الوطن أولوية وضرورة إستراتيجية
بقلم/ زيد علي باشا
نشر منذ: 12 سنة و 3 أشهر و 9 أيام
السبت 04 أغسطس-آب 2012 10:48 م

المنطلق

ما واجبك نحو وطنك الذي تنتمي إليه؟ هل لك أن تختار أين تبذل جهدك و مالك، أم أن هناك ما يحتم عليك فرض أولويات لبذل الجهد و المال؟ هل على المهاجر العودة إلى وطنه وجوبا، أم أن له الخيرة و في كل خير؟

إن مشكلة كثير منا نحن العرب أننا لا نشعر بالإنتماء إلى أوطاننا، مما أدى إلى التخلي عنها. إن ما تمر به المنطقة العربية اليوم من متغيرات و اضطرابات يضطرنا إلى أن نسأل بإلحاح ما إذا كان على المرء أن يعمر وطنه قبل غيره و أن يكرس حياته في خدمته، لكي لا تمتد إليه أيادي العابثين باسم السلام و الديمقراطية و ما إلى ذلك من شعارات براقة، و لكي لا تخلو الأرض للمفسدين و الجهلة ليعوثوا فيها و يستنزفوا خيراتها و يدمروا حاضرها و مستقبلها.

وللحديث عن الوطن أبعاد ثلاثة: بعد عاطفي و بعد شرعي لنا كشعوب تدين بالإسلام و بعد استراتيجي حضاري فلا يمكن لنا أن نرسم صورة كاملة لقضية الوطن دون أن نتناول هذه الأبعاد الثلاثة. إلا أنه يجب التنويه بداية إلى ثلاثة أمور

أولا: أن هذه الأبعاد الثلاثة خاضعة للتصور الإسلامي الفريد الشامل للحياة و دور الإنسان فيها.

ثانيا: أن أوطاننا جزء لا يتجزء من أمة إسلامية، و عليه فإن الحديث عن الوطن هو حديث عن حاضر هذه الأمة و مستقبلها.

ثالثا: أن تطلعات هذه الأمة حضارية إنسانية و لا ينبغي لها أن تكون غير ذلك.

و إنني، و من هذا المنطلق، أحاول جاهدا أن أقدم طرحا لقضية الوطن ينتقل بها من حيز العاطفة المفرطة و العصبية النتنة و القومية الضيقة، إلى حيز الحديث عن الحضارة الإنسانية بأسمى صورها، و من حيز الخواطر إلى حيز النقد الموضوعي، ذلك أنني أرى، في ضوء المستجدات التي نعيشها، أن توجيه الطاقات قاطبة نحو الوطن أولوية و ضرورة إستراتيجية لتلبية تطلعات هذه الشعوب العربية.

حب الوطن فطري

و لنبدأ بالتأكيد على أن حب الوطن فطري، فالمرء يحن إلى مسقط رأسه كما يحن الطائر إلى عشه. هي غريزة يقرها ديننا القيم و يؤكد عليها في أكثر من موضع، منها أن الله عز و جل يقرن في كتابه الحكيم ترك الديار بالموت فيقول سبحانه و تعالى في سورة النساء:

((وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا))

و قد أنشد الشعراء أعذب الكلمات و أشجاها في الشوق و الحنين إلى ربوع الوطن، و ما ذلك إلا من أصيل الطبع و كريم الخلق و سليم الفطرة.

فقال أحمد الشامي:

لولا هواي البكر في عرصاتها *** ما فاض دمعي عند ذكر صفاتهـــا

بلد شبابي مـاد بين غصـــونهـا *** و طفولتي رقصت على همساتهـا

و قال ابن الرومي:

ولي منزل آليت ألا أبيعــــــــه ***  وألاّ أرى غيري له الدهر مالكــا

عمرت به شرخ الشباب منعما *** بصحبة قوم أصبحوا في ظلالكـا

فقد ألفته النفس حتى كأنـــــــه *** لها جسد إن غاب غودر هالكــــا

وحبب أوطان الرجــــال إليهم ** * مآرب قضاها الشباب هنالكــــــا

إذا ذكروا أوطانهم ذكّرتهــــــم *** عهود الصبا فيها فحنوا لذلكــــــا

أرض الله واسعة

ليس هناك دليلا واحدا مباشرا على أن حب الوطن من أركان العقيدة، و أنه لا يصلح عمل المسلم إلا به، و أن من كره وطنه مات كافرا. و اقرأ قول الله تعالى في سورة النساء:

((إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا))

و كذلك قوله تعالى في الآيات التي تلتها:

((وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا))

و عليه نقول أنه لا يجب على المسلم الفرد شئ على سبيل الفرضية المطلقة من الناحية الشرعية، كفرضية الصلاة و الزكاة و الصوم مثلا، أو كحب الله و رسوله و البر بالوالدين و الإحسان إليهما. أما تقسيم العلماء قديما الأرض لدار إسلام و دار كفر أو دار حرب و قولهم بعدم جواز الإقامة في غير دار الإسلام فهو يخلق إشكالات عديدة بسبب انتشار الإسلام اليوم بين الأمم، ناهيك عن أن الدعوة إلى الله و ضرورات عديدة أخرى نتعرض لها تتقتضي أن يهجر المرء وطنه، فها هو الرسول عليه السلام يأمر أصحابه أن يمكثوا في الحبشة لإن فيها ملكا عادلا و أما إذا ما جمعنا بين الولاء للوطن و واجبات و حقوق أخرى على رأسها حقوق الوالدين و ذي القربى، فلربما أمكن أن نقول أن القيام بتلك الواجبات ليس إلا فرض كفاية، ليتسنى للمرء حينئذ أن يوازن بين حق أمه و حق أمته.

إن ولاء المسلم لله وحده، و حب الله و ابتغاء مرضاته مقدم على كل ما دونه بما في ذلك حب الأوطان، و يجب أن يكون حب الأوطان و خدمتها في سبيل ابتغاء مرضاة الله و إلا أصبحت شعارات الوطنية كلمة حق يراد بها باطل. و لمزيد من التوضيح، اذكر بما ورد عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: "و الله يا مكة إنك من أحب بلاد الله إلي و لولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت" و أنه رغم ذلك عاش في المدينة حتى مماته، طاب حيا و ميتا. زد على ذلك أنه منع المهاجرين من المكوث بمكة حتى بعد الفتح إلا ثلاثة أيام بعد النسك، أي الحج أو العمرة، فقال عليه السلام: "يمكث المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا". و معنى الحديث أن الذين هاجروا من مكة قبل الفتح حرم عليهم استيطان مكة و الإقامة بها، و هي وطنهم، إلا أن يصلوها بحج أو عمرة أو غيرهما فلهم أن يقيموا بعد فراغهم ثلاثة أيام و لا يزيدوا على الثلاثة. حرم عليهم ذلك لأن في بقاءهم في المدينة و منعهم من الرجوع إلى مكة بعد الفتح، و هي موطنهم، تحقيق لمصلحة أكبر و أهم، و هذا هو مربط فرسي و لب مقالي و جوهر حجتي، و فيما يلي توضيح ذلك.

الوجه الآخر لنفس العملة

و لنسهب قليلا في الحديث عن الهجرة و المهاجرين باعتبار أن قضيتي الوطن و الهجرة وجهان لنفس العملة. قلنا أن أرض الله واسعة، و لعل هذه النتيجة مسلم بها لدى أكثرنا، إما لإنها بديهية أو لإن مقدماتها غابت عن وعينا و حرصنا. إلا أننا أغفلنا على أي حال الوجه الآخر لنفس العملة، و هو أنه كما أن الأوطان تهجر لإن للحياة ضروريات، و للضرورة أحكام، و لإن أرض الله واسعة، فإن المهاجر تهجر و الأوطان تعمر لإن للمصالح أولويات و ترتيبات، و كما أننا باسم الترقي المعيشي نجتهد و نبذل كل ما بوسعنا في سبيل الهجرة، فإنه حري بنا ألا نستحلي الهجرة، باعتبار أن الهجرة أمر طارئ و غير طبيعي كما أسلفنا، فالله سائلنا عما هاجرنا إليه، و قد أعذر رسوله الكريم، و الحديث نحفظه جميعا كما نحفظ أسماء أبائنا.

لا يكفي أن يكون المرء في المهجر مواطنا حسن السيرة و السلوك و حسب، أو أن يكتفي بتأدية واجباته الإسلامية--و هي تشمل العبادات و المعاملات--و الحياتية، و لكن يجب عليه أن يلعب دورا فاعلا نحو تلبية تطلعات الأمة التي ينتمي إليها. من أجل ذلك، فإني أرى بضرورة أن تكون هجرات العقول و رؤوس الأموال ضمن مشروع واضح المعالم، كمشروع هجرة المصطفى عليه الصلاة و السلام، و برؤية استراتيجية، و إلا فلا حاجة لا للشعوب العربية و لا للأمة الإسلامية بهذه الهجرات. و هنا أتساءل: علام اللهفة على هجر الأوطان و لمن نتركها؟ لماذا نتسابق إلى جنسيات الأرض قاطبة و نفاخر بها؟ متى كان ترك الأوطان و التخلي عنها مفخرة؟ لماذا ندخل في مواثيق تتعارض مع مصالح مواطن الإسلام الأصلية و نحلف بأيمان الله باختيارنا غير مكرهين أن نوالي من يعادينا؟ لماذا نبحث عن مواطن جديدة للإسلام بدلا من أن نحي الإسلام و تعاليمه في أوطاننا أولا؟ لماذا خيرنا لغيرنا؟

هذه ليست دعوة للإنغلاق على أنفسنا و عدم التعايش، فلطالما كانت مظلة الإسلام الفكرية أوسع و لطالما كانت جذور عقيدتنا الإسلامية ضاربة في الأرض فلا أرسخ منها، فلنعم العقيدة هي، و لنعم المنهج للمسلم و لغير المسلم. فالإسلام هو الحضارة--و رحم الله صاحب هذا التوصيف--و هو دعوة للتعايش و الإرتقاء بالإنسان لأعلى مستوى بغض النظر عما يدين به. إنما هي غيرة، و تصويب نحو أعلى مراتب الدنيا و الآخرة قائم على وضع الأمور في نصابها، و إعطاء الأمور حقها، و تقديم الأولى و الواجب و الصواب على هوى النفس.

قالوا أن الشريف قتادة قال:

بلادى وإن هانــت على عزيــــزة *** ولو أننى أعرى بها وأجـوع

تظل ملوك الأرض تلثم ظهرهـــا *** وفى بطنها للمجدبين ربيــــع

أأجعلها تحت الثرى ثم أبتغــــــي *** خلاصا لها؟ أني اذن لوضيع

و قالوا:

بلادي وإن جارت علي عزيــــزة *** وأهلي وإن ضنوا علي كرام

و قالوا:

إذا لم تك الحاجات من همة الفتى *** فليس بمغن عنك عقد الترائم

و قالوا:

و من يك ذا فضل فيبخل بفضله *** على قومه يستغن عنه و يذمم

قضيتنا اليوم هي الوطن

إن الوطن اليوم في حاجة ماسة لجهود الجميع. أرى أن مشروع بناء الوطن أولى من غيره في الوقت الحالي، و لا بأس أن تتنطلق مشاريع أخرى بالتوازي شرط ألا نفقد التركيز في بذل الجهد. هذا هو مفهومي لهجرة الرسول عليه السلام إلى المدينة، و هو أن هجرته عليه السلام كانت خطوة استراتيجية لبناء حضارة عظيمة، و بناء على هذا المفهوم فإني أخلص إلى النتيجة التالية: ليست الهجرة دائما مستحبة، إذ يجب أن تكون للهجرة رؤية واضحة تنسجم مع ضروريات الوقت الراهن.

إن المتغيرات الراهنة التي تمر بها المنطقة تفرض واقعا جديدا يجب التأقلم معه، و تفتح ساحات العمل، في شتى مجالات الحياة، للاعبين جدد من مفكرين و قادة و عاملين. لن نعدم الخير في أوطاننا. أدري أن الهجرة تكون لطلب الرزق، و لكن رزقنا في السماء و إنما يرزقنا الله بسبب لمن أتبع سببا من أسباب الرزق. أدري أن الهجرة تكون لطلب العلم، لكن لا خير في علم لا ينفع. أدري أن الهجرة تكون لطلب حياة رغدة، لكن العيش عيش الآخرة. أدري أن الهجرة تكون للدعوة إلى الله لكن يكفي أن يقوم بذلك جماعة من الناس المؤهلين. أدري أن الهجرة تكون هروبا من الإستبداد و القمع لكنا لسنا اليوم في ستينات أو سبعينات القرن الماضي و ضرورة الهجرة آنذاك لحفظ النفس و إقامة الدين و غير ذلك تغيب اليوم في هذا العهد الجديد.

هذه دعوة للجميع لبناء وطن، لا لذات الوطن. إنما الأيام دول و الحياة أدوار فاحرص على أن تؤدي دورك الحقيقي في الحياة. لم يكن الخيار الثوري في الحسبان أبدا، غير أن حكمة الله اقتضت أمرا آخر لتهيئ الظروف لجيل جديد. و اذكرهنا قول الله تعالى في أخر سورة محمد:

((هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم))

هذا عهد جديد، و الساحات اليوم مفتوحة لقيادات جديدة في كل مجالات الحياة. إن العقول المهاجرة اليوم و أصحاب الكفاءات و الخبرات حيثما كانوا و كذلك أصحاب رؤوس الأموال مكلفين بما أنعم الله عليهم بأن يدفعوا الظلم بكل ما أوتوا من قوة و يحرروا أوطانهم من الظلم و الجهل. لن نحرر الأقصى و بيننا رجال يبحثون عما يسدون به رمق جوعهم بين القمامات. لن ننجح في تشكيل أي اتحادات حقيقية اقتصادية أو سياسية على مستوى المنطقة و الجوع و الجهل و المرض حلفائنا. من أجل ذلك فإن قضيتنا اليوم هي الوطن و وضع أوطاننا لم يعد يتحمل مزيدا من العبث. قد آن لنا أن نبذل الجهد الذي يتناسب مع حجم المشكلة. و نحن ورثة أوطاننا. ليس من المهم اليوم ما صنع، و لكن ما سنصنع عملا بقوله تعالى--و الذي تكرر مرتين في سورة البقرة--:

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ

و ليكن لسان حالنا اليوم قول الشاعر:

ولا تيأسنْ من صنـع ربك إنــه *******ضمين بأن الله سوف يُديـل

فإن الليـالي إذ يـزول نعيــهـــا *********تبشـر أن النـائبات تـزول

ألم تر أن الليـل بعــــد ظلامـه *******عليه لإسـفار الصبـاح دليل

ألم تر أن الشمس بعد كسـوفها *** لها صفحة تغشي العيون صقيل

وأن الهلال النضو يقمر بعدما ****بدا وهو شخت الجانبين ضئيل

رحلة وراء الوطن

حياتك الدنيا رحلة لنيل المطالب، تسعى فيها لنيل المال و العلم و السلطان، كدحا و جدا و غلابا. تطلبها بعضها أو جميعها، و تطلبها لك و لغيرك، و تطلبها لذاتها و لما ورائها. قد تختلف مسمياتها و أشكالها و لكنها تبقى أول وجهة و أول فكرة. تبذل من أجلها أغلى ما عندك، و تبذل من أجلها كل ما عندك، فتسعدنا أو تشقينا، و ترفعنا أو تخفضنا، و تجمعنا أو تفرقنا. ثم يفنى الطالب و المطلوب و تبقى كل نفس بما كسبت رهينة.

إن قيمة الحياة بقيمة مطلوبها، و الإرتقاء بالمطلوب ارتقاء بأسباب الحياة و سمو بالنفس. فكما أن هجرة الأوطان يمكن أن تكون إحدى أمرين، فإما هجرة إلى الله و رسوله أو لنيل حظ من الدنيا، فإن هجرة المهاجر(أي العودة إلى الأوطان) يمكن أن تكون كذلك إحدى أمرين، فإما إلى الله و رسوله أو لنيل حظ من الدنيا. أما طالب الدنيا لذاتها فيخرج منها مفلسا و لو بلغ عنان السماء، و أما طالب الآخرة فله ما قدم. بتلك الروح المتسامية أقبل الرعيل الأول من أمة الإسلام على هذه الحياة فتحقق لهم أمرين: نتيجة العمل بالأسباب، و تأييد و رضى مسبب الأسباب. أما الأول فتحقيق لمطلوب الخلافة و العمارة، و أما الثاني فتحقيق لمطلوب العبادة.

إن هذا التصور الفريد للحياة يعطيها أبعادا عميقة، و يمد آفاقها، و يصلها بالآخرة صلة غير منقطعة.

قال عليه السلام لأم حارثة (حارثة بن سراقة) يوم فقدها لولدها يوم بدر و سؤالها عن مصيره: "يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى" (و في رواية: "يا أم حارثة، إنها ليست بجنة واحدة، ولكنها جنان، وإن حارثة في الفردوس الأعلى"). و يوم مؤتة بينما عليه السلام في مسجده يحكي لمن كان معه أحداث تلك المعركة الضارية إذا به يقول: "أخذ الراية أخوكم زيد فقاتل بها حتى قتل وإني لأرى مقامه في الجنة، ثم أخذ الراية أخوكم جعفر فقاتل بها حتى قتل وإني أراه يطير في الجنة بجناحين"، وسكت النبي عليه الصلاة والسلام، فلما سكت قلق الصحابة الكرام على أخيهم عبد الله فقالوا مطمئنين عنه: "يا رسول الله ما فعل عبد الله؟" قال: "ثم أخذ الراية أخوكم عبد الله فقاتل بها حتى قتل وإني لأرى في مقامه إزوراراً عن صاحبيه". ذلك لأنه تردد. فعلام التردد و التأخر؟ أدري أن أبواب الخير كثيرة و أن لك أن تطرق منها ما شئت، لكن بعضها أوسع من بعض. المسألة مسألة مراتب و منازل و هذا ما نرجوه و ندعو إليه و الله ولي الهداية و التوفيق.

قال الله عز و جل في سورة الحديد:

((اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ))

اللهم فبالفضل لا بالعدل.