22 مايو: شيء من الذكري والتأمل
بقلم/ عبدالملك طاهر المخلافي
نشر منذ: 17 سنة و 5 أشهر و 14 يوماً
الثلاثاء 22 مايو 2007 02:55 م

مأرب برس - خاص

قبيل إعلانها بأيام قلائل تنامت إلى مسامعنا أخبار فحواها أن القيادتين السياسيتين لما كان يسمى بالجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ستقوم بإعلان قيام الجمهورية اليمنية ظهيرة يوم 22/ مايو1990م. حينها حرصنا ونحن لا نزال طلاب في مدارس إحدى القرى اليمنية النائية المحرومة من نعمة الكهرباء.. أن لا يفوتنا هذا المشهد التاريخي العظيم .. لحظة رفع علم دولة الوحدة وإسدال الستار عن فصول مؤلمة من التشطير والاحتراب بين اليمنيين... فقررنا تدبير وتشغيل جهاز تلفزيون بأي طريقة لذلك الغرض.. وفعلا تسنى لنا ذلك.. واستمتعنا بتلك اللحظات الفارقة بين عهدين سياسيين مختلفين تماما.. ومنذ تلك اللحظة انفتحت أعين الناس وآذانهم على أمور وأفكار ومفاهيم جديدة لم يكونوا على عهد بها من قبل.

من الذكريات الجميلة خلال السنوات الأولى لدولة الوحدة أن سمعت كغيري عن إشعال الشعلة في الذكرى الأولى للوحدة في تمام الساعة الثامنة من مساء يوم 21/1/ 1991 وهو بالطبع تقليد ثوري موروث, فكنت واحدا من أبناء الريف الذين وفدوا لأول مرة إلى صنعاء والذين لم يسبق لهم أن شاهدوا مثل هذا الفعالية المبهرة.. فرأيت أن الفرصة سانحة لحضور هذا الكرنفال الوحدوي - أي إشعال الشعلة - وهو يرمز إلى إطفاء أول شمعة من عمر دولة الوحدة الفتية... فعبرت طريقي بين موج البشر المتلاطم حتى وصلت إلى ميدان التحرير في قلب العاصمة صنعاء.. وهناك وجدت الناس يتوافدون من كل حدب وصوب, شيوخا وشبابا, رجالا ونساء, للوقوف على ذلك الحدث الجميل. لقد كانت لحظات مهيبة لا تقل في روعتها وجلالها عن لحظات ارتفاع علم الجمهورية اليمنية ظهيرة 22/ مايو/ 1990م. وهناك بدأت أسمع أبيات شعرية كان يرددها المذيع المعلق على الحدث..عرفت فيما بعد أنها للشاعر الكبير المبدع حسن عبد الله الشرفي... لقد كان لتلك الأبيات الشعرية وقعها وتأثيرها على النفس والتي أتذكر منها:

 للحبِ يا أولى الشموعِ...

 ما شئتِ كوني في ضلوعي ...

 وطنٌ نذرتُ له دمي

 وسقيتُ تربتهُ دموعي

 عامٌ ونحنُ معاً معاً

 نبني جميعاً للجميعِ

 الله .. من وطنٍ بهِ

 نشدو ولكن في خشوعِ

 في ظلهِ تجدُ الحياةَ

 اليومَ أكثر من يسوعِ

ومن الذكريات الأليمة خلال عهد الوحدة ما شهدته البلاد من محاولة للانشقاق عن كيان الدولة الموحدة أفضت بالتالي إلى حرب صيف 1994م التي كادت أن تعيد الوضع إلى ما كان عليه قبل 22مايو 90م لولا الموقف التاريخي الشجاع للرئيس على عبد الله صالح الذي وقف ذات صباح رافعا شعار (الوحدة أو الموت).. داعيا رموز حركة الانفصال تسليم أنفسهم إلى اقرب قسم شرطة.. لقد كان الرجل يتحدث بثقة وكأنه على موعد مع النصر على شرذمة الانفصال.. انه موقف تاريخي عظيم يذكرنا بموقف الرئيس الأمريكي ابراهام لنكولن (1861 - 1865 م) أثناء محاولة انفصال الولايات الجنوبية عن الاتحاد الفيدرالي في عهده بسبب تحريره للعبيد. لقد وقف لنكولن بحزم وتصدى لمحاولة الانفصال وتمكن من الانتصار و إعادة الولايات المنفصلة إلى حظيرة الحكم المركزي بقوة السلاح.. ولولا تلك الوقفة الجسورة من لنكولن وتلك التضحيات التي بلغت (600 ألف) قتيل من الطرفين.. لتمزقت الولايات المتحدة إلى عدة دول أو دويلات ضعيفة, ولما أصبحت على ما هي عليه اليوم من قوة ومكانة عالمية..أستطيع القول بقناعة مطلقة أن الرئيس صالح مثل بحق رجل الدفاع عن الوحدة ولو انه وَهَنَ سياسيا وعسكريا وآثر السلامة لتدخلت عوامل عديدة داخلية وخارجية دافعة بالموقف باتجاه الانفصال ولأصبح الانفصال أمرا محتوما.. وبالتالي كان سيعود كل طرف إلى وضعه وهو يردد..........كان حلما من خيال فهوى.. أن من الحقائق التي لا يختلف عليها الناس أن الوحدة مكسب كبير للشعب بأجياله المتعاقبة وهي الباقية والخالدة عبر الزمن بينما الأفراد لا شك انهم راحلون ومصالحهم الصغيرة آيلة إلى الزوال والفناء.. حتى يبدو لي أحيانا أن أولئك الأفراد الذين قادوا عملية التمرد والانفصال يحمدون الله أنها جاءت سليمة بحق الوحدة وبقي اليمن موحداً. 

كذلك من الأحداث المؤلمة التي قفزت فجأة إلى طريق دولة الوحدة ما يعرف بالحوثية وهي فكرة قبيحة وممجوجة شعبيا ولا تمتلك أي مشروع عملي أو عصري مقبول ومن رحمة الله بهذا الشعب أنها ولدت كذلك بلا لون ولا طعم ولا رائحة ولو كانت تتمتع بذلك فلربما استساغها الناس.

واليوم وبعد سبع عشر عام من مسيرة التوحد المباركة.. يقف الإنسان متأملا تلك الحقبة التي حفلت بزخم هائل من الأحداث والتحولات والتبدلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والديمغرافية... وغيرها. وفي خضم هذه الرحلة القصيرة عاش المواطن اليمني خلالها شاهدا على العديد من النجاحات والاخفاقات وعرف وتعرف على عدد كبير من المفاهيم والقيم وطرائق العمل التي نسجت من حوله ثقافة سياسية واجتماعية جديدة ذات طابع مختلف.. ثقافة تشتمل على العديد من المفردات البراقة التي تطبخ بذكاء في غرف السياسة ويقذف بها إلى الشارع وهناك يتلقفها المواطنون ويلكونها وهم قد لا يعرفون شيئا عن خلفياتها ومغازيها وانما يفهمونها بالفطرة ومع مرور الأيام ومنها على سبيل المثال : فترة انتقالية.. حكومة ائتلافية.. تداول سلمي للسلطة.. شفافية.. تدوير الوظيفة العامة.. تعويم العملة .. خصخصة.. كتل برلمانية.. حقوق الإنسان ..حقوق المرأة..الجندر..استفتاء..تصويت ..اقتراع.. طعون انتخابية .. برلمان أطفال .. مجتمع مدني ..تضخم نقدي.. بنك دولي وصندوق نقد.. سلطة ومعارضة.. أقلية وأغلبية.. أغلبية مريحة.. سلطة محلية ... والقائمة تبدو طويلة.

وإذا كان المواطن قد أحرز تقدماً لا بأس به على الصعيد السياسي والديمقراطي , فانه بالمقابل يقف اليوم ويتأمل المشهد المعيشي والاقتصادي الراهن مقارنة بسنوات خلت وهو يردد (رب يوم بكيتُ منه فلما...صرتُ في غيره بكيتُ عليه). وعندما يحكي الناس وأنا واحد منهم عن رغد العيش وبساطة الأسعار في تلك الأيام الخوالي من العهد الوحدوي.. وعن تفاصيل الحياة المعيشية ومعدلات الأسعار فكأنهم يقصون حكاية حلم لذيذ زارهم في الكرى ثم انصرف إلى غير رجعة.. كل هذه الحقائق كانت معاشة في السنين الأولى من تاريخ الجمهورية اليمنية. وهنا يتعين علينا الوقوف أمام مسألة جديرة بالمناقشة وهي أن البعض بات يحمل الوحدة كل الأوزار والأخطاء والاخفاقات التي اعتورت حياتنا كالفساد بصوره المختلفة والغلاء بأشكاله المتجددة والتدهور الحاصل في قيم وأخلاق المجتمع.. ويصب هذا (البعض) جام سخطه وحقده على منجز الوحدة .. وهي براء من كل ذلك .. معتبراً أنها الحدث الذي قض عليه مضجعه وعكر عليه صفو حياته وقذف به من جنته الهادئة العالية إلى صحراء الفساد والغلاء والفوضى. وهنا نقول أن الوحدة كانت بمثابة لحظة تاريخية نادرة تم اقتناصها وقد مثلت فرصة للانعتاق والانطلاق بالإنسان نحو أفاق رحبة للحرية والعمل والتكامل والتنمية وبناء دولة عصرية مقتدرة وعادلة .. فما ذنب الوحدة إذا كنا نحن لم نستطع الارتقاء إلى قامتها السامقة وطموحاتها الكبيرة.. ولم نستطع أن نصوغ ثقافة جديدة تتوائم مع الواقع الجديد التي أتت به.. ولم نستطع أن ندير بكفاءة ما أتاحت لنا من إمكانات ومقدرات متعاظمة..؟