح زجاجي)، ومن ثم قتله في النهاية.
هذا رد على عمرو موسى، ومن على شاكلته ممن يتحدثون عن فشل لحكم عام، لم يكن حكما بحال، فيما يرون أن ثماني سنوات للتالي لا تصلح للحكم عليه!!
إنها المواقف المسبقة والأهواء، ولا صلة للأمر بالمنطق، لأن أمثال عمرو موسى هم أكثر من يعرفون الحقيقة بكل تفاصيلها، لا سيما أنهم يعرفون طبيعة الدولة الحديثة بكل تفاصيلها، أكثر من الإخوان الذين لم يخوضوا تجربتها من قبل.
سلام عليه شهيدا رائعا، وسلام على الأحرار الذين تركهم وراءه في السجون. أما القتلة ومن تآمر معهم أو برر لهم، فلهم خزي الدنيا والآخرة.
في الأحد 23 يونيو-حزيران 2019 08:10:37 م