عن القرشي وعبدالعالم وأحداث الحجرية
بقلم/ علي عبدالملك الشيباني
نشر منذ: 14 سنة و 4 أشهر و 28 يوماً
الخميس 29 يوليو-تموز 2010 06:38 م

"إن أغلب مشائخ تعز وبعض مثقفيها، أشبه بمجموعة دببة أليفة تقدم عروضها مقابل قطعة سكر"

أنا...

هو مع الجميع وضد الكل، عديم رؤية ولا يرتكز على مبدأ، مع قتل الآلاف هناك ويأسف لعشرة ضحايا هنا، يدافع عن حق عودة بعض ضحايا الصراعات السياسية ويقف ضد عودة آخرين، وفي النهاية كاتب يفتقر لمنهج واضح في التعامل مع القضايا العامة، لذلك لا أعتقد أن ما يقوم به يساعد على تشكيل وعي حقيقي، هي المهمة الأساسية لمشتغلين في حقل الكتابة.

هذا ما يمكن أن يستخلصه القارئ من معظم كتابات عبدالفتاح الحكيمي أو (الحكومي) كأنسب لقب لا ينقصه سوى اللوحة!!

في هذا الاتجاه، قرأت له موضوعاً في صحيفة "الديار" خصصه لـ"عبدالله عبدالعالم وعبدالرقيب القرشي"، والأخير عاد إلى البلاد بدعوة رئاسية بعد غياب قسري استمر 32 عاماً في سوريا، وهما المتهمان بتصفية بعض الشخصيات الاجتماعية على خلفية ما يسمى بأحداث الحجرية. في المقالة المشار إليها كان واضحاً موقفه المسبق من الرجلين، وبدا أكثر أنه على خصومة شديدة مع موقفهما العقائدي.

بدأ بالإشارة إلى ما قال إنها تنازلات من طرف الرئيس، بطريقة قدمته وكأنه خصم في خلاف على أرضية وليس رئيساً لبلاد يحكمها دستور وقانون مفترض. وصفهما بالقتلة، ودعا أولياء الدم للتظاهر أمام السفارة السورية للمطالبة بـ"عبدالعالم" وهي فكرة جديدة بالمناسبة سيأخذها النظام بعين الاعتبار، بالمقابل لم نشاهده بنفس الحماس، أو نقرأ له دعوات مماثلة في قضايا أكبر.

وفق منهج "الحكيمي" فإن على المتضررين من أحداث يناير التظاهر أمام ذات السفارة للمطالبة بـ"علي ناصر محمد" وأمام السفارة الإيرانية لأسر ضحايا حرب صعدة انطلاقاً من التهم الرسمية لنظامها وملاليها بدعم الحوثي. ولا أدري: هل يمنح منهج الحكيمي أسر ضحايا حركة 78 الحق في التظاهر أمام الرئاسة للمطالبة بمعرفة مكان دفنهم وتسليم وفاتهم كأبسط حق أم لا؟

على العكس، قرأنا له أكثر من مقالة يفهم منها اصطفافه إلى جانب الحوثيين، ما يعني أن طبيعة الطرف الآخر في الخلاف مع السلطة هو من يحدد موقفه ويشكل وجهة نظره بغض النظر عن الأسباب وعدالة القضية، وإن كان البعض قرأ موقفه على أنه رد فعل على إقالته من مؤسسة 14 أكتوبر كنائب لرئيس مجلس إدارتها.

كنا نتوقع من مثقف مفترض أن يدعو إلى التسامح وتجاوز ما ترتب على الماضي السياسي من جراح لا يساعد استحضارها على استقرار المجتمع وبناء الدولة، أو على الأقل المطالبة بمحكمة نزيهة تضمن عدالة سير القضية، وسيجدنا حينها أكثر منه حماساً في ضرورة شنق المتورطين في الجريمة بغض النظر عن صفاتهم، وعلى هذا الأساس فإن التعامل مع موضوع عبدالعالم والشهداء خارج سياقه السياسي والاجتماعي وحتى المناطقي هو الظلم بعينه.

أقول هذا و"الحكيمي" يدرك كغيره خلفيات صدور الأحكام، آنذاك والتجربة المتراكمة للسلطة اليمنية، والعربية عموماً، في التفنن بتفصيل التهم وإصدار الأحكام الجاهزة بحق المعارضين من خلال قضاء لا يمت للنزاهة والاستقلالية بصلة.

كنت قد قررت عدم الرد على "الحكيمي" حتى لا أساهم في رفع ثمنه لدى السلطة لولا مقالته الأسبوع قبل الماضي وفي نفس الصحيفة التي أطلق من خلالها كل ما ترسب في نفسه تجاه الناصريين متهماً إياهم بالتسبب في اندلاع جميع المعارك الدامية بدءاً بحرب 79 وانتهاء بحرب "عبيدة وبلحارث".

إذن هي أوراق اعتماد، ورسائل نفهم وجهتها جيداً، وأن إرسالها مرتبط بموضوع وأحداث يدرك حساسيتها بالنسبة للحاكم خاصة ما يتعلق بـ(همزة 78) وتأكيد على أن الرجل مل حياة التسكع ويطمح باستقرار وظيفي، وأن (أجنحته) ستحلق به هذه المرة على موقع دسم يوفر له رغد العيش على ذلكم النحو الذي يعيشه من هم على شاكلته.

ولا شك في أن صحيفة "الديار" ترحب بمثل هذه المواضيع كصحيفة معتمدة في حضورها على الإثارة وخدمة لراعي إصدارها من ناحية أخرى. أستطيع إذن تهنئة الحكيمي على موقعه القادم غير أنني أشفق سلفاً على من سيعمل تحت إدارته بالقدر الذي أشفق فيه على من ارتضى العيش على هذا النحو الانتهازي.

في ذات السياق، أصدر أولياء الدم بياناً لا يختلف في لغته مع ما تضمنته مقالتا الحكيمي، وقد قرأنا حينها –المقالة والبيان- على أنها مقدمة لشيء ما، وهو ما حصل بالفعل فقد تعرض "القرشي" بعدها بأسبوع تقريباً لمحاولة اغتيال برصاصة قناص من سلاح كاتم للصوت وسط العاصمة وأمام فندق سبأ الذي ينزل فيه ضيفاً على الرئاسة، وما زال بسببها فاقداً للوعي حتى اللحظة. وبارتكاب هذه الجريمة، نعتبر أن الرصاصة التي استهدفت القرشي واخترقت رأسه هي قبل كل شيء موجهة "لشخطة" وجه الرئيس ومصداقيته المتعلقة بمنح الأمان للقرشي، ما لم تكن رسالة قصد بها من يفكر بالعودة من معارضة الخارج على أن أقر أولاً، أن القتل يظل فعلاً شنيعاً في كل الأحوال، وأن عدد الضحايا لا يحرف معنى الكلمة كما أن صفاتهم لا يغير في مفهومها.

بالمقابل على الآخرين الإقرار، أن الاقتصاص دون محاكمة نزيهة في موضوع سياسي وخارج ساحات القضاء هو جرم مضاعف من حيث كونه تكريساً لثقافة ما قبل الدولة، وتجذيراً لواقع فرضه مشروع غير وطني ما زال يتغذى على هذا النوع من الصراعات الاجتماعية، في وقت يحتم علينا السير سوياً في طريق التقاء حاجاتنا والمفترض أن يصل بنا إلى دولة وطنية عادلة.

ولا أظننا نختلف في النظر إلى أن التوظيف السياسي والاجتماعي لهكذا قضايا يعد عملاً لا أخلاقيا وخارج وظيفة الدولة.

وأن الاستجابة له لا يعني أكثر من (قطرنة) عصرية تؤكد استمرار سباتنا وتعمل على طمأنة الآخر باستحالة التغيير ولو على المدى القصير، خاصة عندما يتعلق الأمر بمحافظة تميزت بمستوى عال من الوعي والثقافة العامة.

للمرة الثانية أخوض في هذا الموضوع، ليس دفاعاً عن "عبدالعالم والقرشي" بقدر ما هو حرص مني على مجتمع محلي تتعرض سكينته الاجتماعية لمحاولات إلحاقها بواقع اجتماعي يعتقدون في تعميم نموذجه عاملاً أساسياً من عوامل بقاء النظام. أكتب تحت ضغط الحاجة لمجتمع يسوده السلام والمحبة والطمأنينة، بعيداً عن القتل والصراع وسفك الدماء. من أجل خبر جيد نقرأه في الشريط الإخباري لقناة الجزيرة بدلاً عن (خطف، قتل، اعتقل، وتقطع)، وكي لا نستسلم لوضع سيء ونقتنع به لمجرد أن هناك من يهددنا بما هو أسوأ كـ"الصوملة والعرقنة" (فالكبة) الأرضية تمتلئ بما هو أفضل وأسمى من النماذج.

فيما يخص شهداءنا الكبار، كتبت في مقالة سابقة "إن من فقدناهم هم آباؤنا ومشائخنا الذين نكن لهم ولأسرهم كل المحبة والاحترام، وإننا نتذكرهم بكل حسرة وألم حين نستعيد ظروف وملابسات مقتلهم، خاصة ونحن ندرك أن دماءهم لم ترق بفعل ظروف معارك ومواجهات أودت بهم إلى هذا المصير، بل أريقت برخص شديد من قبل طرف أراد توظيف نتائجها في الوصول إلى غايات سياسية واجتماعية لا أخلاقية، وكم هي صراعاتنا السياسية قاسية عندما تحول دم الإنسان وببساطة إلى واحد من شروط لعبها، وروحه إلى كرت ضروري في مسألة الحسم، ورجوت من أسر الضحايا بأن لا تكون أكثر قسوة باستخدام دمائهم وسيلة تقرب وبطاقة عبور لتمثل في النهاية المؤهل الوحيد لتحقيق طموح يمكن الوصول إليه بمؤهلات أخرى، فيما لو كان الوضع إيجابياً، غير أن استمرار أولياء الدم بالتمسك بمواقفهم يدفع بي إلى ثقة القول بأن هناك من لا يزال يحركهم كالدمى، بل ويصدر البيانات باسمهم ويوقع بدلاً عنهم، مع ثقتي الكاملة، بأن الشهداء لو كانوا ذهبوا ضحية رصاص قبيلي من المناطق إياها لأي سبب من الأسباب لكان ذووهم طوال هذه السنين يقضون نهارهم في المحاكم وليلهم أمام أبواب المسؤولين طلباً للعدالة، ولكانت مناشداتهم تملأ الصحف ونشاهدهم كل ثلاثاء في ساحة الحرية توسلاً للاقتصاص، بل وحتى لو صادفوا القاتل في مفرق (ماوية) أو (التربة) فلن تتجاوز ردة فعلهم حدود السؤال (لمو قتلتهم يا ابن العم؟) بينما عندما يتعلق الأمر بـ(عبدالعالم والقرشي) اللذين لم يثبت تورطهما بالجريمة نراهم يشحذون الهمم ويتنافخون شرفاً أخذاً بالثأر لمعرفتهم المسبقة أن أخاهم المسكين لا ينتمي لقبيلة يخشونها كما هو حالهم أيضا.

مع ذلك، أشك تماماً أن يكون أي من أولياء الدم هم من يقفون وراء محالة الاغتيال، لثلاثة اعتبارات:

الأول: إن شجاعة أبناء تعز القتالية وحملهم للسلاح، تتجلى عادة في الدفاع عن القضايا الوطنية، ومن خلال مؤسسات ..... أيضا، وقد جربوا في الدفاع عن الثورة وحرب التحرير ....... الجبهة الوطنية.

الثاني: لكونهم لا يقدموا على القتل غدرا.

الثالث: البيئة المدنية لتعز النابذة لثقافة الثأر منذ ما يزيد عن 100 عام، ونضالهم المستمر من أجل بناء دولة مؤسسات ومواطنة.

وبالعودة إلى بيان الداخلية بخصوص الجريمة، يرتسم أمامنا سؤال كبير: كيف استطاعت أجهزة بهذا الضعف الكشف عن أسماء وألقاب من قالت إنهم وراء العملية وحتى نوع السيارة وبتلك السرعة.

هذا لا يعني سوى أن الرغبة في توظيف أحداث الحجرية ما زالت على ما هي عليه، وأن بيان الداخلية وإيراد الأسماء قصد منه تسهيل المهمة أمام من يريد الانتقام ليس إلا، ولن يبخلوا في توفير الأسلحة "الخاصة" والمال وحتى السيارة.

غير أني أستغرب موقف المتهمين وأسرهم في مسألة نفي الخبر أو تأكيده.

كم هو معيب، ففي الوقت الذي يذهب فيه أبناء المحافظات الجنوبية إلى التصالح والتسامح في أحداث جميعنا يعرف دوافعها وما ترتب عليها، يظل هؤلاء يلعقون من قيح جرح لا يعرفون أصلاً من تسبب في حدوثه.

فيما يخص الجريمة، فقد تعددت الروايات حول أسباب وملابسات مقتلهم، فهناك من يقول إنهم قتلوا نتيجة لقصف جوي في طريق محاولة اقتيادهم إلى الجنوب، وآخرون يؤكدون بأن هناك من أخذهم من السجن بعد دخول القوات الحكومية إلى المدينة ثم ساقهم إلى خارجها وقام بتصفيتهم، بينما يذهب طرف آخر في شهادته إلى أنهم ذبحوا من قبل بعض العناصر التابعة لقوات "عبدالعالم" بعد مغادرته التربة وأنه لم يكن على علم بما حدث. أما "عبدالرقيب القرشي" فقد تواجد حينها في منطقة "راسن" البعيدة عن مدينة التربة.

لقد أراد "الغشمي" التأسيس لمشروع آخر يتناقض كلياً مع مشروع الشهيد الحمدي، لهذا كان لا بد من القضاء على كل من ارتبط بالعهد السابق له، وتثبيت رجال المرحلة الجديدة من مشائخ وقادة وحتى مثقفين.

من هذا المنطلق، أرجح ما جاء في الشهادة الثانية استناداً إلى الحقائق التالية:

1- كون الشهداء كانوا في مقدمة من حضروا مؤتمر الروضة بصنعاء عام 75 والذي عقد برئاسة الشيخ الشهيد منصور شائف العريقي، وصدر عن المؤتمر بيان أعلن فيه الحاضرون مساندتهم لحركة 13 يونيو ووقوفهم الداعم لكل توجهات قائدها.

2- إن الشهداء انتموا لحركة يونيو والحركة الوطنية عموماً فقاموا ببناء المدارس وشق الطرقات بما عزز حضورها في عموم أرياف المحافظة.

3- رفض الشيخ الشهيد أحمد سيف الشرجبي، كبير مشائخ الحجرية وقائد الحدود آنذاك الانضمام إلى قافلة الوساطة المتجهة من تعز إلى الحجرية لخشيته من حدوث شيء ما، ويبدو أن الرجل كان ذكيا بما يكفي، إذ أنه وبهذا التقدير نجا من مذبحة الحجرية، غير أنه بعد ذلك اغتيل على طريق التربة تعز، وهو ما يشير إلى وجود قائمة أعدت سلفاً بمن يجب تصفيتهم وإلصاق التهمة بالرائد عبدالله عبدالعالم. وأن من تجرأ على قتل الحمدي بتلك الطريقة البشعة واللاأخلاقية، لا يصعب عليه الإقدام على مثل هذه الجريمة.

على أن نظام الرئيس صالح، استفاد من القضية بكل ما يخدم مشروعه وطريقة إدارته للبلاد، وإلا ماذا يعني اشتراطه لعودة "عبدالعالم" تسوية الموضوع أولا مع أولياء الدم، على الرغم أن ما حدث في الحجرية – مع كل أسفي- لا يساوي وزن ريشة في ميزان الصراعات الدموية الأخرى، بالنظر إلى ما ترتب عليها من الناحيتين البشرية والمادية، بغض النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا معها.

تدرك السلطة الحجم الحقيقي لمن تسميهم بمشائخ تعز، كما تدرك في الوقت نفسه أن المناخ السياسي والثقافي للمحافظة لا يسمح بنمو هكذا حشائش متطفلة. كما وأن معدتها المدنية لا تهضم مثل هذه المعلبات المصنعة خارج المواصفات الوطنية، ما لم تكن بنكهة ولون وطعم حمود سعيد المخلافي وعبدالرحمن الصبري وسلطان السامعي وعبده عبدالله الشرعبي وعلي شكري ومن استشهدوا، بإجراء مقارنة بسيطة بين الحياة النظيفة لشهدائنا الذين انتموا لمشروع وطني، وبين مشائخ 78 المستمدين لمشروعية وجودهم من خارج بيئتهم الاجتماعية، تجعلنا نشعر لأي مدى خسرناهم، وفي هذا الصدد تحضرني مواقف الراحل الشيخ "علي شكري الشيباني" –أحد الناجين من المذبحة – الرافضة بالإبلاغ عن نشطاء الجبهة الوطنية وبقية فصائل العمل الوطني من أبناء المنطقة برغم المغريات التي كانت تعرض عليه، وكيف أنه سجل موقفاً لا ينسى أمام مسؤول الأمن الوطني بالتربة حين وصل إلى ديوانه بحث عن "إبراهيم سعيد" و"سلام التلاحة" الهاربين من قبضة الأمن، حيث وصفهما بالسفهاء والمخربين ووعده بملاحقتهما والقبض عليهما بينما كانوا يتناولون القات إلى جانبه.

وبين ما حدثني به زميل من قيام شيخ المنطقة بالطلب من أحدهم وضع قنينة "ويسكي" في سيارته بهدف الإيقاع به لمجرد أنه اختلف معه حول إدارته المالية لمشروع عام.

لقد ظلت تعز ومنذ 15 أكتوبر 77م بالنظر إلى ثقلها السكاني والسياسي، مؤشر قياس لنبض الشارع اليمني عموماً، والنظر إلى مشائخها وبعض مثقفيها، وتحديداً الحجرية، أشبه بمجموعة دببة أليفة تقدم عروضها مقابل قطعة سكر، تستحضرهم السلطة متى دعت الحاجة وفي مواسم الانتخابات العامة، إذ يقومون بأكثر مما هو مطلوب منهم، من تزوير صناديق الانتخابات إلى تزوير إرادة الناخبين، وفي سبيله لا يتورعون في تهديد عجائز القرى بقطع المياه والكهرباء والضمان الاجتماعي، وتخويفهم باعتقال أقاربهم المقيمين في المدن، إضافة إلى العمل كمخبرين وكاتبي تقارير.

ولو أن الواحد منهم يقدم هذه الخدمات مقابل 10% مما يمنح لأصغر شيخ من المشائخ في المناطق الأخرى، وتصرف لهم ولو سيارات شاص 78 لعذرناهم وتفهمنا مصالحهم غير أنهم يفعلون كل ذلك مقابل 2000 ريال يتسلمونها من مصلحة شؤون القبائل.

وعموماً، إذا كان هؤلاء ينظرون إلى أن المبلغ كافٍ لإهدار كرامتهم، فإنني مقابل ذلك أعلن عن تخصيص مبلغ 2500 ريال لكل منهم أي بزيادة خمسمائة ريال، ولا أطلب منهم بالمقابل غير احترامهم لأنفسهم، وأزيد أعفيهم من تقبيل اليدين ومذلة الدعاء بالصحة والنصر على الأعداء!!

أسرتي، كواحدة من الأسر المتضررة

قد ينظر البعض إلى ما سطرته حول أحداث الحجرية، على أنه نتاج لموقف سياسي لا أكثر، أو أنني أكتب بعيداً عن الشعور بالخسارة التي عاشتها أسر الضحايا، غير أنني أتبنى هذا الموقف وأسرتي هي إحدى الأسر المتضررة جداً من تلك الأحداث وهذا ما يكسبني كل المصداقية.

وقد يقول آخرون إن الإصابة لا ترتقي لمستوى القتل، على أنه وبالنظر إلى ما ترتب عليها من بؤس وفقر وحرمان ومذلة الحاجة للناس يقدم ضررنا بشكل مختلف وبما يساوي أو يفوق ضرر الآخرين.

تتمثل مأساتنا بإصابة والدي برصاصة انطلقت من بندقية أحد جنود "عبدالعالم"، اخترقت ساقه الأيمن وأدت إلى تهشم كامل العظام تماماً، كنت حينها أدرس في الحديدة في الصف الثالث الإعدادي وأبلغ من العمر سبعة عشر عاماً ولم يتبق على أداء الامتحانات سوى شهر واحد. برغم ما حدث والحالة النفسية التي أصابتني إلا أنني أديت الامتحانات بنجاح وسافرت مباشرة إلى التربة حيث كان والدي يرقد في مشفاها وكان "عبدالعالم" ومن معه قد غادروا إلى الجنوب.

قرر الأطباء في التربة بتر ساق والدي واضطررنا بسبب ذلك نقله إلى تعز، ونتيجة لمضاعفات الإصابة، كان للأطباء في تعز نفس رأي أطباء التربة، لذلك قمنا بنقله إلى صنعاء.

كان والدي فقيراً ويعمل بالأجر اليومي ووحيد أسرة، يعول أماً وزوجتين وستة من الأبناء والبنات، أنا أكبرهم ولا يوجد مصدر دخل آخر غير ما كان يحصل عليه من عمله اليومي.

ثلاث سنوات على هذا الحال عرفنا خلالها كل أنواع الفقر وبعنا كثيراً من أراضينا الزراعية ومساحات أخرى صالحة للبناء.

بداية العام الدراسي الجديد اضطررت للالتحاق بقسم داخلي "المدرسة الفنية الصينية" التي توفر السكن والمأكل والدراسة في آن.

وعلى الرغم من حصولي على الماجستير في هندسة المنشآت المائية من الاتحاد السوفيتي، وبلوغي سن الخمسين، إلا أن تلك الفترة وما ارتبط بها، ما زالت محفورة في جدار ذاكرتي كأنه اليوم.

أتذكر الآن حياتي المحاطة بكل أنواع البؤس، وأنا أختلس النظر إلى أقراني وهم يلبسون بنطلونات "الجينز والفانيلات الجميلة"، بينما كنت وزملائي في غرفة القسم الداخلي نتبادل ما أمكن من الملابس وحتى الأحذية، لعابي وهي تسيل استجابة للرائحة الصادرة من المطاعم التي أمر جوارها، وكيف أن وجبة فيها قد تعفيني من وجبة القسم الداخلي المسببة للإسهالات اليومية.

أتذكر، كيف كنت أكمل الامتحانات النهائية وأذهب في اليوم التالي بحثاً عن عمارة قيد التنفيذ للعمل فيها. حملت أكياس الأسمنت والبلك والأحجار، عملت في الرنج ولا زلت أتذكر الشقوق في يدي وآلامها بفعل النورة.

أتذكر أحد الأقرباء وهو يجري خلفي في الشارع ويتحلق الناس حولي لمجرد أنني تجرأت على تناول طبق فول ولم أستطع دفع ثمنه. لا أنسى سبة أحدهم البذيئة، حين صادفته في الشارع وسألته عشرة ريالات توصلني إلى شارع حدة، مع ذلك تجاهلت ما صدر عنه طمعاً في الحصول عليها.

أكاد أذرف الدمع وأنا أستعيد ملامح أسرتي البائسة، والرقع المنتشرة على ملابسهم، ووجباتهم التي لم تكن تتجاوز "العصيد والفتة الغرب والدخن"، أما المكرونة والرز فقد كانت أشياء نسمع عنها فقط.

بل أذرفها الآن وأنا أستعيد صورة والدي وهو على فراش المرض، يسأل عن "س" و"ص" من الناس أملاً فيما يمكن أن يدسونه تحت وسادته من نقود ليقوم بإرسالها إلى أسرته في القرية. مع ذلك لم نشعر بالكراهية تجاه من تسبب في هذا الحال "رحمه الله" أو تجاه قائده أطال الله في عمره.

ليس هذا فحسب بل ظل والدي يعاني من عاهة العرج حتى وفاته العام 97م في محله بصنعاء إثر نوبة قلبية وهو يبذل حتى آخر لحظة من حياته كل الجهد في سبيل تربية أبنائه وبناته الذين وصل عددهم إلى 15 فرداً.

واليوم ينظر لعائلتنا "الملك"، كما يحب أن يطلق عليها الآخرون، بكل احترام ويعتبرونها نموذجاً للتحصيل العلمي والمستوى الثقافي والنجاح التجاري وحتى العلاقات الأسرية القوية التي تجمع أفرادها، خاصة بعد أن صار اسم "الملك" اسماً تجارياً لمجموعة من الشركات الناجحة.

هكذا عشنا، وهكذا بفضل الله وجهدنا أصبحنا، دون الحاجة لاستجرار الماضي والعيش على فتاته.

Alshaibani51@gmail.com

* نقلاً عن أسبوعية الديار