الإنترنيت .. الخطر القادم على البشرية
بقلم/ مأرب برس
نشر منذ: 17 سنة و 7 أشهر و 8 أيام
الجمعة 23 مارس - آذار 2007 10:19 م

من هذه الشاشة الصغيرة التي تبعد عن أرنبة أنفك عدة سنتيمترات تتفجر أكبر ثورة منذ بدء الخليقة، وأضخم عملية تغيير في الثوابت والمُسَلّمات، وأخطر هجوم من خصوم العقل.

من هذه الشاشة الملونة الجميلة التي تتلاعب في خلفيتها، وتشاهد صور العائلة في رحلتها الأخيرة، وتقرأ صحف الغد قبل أن يتسلمها بائع الصحف في العالم العربي، وتترجم مقالك من الانجليزية إلى اليابانية في بضع ثوان، وتبحث عن افتتاحية صحيفة برازيلية فتترجمها من البرتغالية إلى لغتك، وتقرأ عن الدواء الذي تستخدمه، وتنتقد أعتى الطغاة دون أن يعرف أحدٌ اسمَك وعنوانك، وتدشن موقعا عقلانيا وتسامحيا أو ارهابيا تتحرك فوق حروفه سيارات مفخخة من الجهل والأمية الثقافية والكراهية.

من هذه الشاشة تقرأ عكس أي شيء في العالم، فتبحث عن محاسن وسلبيات النازية والعنصرية، وتقرأ في صحيفة ( إيلاف ) الالكترونية مقالا بقلم مسلم متدين يمتدح فيه الكيان الصهيوني ويطالب العربَ أن تكون الدولة العبرية نموذجا يحتذي به أبناء الأمة العربية.

وتقرأ تبريرات للالحاد وحوارات الدينيين مع اللادينيين، وتقع عيناك على عفن فكري يرى الشذوذ والاعتداء على الأطفال أمورا طبيعية.

وتتابع ملايين المواقع التي تدعو إلى الاباحية أو الارهاب أو الفرقة بين الأديان أو عودة الاستعمار أو ابادة أجناس بشرية، وستجد لكل زعماء الحركات المناهضة لحقوق الانسان والمساواة مؤيدين ومواقع المعجبين ، بل والمبررات ( المنطقية والعقلية ) لأكثر المباديء سفالة وحقارة ووضاعة.

من هذه الشاشة يزيد علمك أضعافا مضاعفة، وقد يؤيدك في جهلك عدد هائل من الناس، وبإمكانك تكفير من تريد، وأن تهيل التراب على العلماء وقادة الحركات التنويرية ولو كنت تتحرك بمعلومات يسخر من ضآلتها طفل رضيع.

من هذه الشاشة تعد رسالة الماجستير والدكتوراه وتناقش بحثك، وتطلع على مراجع في طول العالم وعرضه فتأتيك جاثية راكعة قبل أن يرتد إليك طرفك، لكنك أيضا تكتب خربشات كأنها نقرات دجاجة تبحث عن طعامها، وتنشر كتاباتك بلغة مريضة صفراء الحرف، زرقاء التشكيل، كأنها قرع

طبول أو لهجة محكية لفرع من قبائل الواق واق، وأنا أضمن لك قراء ومعجبين ومؤيدين لك!

من هذه الشاشة يمكنك أن تقيم حربا طائفية وتثبت خطر الشيعة إن كنت سُنّيا متطرفا، وخطر السُنة إن كنت شيعيا متعصبا، وتشترك في خلافات مضت عليها ثلاثة عشر قرنا، وترفع السيف ضد معاوية أو يزيد وتظن نفسك في الكوفة، وتقوم بتكفير السنة أو الشيعة أو أي مذهب آخر، ولا تيأس فسيأتيك مؤيدوك من كل فج عميق ليشهدوا حماقة الجنس البشري وهو ينقل صراعات من زمن مضى، ويجعلها معارك زمنه بدلا من صناعة زمن جميل يعيش فيه الانسان بجوار أخيه الانسان في ألفة ومحبة وقليل من النزاعات.

من هذه الشاشة تجلس في غرفة صغيرة وترتشف قدحا من القهوة المُرّة وتدير معارك وهمية، وتطالب بقطع الرؤوس، وتثبت أن محدثك كافر، بل لا تحتاج لأي اثبات فالآخرون الأكثر حُمْقاً منك قادرون على الاتيان بأدلة يصدقها الأكثر غباء منهم!

اشترك في بعض المنتديات، واكتب مثلا أن فلانا سب النبي الكريم ( رغم أن هذا كذب)، ولن يمر وقت طويل حتى تكون فتاوى قطع رقبة الرجل الذي اتهمته زورا وبهتانا أكثر عددا من القراء أنفسهم، بل سيرفع كثيرون منهم راية الجهاد ضد الزنديق الذي سَوّلت له نفسه الاقتراب من نبينا الكريم. أما الأدلة والاثباتات والقرائن فهي لا تهم أحدا، ولا يكترث لها عقل أو باحث أو عضو في أحد المنتديات.

من هذه الشاشة يمكنك رسم ماضيك، وتصوير حاضرك، والتقاط بعض مشاهد مستقبلك كأنك على وشك الانتصار في معركة مع سكان الكرة الأرضية، ويمكن أن تتواضع وتطالب باستقالة زعيم أو بتأسيس حزب معارض أو بعمل العكس، أي الدفاع عن مستبد وديكتاتور، وتزيين جرائمه، وتحميل القوى المناوئة مسؤولية وجود آلاف المعتقلين.

من هذه الشاشة أنت كبير يتأثر بك قادة الفكر والثقافة والاعلام، وأنت صغير لا يسمع بك أحد إلا عندما يشاهد اسمك أو رمزك مصادفة في موقع أو منتدى.

من هذه الشاشة تنتقد المقدسات ، وتسب الأنبياء، وترفض الايمان بالله الواحد القهار، وتكذب على تاريخ المصلحين، وتروج لحكايات عفنة عن كتب تكدس عليها غبار الزمن فلا تتصفحها إلا وتسقط صفحاتها بين يديك.

ومن هذه الشاشة تدافع عن المقدسات، وتحاور بهدوء أو بصلافة، وتستخدم المنطق السليم أو الغباء العقلي، وتفكر برأسك أو بقدميك، وتلقى بواضعي أسس الحضارات في مزبلة التاريخ أو ترفع من شأنهم وتعيد صياغة أفكارهم وتوسعة نطاق التعريف بها.

من هذه الشاشة تبصق على الثقافة والكِتاب والعلم وسيلتف حولك الجهلة كما يتجمع الذباب حول قصعة من الفضلات، ولو كنت تفك الخط بشق الأنفس، وتقرأ لغتك الأم بصعوبة بالغة.

لكن المستقبل للانترنيت، وبعد سنوات قليلة يصبح بامكانك أن تستدعي عدة مئات الملايين من الناس في غرفتك وتحدثهم، وتلقي خطبة، وتقوم بانقلاب، وتشكك في الثوابت، وتكفر بالإيمان، وتؤمن بالكفر.

في ساعات معدودة كان صدام حسين شهيدا بأقلام عشرات الآلاف من مريديه، وكان مجرما قاتلا بأقلام مثلهم من خصومه، أما التاريخ والمقابر الجماعية وتفاصيل جرائمه التي تستطيع مياه دجلة أن تقص علينا معظمها، فصعاليك الإنترنيت قادرون على نفيها.

الإنترنيت خطر طاعوني طوفاني قادم، وقادر على زلزلة كل ثوابت الانسان، واقناعنا بأي شيء ونقيضه في نفس الوقت، وبنفس القدر من العقل واللاعقل!