باسم الشعب
بقلم/ زيد علي باشا
نشر منذ: 9 سنوات و 9 أشهر و 13 يوماً
الخميس 22 يناير-كانون الثاني 2015 09:24 ص




 انقضت ثلاثة أعوام ونحن نبحث باسم الشعب عن الشرعية. لماذا؟ لكي نرجع الحق إلى أصحابه، ولكي نحقق تطلعات الشعب وآماله، ولكي ننتصر على إبليس وأعوانه. مقاصد نبيلة قامت لأجلها ألف ثورة، وما أدراك ما الثورة. نسيم يداعب مشاعر الحرية والكرامة الدفينة في أعماق المغلوبين على أمرهم، ليوقظهم من سبات طويل فيصبوا جام غضبهم على الظلم والاستبداد. إنها تلك الثورة على الطغاة والغزاة الذين نهبوا الثروات وضيعوا الحقوق وسلبوا الحريات. وعلى إثر الثورة، نحيا بالروح الثورية ما شاء الله لنا أن نحيا. ثم تقبض لتدب فينا روح وطنية منقطعة النظير نحيا بها ما شاء الله لنا أن نحيا. ثم تقبض لنثور. ثم تقبض بعد ذلك لكي لا نثور. وهكذا دواليك، نخوض باسم الشعب حتى النخاع في الثورية تارة وفي الوطنية المنقطعة النظير تارة أخرى، نبحث عن شرعية الحكم وعن الأيادي الأمينة. وهكذا انقضت ثلاثة أعوام، وهكذا انقضت من قبلها خمسون عاما، فلا عادت قوافل الأحرار، ولا عادت آمال الشعب التي ذهبوا بها. وهكذا ضاعت الشرعية بكل صورها.. وضاعت العدالة والحرية.. وضاع الوطن. وهكذا ضاع الإنسان.
 ضاعت القضية برمتها، واستمر البحث الحثيث باسم الشعب عن الشرعية، قبيلة قبيلة، أسرة أسرة، مقيلا مقيلا، زنجا زنجا! باسم الشعب تحاورنا وباسمه تحاربنا، وباسمه تصالحنا وباسمه اختلفنا، وباسمه توحدنا وباسمه تفرقنا.. وباسمه ضاع مطلب العيش الكريم والأمن والاستقرار..
       من مملكة إلى جمهورية.. من ديمقراطية إلى فدرالية... إلى الهاوية..
       من إمام إلى مشير.. من قاض إلى عقيد.. من مقدم إلى قاض فزعيم.. من مشير إلى سيد... إلى طرزان..
       من مجلس ثورة إلى مجلس وطني.. ومن عسكري إلى مدني... إلى الفوضى الخلاقة..
       من حرب إلى مؤتمر فحرب ثم حرب.. من حرب إلى وحدة فحرب ثم حرب.. من حرب إلى مبادرة فحرب ثم حرب.. من حرب إلى حرب فحرب ثم حرب... ثم يفنى كل شيء ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام..
       من اعتصام إلى عصيان، من ميدان إلى ساحة.. من ثورة إلى مسيرة، من صعدة إلى طور الباحة... ألا وسيري علم سيري..
       من تعددية حزبية إلى عملية سياسية.. ومن انتخابات برلمانية إلى انتخابات رئاسية.. ومن توافقية إلى سلم وشراكة... إلى استغباء واستخفاف لعقول الناس..
 من أبيض إلى أحمر.. من أسود إلى أخضر.. من أشقر إلى شقراء.. من بن راشد إلى ابن بطوطة... من شاهق إلى داهق إلى قباض الأرواح..
       من سلطة تشريعية منتخبة إلى سلطات مصطفاة.. من وحي السعودية وأمريكا إلى وحي السماء... إلى عود قات..
       من حكومة وفاق إلى حكومة إنقاذ... إلى حكومة الكترونية..
       من لجنة كبرى إلى لجنة صغرى.. من هيئة كبرى إلى هيئة صغرى... إلى بيان شديد اللهجة..
       مباركة فشجب.. تأييد فندب.. تصعيد فتقعيد... هذيان..
       غزوة صغرى تليها غزوة كبرى... ففتح ونصر مبين.
 ضاعت قضية الشعب لإننا ما فتأنا نبيع للشعب الوهم والأماني الثورية الانفعالية، ونقدم المصلحة الخاصة على العامة ونتسلق جدران الوطنية، ونحترف الكذب والتضليل حتى صرنا طلائعه، ونتمادى في الظلم والفساد، ونغرق في العصبية النتنة والثارات والأحقاد، ونتبع الهوى، ونتشدق بالمبادىء والقيم، ولا نبالي بالموروث والتاريخ، ولا نتصرف بمسئولية نحو الحاضر والمستقبل. وها نحن نتيجة لذلك نعيش في حالة من الفوضى العارمة التي لا يمكن وصفها إلا بأنها مأساة إنسانية ومهزلة سياسية لا نظير لها وحالة من الهذيان والاضطراب الجماعي الشديد. إن كل ما يجري في بلادنا يحكي حقيقة ذلك الفصام التام المقيت بين المقاصد النبيلة وما يحشر معها من مقاصد كثيرة دنيئة. فنعود على إثر كل ثورة ووحدة ومعركة وحوار من حيث بدأنا... "وكأنك يا أبو زيد ما غزيت"!
 فما لكم كيف تحكمون؟! ما حاجة الشعب بثورات "شعبية" حائرة بدون رؤية واضحة لما نريد؟ ما حاجة الشعب بأحزاب ومجالس ولجان وهيئات وتحالفات وحوارات "وطنية" عبثية لا ترعى الرعية والمصالح الوطنية وتحفظ للشعب هويته وكرامته وتحقق له آماله وتطلعاته، ولا تعمل إلا من خلف الأسوار ومن وراء الكواليس ومن تحت الطاولات وفي ظلمة الدهاليز؟ عماذا تغني الشعب "عمليات سياسية" عقيمة قذرة؟ ماذا تفتح للشعب فتوحات "إسلامية" و "عمليات جهادية" بدون شرعة ومنهاجا تقدم أبنائها قربانا؟ وإلى أين تسير بنا المسيرات "القرآنية" المستنيرة بنور الله؟ إن رصيدنا من تلكم الثورات والأحزاب والمناورات والفتوحات والوصايا كبير ولقد استنزفت جميعها كل مواردنا وطاقتنا المادية والمعنوية. نحن لسنا بحاجة لكل هذا العبث والهرج الذي أضاع القضية التي أردنا أن ننتصر لها في نهاية المطاف. لذلك فإنه لا بد لنا من مراجعات لمفاهيمنا الثورية والوطنية والدينية.
فأما الثورة، فإن أقصى ما يمكن أن تحققه هو أن تغير المسار السياسي وتهيئ الظروف لجيل جديد، لكن لا يمكن أن نعتبرها وحدها مشروعا إصلاحيا متكاملا، إذ أن الأخير خط سير طويل يتطلب رؤية بعيدة ومبادئ وقيم ومنهج عمل سليم ومؤسسات وخطط وتحديد واضح للأدوار والمسئوليات، لكي نضمن استمرارية تلك المشاريع على مدى الفترات الزمنية الطويلة التي تتطلبها بطبيعة الحال. فالسؤال المطروح هو ليس عن مشروعية الثورة بقدر ما هو عما يلي الثورة من تغيير ثقافي ينعكس على السلوك في العمل الإجتماعي والسياسي الطويل، وعن مدى اتفاقه مع أهداف الثورة وانسجامه مع طموحاتنا وآمالنا القريبة والبعيدة. ما من جدوى من الإنقلاب على النظام ما لم نرفض الثقافة من فكر وسلوكيات وممارسات التي أسست النظام وأوجدته. فمثلا، عندما يفشل مصنع لسيارات بتصنيع سيارات آمنة ومريحة، فإننا لا نقوم عندها بتدمير آلاته ومكناته وإحراق المصنع، بل نعيد النظر في التصاميم الهندسية وأساليب الإدارة (أي في الأفكار) التي أدت إلى تلك النتيجة لكي نحصل على ما نريد. الثورات وحدها لا تأسس إلا دولا خاوية على عروشها. الثورات والشعارات والخطابات والكلمات وحدها لا تسمن ولا تغني من جوع. فلتكن ثورتنا على أنفسنا.
وأما الوطن فإنه ليس لذاته ولا هو الحجارة التي عليه، بل هو لما يحققه لمواطنيه من عيش كريم ورفاه في ظل أمن واستقرار. وهو هوية وانتماء. نحن بحاجة إلى مشاريع وطنية واضحة المعالم، في إطار حضاري، تنطلق من منطلقات سليمة ويتم تنفيذها وفق مناهج سليمة ليتبناها الجميع. نحن بحاجة إلى فكرة تسمو بالإنسان اليمني الذي دمرت قيمه وأخلاقه وأحلامه الجميلة، ورجال تتجسد فيهم تلك الفكرة، وإمكانيات مشروعة تتحقق بها تلك الفكرة على أرض الواقع. ولا ننسى بأن الوطن في إطار مشروع الأمة الحضاري هو أيضا ضرورة استراتيجية.
 وأما الدين، فالدين المعاملة وتقوى القلوب والعدل والإحسان. وحسبي هنا قول الشاعر:
   إدعُ إلى دينِـكَ بالحُسـنى
   وَدَعِ الباقـي للديَّـان.
   أمّـا الحُكْـمُ.. فأمـرٌ ثـانْ.
   أمـرٌ بالعَـدْلِ تُعـادِلُـهُ
   لا بالعِـمّةِ والقُفطـانْ
   توقِـنُ أم لا توقِـنُ.. لا يَعنـيني
   مَـن يُدريـني
   أنَّ لِسـانَكَ يلهَـجُ باسـمِ اللهِ
   وقلبَكَ يرقُـصُ للشيطـانْ!
   أوْجِـزْ لـي مضمـونَ العَـدلِ
   ولا تـَفـلـِقـْـني بالعُنـوانْ.
   * * *
   دعْ أقـوالَ الأمـسِ وقُـل لي..
   ماذا تفعـلُ أنتَ الآنْ؟
   هـل تفتـحُ للديـنِ الدُّنيـا..
   أم تَحبِسُـهُ في دُكّانْ؟!
 إذا، أين يا ترى ينتهي بحثنا عن الشرعية والأيادي الأمينة التي تحقق للشعب العدالة وتعيد له العزة والكرامة؟ الحكماء أم الغوغاء؟ الفقهاء أم الجهلاء؟ الكفاءة والجدارة أم السلالة؟ مصلحة الوطن أم السفارة؟ وما هو الثمن الذي سيدفعه الشعب رغما عن أنف أبيه من أجل تلك الشرعية؟ أين هي مستحقات الشعب من ثورة ١٩٦٢م التي لم تدفع لنا حتى يومنا هذا؟ أين العدل والمساواة، والأمن والاستقرار، والازدهار والصحة والتعليم، والترابط الاجتماعي؟ أين هو صوت الشعب اليوم ومن الذي يمثله؟ هل هو البرلمان الذي صادق على برنامج الحكومة أم مؤتمر الحوار الوطني الشامل الذي كان أعلى سلطة سياسية في البلاد أثناء انعقاده أم الهيئة الوطنية لمراقبة مخرجات مؤتمر الحوار أم ميليشيات اللجان الشعبية؟ أدري أن البحث عن الشرعية سيستمر، لكن يجب أن تتوقف هذه المهزلة السياسية التي استمرت أكثر من خمسين عاما وما صاحبها من مزايدات باسم الشعب.. كل يغني باسم الشعب، والشعب ليس له في وطنه من خلاق. أزمتنا أزمة قيادة وأزمة أخلاق وأزمة ثقافة وفهم وتطبيق وسلوكيات؛ أزمتنا أزمة إنسان.. ((قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا؟)).. والله المستعان.