نضال سلمي يؤسس للحرب.. تزييف للواقع من أجل الغنيمة..مآلات خطاب المسألة الجنوبية
بقلم/ نجيب غلاب
نشر منذ: 16 سنة و 11 شهراً و 17 يوماً
الخميس 10 يناير-كانون الثاني 2008 12:00 ص

مأرب برس - خاص

الخطاب المعبر عن المسألة الجنوبية، الذي يظهر في مقولات بعض المثقفين والسياسيين، خطاب يعاني من تناقض في طرحه بين مضمون الأهداف التي يحملها، وبين القيم التي يدافع عنها والواقع الذي يعمل فيه، فالخطاب يخفي بوعي أو بدون وعي مشروع متناقض كليا مع القيم التي يؤسس لها على مستوى الشعار، وهذا جعل منه من حيث المظهر العام والمآل الذي يسير إليه خطابا متوترا في رؤيته وطريقة طرحة وطريقة فهمه للواقع.

وبتحليل الخطاب سنجد أن منتجيه جعلوا من المقولات التي تهيمن عليه أدوات في الصراع السياسي، ولا يهم لديهم أن كانت المقولات متوافقة أو منسجمة مع الواقع، فالمقولة ذاتها تتحول إلى واقع، وما يعمق من مشكلة الخطاب أن المقولة تتحول إلى أداة لفهم الواقع ، لذا فأن الواقع الذي يتحدث عنه الخطاب واقع مغاير للواقع الموضوعي، والهدف من هذا الخداع المتعمد هو التأسيس لواقع ينفي الواقع الحقيقي، فالوحدة مثلا كواقع في بنية الخطاب غير موجودة، وهذا النفي للواقع والتأسيس لواقع وهمي لا يقوم على الحقائق بل محكوم برؤية ذاتية تقوم على فكرة جوهرية فحواها أن الوحدة إذا لم تتناغم مع مصالح أصحاب الخطاب فهي غائبة رغم حضورها الواقعي، والخطاب من جهة أخرى يسعى لتأسيس واقع متناغم مع منتجيه.

خطاب معزول عن مبادئ الحركة الوطنية:

وفي خضم الكراهية التي يؤسس لها الخطاب، ولأنه يرى في القوى الوحدوية عائق أمام تحقيق مصالحة، لذا فأنه يستغل الأخطاء التي أنتجتها بعض القوى الفاسدة السائرة في موكب القوى الوطنية الوحدوية ويعيد تفسيرها ويعممها على الجميع بما يخدم هدفه في نقض الوحدة، فيتم تحويل سلوك الفاسد في تعامله مع الواقع إلى الواقع كله، والهدف من ذلك هو تشويه صورة من انتصروا للوحدة. والخطاب لا يكتفي باستغلال الفساد الموجود بل يقوم وبذكاء شديد بإعادة تفسير الأحداث التاريخية قبل الوحدة وبعدها مستغلا الوقائع ذات الطابع الصراعي منذ تحقيق الوحدة والتي أنتجتها ظروف موضوعية ويجعل منها مدخل لنفي وحدوية الوحدوي وأنه بدفاعه عن الوحدة دمر الوحدة وسلوك من حاول قتل الوحدة سلوك طبيعي إيجابي، ويتحول السلوك المدمر للكيان إلى سلوك وحدوي.

والخطاب في مآلاته النهاية يهدف إلى إضعاف الوحدة والانقضاض عليها لاحقا لذا فهو لا يستطيع أن ينقد ذاته وسلوك الفاعل الذي نقض الوحدة من جذورها بإعلان الانفصال، ولا يستطيع ان يفسر الواقع بعقلانية وأن الواقع الراهن بسلبياته نتاج لفعل عظيم كاد أن يقتل الكيان كله، ولكنه يحاسب الآخر بالمثاليات التي كان سلوكه سبب تدميرها، والخطاب بعمومه يعمل على قلب الحقائق وتزييف الواقع فيصبح المدافع عن الوحدة انفصالي والانفصالي وحدوي ويطالب الأخر بأن يقتل نفسه من أجل أن يحقق منتجو الخطاب مصالحهم.

إلى ذلك فالخطاب المعبر عن المسألة الجنوبية لا يهتم بالمثال القيمي لبناء الدولة الجامعة كما تجلّى في تاريخ الحركة الوطنية كلها، ولكنه يعيد صياغة التاريخ من اللحظة التي تعاني منها النخب المعبرة عن الخطاب ومن مشاكل الواقع الراهنة التي يمكن تجاوزها بمنطق الحركة الوطنية ومشروعها الوطني، ومشاكل الواقع لا يتم فهمها كما تتجلى في الواقع، ولكن كما يريد لها الخطاب ان تكون، لذا فأن الخطاب يعيد بنائها بالطريقة التي تصل بها للمآلات التي تحكم مقولاته وهي مآلات تنقض تاريخ الحركة الوطنية وأهدافها السامية، وهذا ا يجعلنا نؤكد أن المسألة الجنوبية كما تتجلى في الخطاب هي خارج سياق فكر الحركة الوطنية وهي بدعة أنتجتها النخب المتضررة في الصراع على السلطة والثروة.

التأسيس للكراهية باسم العصبية الجغرافية

ومشكلة الخطاب العويصة والغير قابلة للحل أن القضايا الوطنية المختلفة التي يدافع عنها تتماهى مع النزوع المناطقي والحيز الجغرافي بطريقة تنفي فكرة الدولة الجامعة وتنفي القيم الحديثة، لأنه خطاب في جوهره يؤسس لعصبية مقيتة، لذا فأن الكراهية والغضب والانتهازية نتاج طبيعي للخطاب، فالخطاب في مضمونه يُعلي من قيمة الجنوب كأرض أولا، ولكنه باسم الإنسان يناضل، والإنسان هنا هو الجنوبي، وفي المقابل يلعن الخطاب المتداول الشمال أرضا وإنسانا، ويقلل من شأن كل ما ينتمي للمحافظات الشمالية، بل يتم تشويه صورة الشمالي بصورة منظمة وبآلية دعاية موجهة.

فالخطاب مثلا يصور المظالم التي يواجهها المجتمع اليمني نتاج للعقلية الشمالية ويصور الجنوب في المقابل بصورة المظلوم والمقهور والمنهوب ماله وحقوقه، والخطاب بذكاء شديد يؤكد أن الفاعل والمتهم هو كل الشمال ـ من الواضح أن هكذا خطاب لا هدف له سواء التأسيس للكراهية وتمهيد لفكرة الانفصال ـ وهذا الخداع الذي يمارسه الخطاب بوعي أو بدون وعي لا يفرق بين السلطة والشعب بين الحاكم والمحكوم بين المعارضة والحكومة بين التحالفات في السلطة والمعارضة، بين المبدأ والقيمة والسلوك المتناقض معهما، بين النضال من أجل الجميع والنضال من أجل الجزء وهو خطاب نتائجه قتل الكل من أجل طموحات يحكمها نزوع مناطقي انتهازي.

وعلى الرغم من سطحية الخطاب وتهافت مقولاته ، إلا أن تأثيره في تحريك مشاعر وعواطف من يخاطبهم ذا فاعلية، وهي فاعلية سلبية لأنه يلجأ في الأساس إلى الغريزة ويخاطب الأنا بمشاكلها اللحظية، ويرسم مستقبل غامض، مستقبل قائم على حلم الغنيمة التي لا يمكن تحقيقها إلا بتدمير الدولة الجامعة.

ومنتجي الخطاب المحترفين يعملون على تعمير عصبية جنوبية في مقابل الشمال والعمل على أحياء الوعي القبلي في الثقافة الشعبية ومنتجي الخطاب يدركوا مفعول النزعة العصبية في إذكاء فاعلية الحراك، ويتم دعم العصبية بمطالب حقوقية كما تتجلى لدى البعض أو بمطالب انفصالية مباشره وفي ظل واقع المعاناة فأن الخطاب يصبح قادر بسهولة على جر العامة إلى التفاعل معه، والخطورة الكامنة في بنية الخطاب أنه في حالة استمراره دون أن يتم نقده وتجاوزه أو وضع قوة قانونية رادعة لمنتجيه فأنه ربما يدفع بالجميع إلى صراع دموي مقيت لن يربح فيه أحد إلا النخب الفاسدة وحدوية كانت أم انفصالية.

وعلى الرغم أن الخطاب المعبر عن المسألة الجنوبية لا تظهر فيه الانفصالية إلا لدى المتطرفين أما المعتدلين فيعتبرون حل المسألة مدخل لوحدة حقيقية وهم كمن يحاول أن يقتل الكيان من أجل بعث الحياة فيه، فالخطاب يتحدث عن الوحدة من خلال مطالب انفصالية، وهذه الإشكالية أسس لها إعلان الانفصال في 1994م فإعلان اليمن الديمقراطي تم تبريره باسم الوحدة وباسم دولة الحداثة. وطبيعة الخطاب لدى الجميع عند تفكيك بنيته الكلية نجد أنه يؤسس لوعي قبلي يبحث عن الغنيمة حتى لدى أصحاب المطالب العادلة والرافعين لشعار الحقوق والدولة العادلة ولكن النضال يتم بطريقة تنفي الدولة الجامعة وهذا التناقض سببه أن النزعة الانفصالية هي جوهر المسألة ولبها حتى لدى من يعتبرون أنفسهم وحدويين.

خطاب يحمل حداثة شكلية ومحكوم بوعي قبلي متأصل

والمتابع لمنتجي الخطاب سيجد أن اغلب المعبرين عن هذا الخطاب اتجاهات يسارية (ظهرت مؤخرا اتجاهات اسلاموية جرفتها الموجة وهي غير واعية أنها مقيدة بوعي انفصالي باسم الوحدة) تعيش أزمة مركبة على مستوى الوعي والفكر وعلى مستوى الواقع والفعل، وخطابها هو نتاج لهذه الأزمة، فالقوى اليسارية المنخرطة في خطاب المسألة الجنوبية لم تحسم أمرها بتجاوز وعيها اليساري المشوه ولكنها إضافة لذلك وجدت نفسها تتبنى رؤية ليبرالية مشوهه بعد عداء طويل معها، كما أن الفكر الحديث لدى هذه القوى في مرحلة اليسار أو مرحلتها الليبرالية لم يتعمق في أغوار الوعي ليحكم السلوك بل يشكل في وعيها قشرة رقيقة، هذه القشرة جعلت الأفكار تتراكم في العقل كمعلومات مجردة بمعنى أنه لم يتم هضم واستيعابها والتفاعل معها كان سطحيا وأداتيا في معارك الصراع السياسي على غنائم السلطة.

هذه القوى اليسارية في خطابها ترى في دولة الوحدة بنية فوقية محتكرة للقوة بيد نخب قبلية عسكرية توظف الدولة لخدمتها، وهي من جانب آخر تناضل من أجل دولة المواطنة وترفع شعارات الدولة الحديثة، ولكنها في مقابل الشعارات تجد نفسها أثناء نضالها غارقة في نزوع مناطقي مناقض للدولة وللقيم الحديثة، وهذا التشتت والتناقض نتاج للوعي الحقيقي المسير للخطاب وهو خطاب يؤسس للعصبية كما تتجلى في الوعي القبلي، وهذا يفسر مآلاته الانفصالية الباحث عن دولة الغنيمة.

ولتوضيح الفكرة نجد أن الوعي القبلي يبحث عن الغنيمة ويسعى جاهدا للاستحواذ عليها، كما أن وعي القبيلة ليحقق طموحاته فأنه بحاجة إلى نفي الآخر وإلغائه وتدمير صورته، وفي العادة ما يعمل الوعي القبلي بخلق أساطير الأجداد وارض القبيلة ويتعامل مع الآخرين كدخلاء على أرضها حتى وان جمعه معهم الدين والمصالح والأهداف والطموحات، الوعي القبلي وعي محاصر داخل ذاته لا يعرف أو يقبل إلا ذاته، وهو وعي يؤسس للاحتراب لتحقيق أهدافه.

لو عدنا لخطاب النخبة وللخطاب الذي أسست له والذي يتم تداوله بين العامة سنجد أن جوهر التحليلات والتهويمات الفكرية تدور حول محور وحيد فحواه أن المناطق التي حكمتها الدولة الشطرية في جنوب اليمن غنية في مواردها وموقعها وبحكم عدد سكانها القليل، والعلاقات التي يمكن أن تبنيها مع الخليج، فان رغد العيش والرفاهة لا يمكن تحقيقها إلا بالانفصال والتخلص من الدحباشي الشمالي الذي يشاركنا في الثروة ويتحكم بالسلطة بحكم العدد، وهذا الوعي ممكن أن يتطور مستقبلا ويفرز المسألة الحضرمية، أو العدانية، او اللحجية كما تبدت لدى مفكر يساري كبير.

هذه الرؤية الانتهازية الآنية هي المتحكم بالمسألة الجنوبية، أما الشعارات المرفوعة فهي أدوات تبريرية من خلالها يتم تنقية الذات من أنانيتها وإقناعها بان المبدأ الأعلى للقيم هي التي تحكم الحركة، ومن جانب آخر مخادعة الآخرين وجرهم إلى الخطاب ومساعدته ليصل إلى المآلات المرسومة في مخيلة النخبة.

وبملاحظة الواقع نجد أن خطاب المسألة الجنوبية يفعل فعله في العامة بحكم تفكيرهم الآني وعدم إحساسهم بالمستقبل وعجزهم عن التحليل، وتلعب النخب لعبتها وتعيد من خلال الخطاب الممتلئ بالقيم، وأتباعها إستراتيجية الاستنفار العصبوي وبعث الوعي القبلي في تحريك العامة، والهدف هو تفجير الاحتراب من خلال دفع العامة والقيادات الساذجة للتضحية بنفسها، لن فكرة الغنيمة وحدها بدون وعي قيمي يغلفها لن تدفع الآخرين للتضحية.

والإشكالية الراهنة التي خرجت من رحم خطاب المسألة الجنوبية أن مناضلي المطالب تم خداعهم وأصبحت مطالبهم لا تدور حول الحقوق او حول الإدارة وطبيعة السلطة وطريقة إدارة النظام ولكنه نضال يحمل شعارات تبحث عن حقوقها من خلال شعارات انفصالية، فالنضال يتحرك عبر قنطرة المطالب السياسية والحقوقية ولكن باسم الجغرافيا.

خطاب أناني نتائجه الفوضى والتخلف والفساد:

وعلى الرغم أن النخب المنتجة للخطاب تدرك ان المستقبل للوحدة وأنه لا يمكن حدوث الانفصال لاعتبارات واقعية، لذا فان المسألة الجنوبية لدى المحترفين والأذكياء تمثل أداة لتحقيق أهدافهم السلطوية في دولة الوحدة، أما الصادقين مع أنفسهم من ساذجي السياسة وهم في الغالب من القيادات الوسطية والدنيا فأنهم وقود المعركة وأدواتها الغبية.

المسألة الجنوبية في حقيقتها تعبير عن مجموعات نخبوية فقدت مواقعها ومصالحها نتيجة لظروف موضوعية وتعمل جاهدة من أجل غنيمة السلطة والثروة، ونتيجة عجزها عن السير في نضال متوافق مع تاريخ الحركة الوطنية اليمنية فأنها تتبنى إستراتيجية تهديد دولة الوحدة من خلال جر الدولة والمجتمع إلى صراعات عدمية محكومة بالهوية الجغرافية وهذه النخبة على قناعة أن هكذا إستراتيجية يمكن أن يسهل لها الدخول في لعبة توزيع الغنيمة إن لم تنجح في مآلات خطابها، وفي ظل حرص النخبة الحاكمة على الوحدة وتفاقم مشاكل الواقع وعجز المجتمع والدولة عن تجاوز واقعهم السيئ فأن هكذا صراع في تصوري ربما يخدم المصالح الانتهازية للنخب المنتجة للخطاب حتى يتم الحفاظ على الكيان فالتمادي في اللعبة التي يمارسها محترفي المسألة الجنوبية وقدرتهم في التغرير بالعامة وشحنهم بثقافة مدمرة ربما يهدد مستقبل اليمن كله.

وفي المحصلة النهائية يمكننا القول أن إستراتيجية الفعل السياسي الذي ينتجه الخطاب لا يعبر عن سياق نهضوي تجديدي يؤسس لعلاقات عادلة ولكنه فعل انتهازي محبط يملؤه الغضب ويدور حول قيم تؤسس للاحتراب والتدمير، بمعنى أن الخطاب يعيد إنتاج التخلف والفساد فالأهداف المتضمنة للخطاب ونتيجة فهمه للواقع والتفسيرات التي يقدمها يجعله يؤسس لفعل مناقض لشعاراته التي يرفعها، لذا فهو خطاب فوضوي في مآلاته النهائية فهو يخفي رغبة جامحة في بث الفوضى واستمرار المظالم وانتشار الفقر لأن ذلك يسهل لمنتجيه التحريض وهذا يفسر بعض المواقف السلبية التي يتبناها البعض تجاه النضال الذي يسعى لتغيير الواقع السيئ بما يخدم الوحدة ويتم تفسر ذلك بأنه يخدم الدولة الجامعة.

وفي تصور في حالة عدم الاستجابة لمصالح النخب المعبرة عن المسألة الجنوبية، حتى في حالات تحقيق دولة حديثة دولة النظام والقانون، فان حركتها سوف تستمر، نعم ستخفف الدولة الحديثة وتحقيق قيم المواطنة وإنهاء المظالم من حدّة التوتر ولكن النخب ستعيد إنتاج خطابها وتجعل منه سيف مسلط في وجه الدولة ومن يحكمها وفي وجه الشعب اليمني كله.

على منتجي الخطاب من القوى الصادقة مع نفسها أن تدرك ان مواجهة مظالم الواقع لا يمكن أن تنجح من خلال تشتيت الهوية وتدميرها سواء باسم الجغرافيا أو القبيلة أو الطائفة فتدمير الهوية الجامعة التي يتم التعبير عنها من خلال الدولة هي المدخل الفعلي لاستمرار الفساد وبقاء المظالم، فالعدالة والحرية والديمقراطية لا يمكن تحقيقها بدون دولة قوية تعبر عن الهوية الوطنية، ومقاومة المظالم لا يكون بتفكيك الهوية وتدميرها بل بإعادة تعميرها وفي هذه الحالة فان الكل الوطني سيلتحم بقوة للبحث عن القيم التي يعبر عنها المجموع.

ان المسألة الجنوبية في الراهن نعم نتج عنها حراك داخلي قوى لصالح القوى المناهضة لبناء الدولة الحديثة، ولكنها من جهة أخرى خففت من الضغوط التي كان من المفترض أن يواجهها الحاكم على امتداد الساحة اليمنية أما في حالة اتجاه الفعل الذي ينتجه الخطاب في مساقات مهددة للكيان فان القوى المختلفة وحتى المتناقضة مع النخبة الحاكمة لن تقف على الحياد بل ستتحالف مع الحاكم من أجل المستقبل.

فالقوى الوحدوية المعارضة كالغالبية العظمى من أعضاء الحزب الاشتراكي والأحزاب الأخرى كالإصلاح والناصريين والبعثيين والليبراليين والقوى التقليدية كل هذه القوى في الشمال والجنوب لن تتمادى في نضالها ضد النظام إذا شعرت أن الوحدة مهددة، بل ربما تصبح النخب في الحكم والمعارضة مجبرة على تجاوز الانقسام الحالي الخادم للتحولات الديمقراطية إلى بناء تحالفات قوية تؤسس للاستبداد وتلغي الهوامش الديمقراطية الراهنة.

المستقبل للوحدة والخطاب يعيق بناء الدولة

من الواضح أن مخاطر المسألة الجنوبية محصورة في إعاقة بناء الدولة، والإسهام في تشظي المجتمع اليمني ودفع الجميع نحو استهلاك الجهود في صراعات عبثية، أما الوحدة فهي راسخة فالحراك الداخلي في اليمن جعل من الوحدة المحدد الفعلي لمصالح الغالبية العظمى من القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومصالح هذا القوى مرتبطة بالوحدة ارتباط مصيري، وأي تهديد للوحدة فان هذه القوى ستتحرك بكل قوتها لإعادة بناء مواقفها وإستراتيجيتها وستجد نفسها في صف القوى الوحدوية وهي على استعداد لتقديم التضحيات حماية لمستقبلها.

وهذا ما يجعلنا نؤكد أن خطاب المسألة الجنوبية أن استطاع استغلال الواقع السيئ وتمكن من دفع جزء من العامة بعد أن تم تزييف وعيهم الوحدوي وتم انتهاك كرامة عقولهم واستغلال إنسانيتهم وبعد أن تم تدمير ثقافتهم الوطنية في محرقة مصالح النخبة الأنانية، فأن هذا التحرك لن يتم التعامل معه بمرونة فالواقع ولا اقصد واقع النخبة الحاكمة بل الواقع اليمني ككل يؤكد ان مستقبل الجميع بالوحدة وأن الانفصال يمثل انتحارا لليمن واليمنيين بما يعني ان الحفاظ على الوحدة ومقاومة أعدائها مسألة حياة أو موت، وحتى في حالة وجود دعم خارجي فا الشعب اليمني لن يستسلم فهو يدرك أن اليمن بدون الوحدة حالة من عدم.

وهنا لابد من الإشارة أن الوضع الإقليمي والدولي تحركه إستراتيجية تقوم على حماية دولة يمنية واحدة لا دولتين ولأسباب لا علاقة لها بالقيمة أو المبدأ بل مصالحهم تقتضي ذلك، فالأمن الإقليمي في الخليج والمنطقة والمصالح الإستراتيجية لدول مجلس التعاون مع دولة يمنية واحدة، والمنظومة الدولية تبحث عن دولة يمنية واحدة قوية فالدول الفاشلة أصبحت هي المهدد الأول للأمن العالمي، لذا فان المنظومة الدولية مع دولة واحدة قوية حتى ولو حكمتها نخبة مستبدة، بما يعاني أن الانفتاح السياسي إذا أصبح هو مدخل لفشل الدولة فإنه يصبح لدى صانع القرار الدولي مضر ولا جدوى منه، ولأن الخطاب المعبر عن المسألة الجنوبية من أشد المخاطر المهددة للدولة في الراهن فأن قمعه بشدة في حالة أنتج فعل مهدد للدولة سيلقى دعم دولي وإقليمي وفي أسوء الظروف إطلاق يد النظام الحاكم للدولة لقمع التمرد مع إصدار تصريحات لإرضاء الضمير.

خطاب مخادع يعبر عن نخبة لا تفقه إلا مصالحها

يمكن القول أن الخطاب المعبر عن المسألة الجنوبية بشكل عام غير متماسك ومشتت ويؤسس لصراع مدمر لأنه محكوم بالهدف الذي يسعى إليه بوعي كما هو لدى الانفصالي المطالب بتقرير المصير أو بدون وعي كما هو لدى من يرى أن السلوك الخاطئ هو من يؤسس للانفصال، ولدى من يبرر السلوك الانفصالي بان صاحبه مضطر.

كما أن الخطاب من جهة أخرى لا يمتلك نظرة تحليلية شمولية ولا منهجية موضوعية، لذا فهو لا يبحث عن الحقيقية ولكنه يبحث عما يخدم أهدافه، لذا فانه ينفي كل ما يتناقض مع طرحة وينتقي ما يدعم مقولاته، فالنهب الذي يمارس للأراضي لا يتم فهمها حسب سياقاتها الطبيعية ولا يتم النضال من أجل تجاوز الخطاء ولكن يتم فهم الواقع بما يخدم الهدف الذي يحكم صاحبه، وحتى يدعم رؤيته فأنه يتعامل مع كل طرح حتى وان كان اقرب لفهم الواقع كحقائق زائفة، وعندما يرفض الحقائق فانه يرفضها من داخل بنية الخطاب الذي ينتجه لا من الواقع كما هو، وان استخدم الواقع لرفض الحقائق أو تفنيدها فانه يفهم الواقع بطريقته وينتقي المعلومة بمعزل عن روابطها ويجردها من كل معانيها لتصبح دليل لإثبات الخطاب ونفي الواقع الموضوعي.

والخلاصة أن التوتر والخداع في الخطاب نتاج رؤية ومنهجية خاطئة في فهم الواقع الذي يتعامل معه الخطاب، فهو يؤسس لهوية المكان من خلال البحث عن دولة معبرة عنه ويتجاوز هوية الإنسان بل أنه يتمادى ويسعى جاهدا لتحويل الإنسان إلى أداة لتأسيس هوية عصبوية قائمة على الكراهية والحقد.

كما ان الخطاب يفهم الواقع بطريقة تدمره ولا تعمره ومن خلال تعبيرات هي نتاج غضب استحكم على النفس لذا فأنه ينتج خطابا وفعلا عاطفيا متجاوزا للعقل، وهذا يفسر رؤيته المشوهة ويفسر عجزه عن إدراك الواقع كما هو ويفسر عجزه عن تقديم رؤية إصلاحية واقعية تنسجم مع المشروع الوطني الذي أنتجته الثورة اليمنية، وهذا ما يجعلنا نصل إلى نتيجة أنه تعبير عن نخب لا تفقه إلا مصالحها وهي لا تهتم بنتائج الخطاب حتى وأن قضى على الإنسان وأحرق الأخضر واليابس.



 مدرس للعلوم السياسية ـ جامعة صنعاء