لا شك أن زعيم حركة النهضة التونسية السيد راشد الغنوشي كان موفقاً جداً في تصريحه رداً على وزير الداخلية الفرنسي الذي اتهم الإسلاميين التونسيين بأنهم يحاولون فرض توجههم الديني على المجتمع التونسي. فرد عليه الغنوشي قائلاً: "إن أبواب المساجد والحانات والشواطئ مفتوحة في تونس". وهو لا شك رد مفحم على الذين راحوا يخوفون بلدان الربيع العربي التي تحكمها أحزاب إسلامية من قيام الإسلاميين بفرض تقاليدهم وعاداتهم بالقوة على المجتمع وأسلمته عنوة.
قد يختلف بعض الإسلاميين مع حركة النهضة على اعتبار أنها أقرب إلى النموذج الإسلامي التركي المعتدل جداً منها إلى الحركات التي تسعى إلى فرض نموذج إسلامي خالص على بلدانها. لكن، وبكل صراحة، إذا أرادت الحركات الإسلامية التي دخلت المعترك السياسي بقوة بعد الربيع العربي أن تبقى في الساحة، وتتنافس بشكل ديمقراطي حقيقي مع بقية الأحزاب، عليها أن تحذو حذو المثال التونسي والتركي، لأنهما حزبان إسلاميان ديمقراطيان بامتياز يقبلان بالتعددية التي هي جوهر الديمقراطية. وخير دليل على ذلك أن السيد الغنوشي قال في رده على منتقدي الإسلاميين إن المسجد في تونس لن يفرض أجندته على الناس، بل هو مجرد مرفق من مرافق الدولة، مثله في ذلك مثل الحانة وشواطئ السباحة والسياحة.
كلام السيد الغنوشي طبعاً يجب ألا يؤخذ بمعناه السطحي الذي قد يثير بعض الإسلاميين المتشددين الذين وجدوا في وصولهم إلى السلطة بعد ثورات الربيع العربي فرصة لتحويل المجتمعات العربية إلى مجتمعات ذات لون إسلامي خالص. لكن التصريح في واقع الأمر يؤسس لدولة ديمقراطية مدنية حقيقية يستطيع فيها الإسلاميون أن يحكموا بطريقة لا تنفّر أحداً، ويتناوبوا على الحكم طالما التزموا بمبدأ التعددية المقدس ديمقراطياً.
هناك أمران في غاية الأهمية يرتكز عليهما تصريح السيد الغنوشي، ويجب على جميع الإسلاميين أن يأخذوهما بعين الاعتبار، ألا وهما أن جوهر الديمقراطية أن يكون الحكم فيها مدنياً وقائماً على مبدأ المواطنة التعددية التي تترك شأن المعتقد للشعب، ولا تحاول فرضه على الناس لا بالقوة الخشنة ولا حتى الناعمة، فالمواطنة الحقيقية تعني أن يكون الإنسان حراً في توجهاته السياسية والفكرية والثقافية والدينية والحياتية العامة، فمن شاء أن يرتاد المسجد فليفعل، ومن شاء أن يرتاد الحانة أو الشواطئ فليفعل. وهذا لا يعني أن القوى السياسية في المجتمع لا تستطيع أن تعبر عن توجهاتها الثقافية والفكرية والعقدية، فهذا مسموح به في الديمقراطيات، وبإمكان الجميع أن يتنافسوا ديمقراطياً وسلمياً، والرأي يعود في النهاية إلى الناس، فهم الذين يقررون من يتبعون بناء على سياساته وبرامجه الانتخابية وإنجازاته السابقة. وقد لاحظنا كيف تحول جزء مهم من الشعب التركي إلى مناصرة التيار الإسلامي رغم وجود علمانية صارخة ومتشددة في البلاد منصوص عليها عنوة في الدستور.
لقد لاحظنا كيف أن العاملين في المرافق الترفيهية كالحانات وحتى بيوت اللهو قد صوتوا لأردوغان، لأنهم وجدوا فيه وفي حزبه مثالاً يحتذى في محاربة الفساد والظلم والتنمية والنهوض بالبلاد اقتصادياً. لا يستطيع إنسان في رأسه ذرة عقل حتى لو كان ماجناً إلا أن يبايع حزب أردوغان عندما يراه وقد وضع تركيا على قائمة الدول العشر الأكثر نمواً اقتصادياً في العالم، وفي الوقت نفسه ترك الناس يديرون حياتهم بطريقتهم الخاصة بعيداً عن الابتزاز أو التوجيه الديني الفاقع.
إن الأنظمة الإسلامية كالنموذج التركي والتونسي هي وحدها القادرة ليس فقط على البقاء في المعترك السياسي، بل أيضاً المحافظة على وحدة بلادها، خاصة أن الأنظمة المتشددة التي حاولت فرض النموذج الإسلامي بالقوة انتهى بها الأمر إلى تخريب بلدانها وتفتيتها وتمزيقها. لاحظوا كيف تفكك السودان بسبب السياسات الطائشة التي بدل أن تترك جنوب السودان يعيش على طريقته، حاولت أن تفرض عليه الشريعة الإسلامية رغماً عنه، فانتهى به الأمر إلى الانفصال عن البلاد، لا بل الدخول معها في معارك عدائية لا تنتهي. ولا ننس ما حل بفلسطين بسبب الفشل في عدم المواءمة بين العلمانية والإسلام، فانتهى الأمر بالفلسطينيين إلى دويلتي غزة الإسلامية ورام الله العلمانية. وعلى القيادة المصرية الجديدة أن تتعلم الدرس من السودان وفلسطين، وأن تعلم أن الانقسام في مصر خطير جداً، ليس فقط بين مسلم ومسيحي، بل أيضاً بين القوى الإسلامية والقوى الليبرالية والعلمانية المسلمة.
ليس كل من يدين بالدين الإسلامي يريد أن يعيش بموجب الشريعة الإسلامية. وهذه حقيقة واضحة للعيان في مصر وفلسطين وتونس وسوريا وبقية البلدان العربية. لاحظوا الفرق الهائل في أسلوب العيش الذي يريده سكان قطاع غزة، والأسلوب الذي يريده سكان رام الله. ولاحظوا أيضاً الفرق الشاسع بين أسلوب الحياة الذي تريده القوى المنضوية تحت لواء جبهة الإنقاذ المصرية والأسلوب الذي يريده الإخوان والسلفيون في مصر. على الأحزاب الإسلامية التي تصل إلى السلطة أن تضع هذه الحقائق الصارخة أمام أعينها، وأن تعمل بنصيحة السيد الغنوشي الذي لا يمانع في فتح أبواب المساجد والحانات والشواطئ في آن معاً. ويجب ألا تنسى تلك الأحزاب أننا نعيش في عصر العولمة التي جعلت من العالم قرية واحدة يتعايش فيها كل التيارات الثقافية والدينية والقومية جنباً إلى جنب. وكل من يحاول أن يفرض نموذجه على الآخرين سيخسر المعركة، ويصبح منبوذاً. لاحظوا كيف أن المعارضة المصرية تقف بالمرصاد لحزب الحرية والعدالة الإسلامي رغم أنه حزب معتدل، ويسعى إلى دولة مدنية حسب قوله، مع ذلك فهناك حساسية كبيرة لدى الأطراف الأخرى تجاهه خوفاً من أن يفرض أجندته الثقافية على المجتمع. ولاحظوا أيضاً الهيجان السياسي والإعلامي ضد حركة النهضة التونسية رغم اعتدالها الشديد واقترابها من النموذج التركي، مع ذلك فهي تتعرض لحملة شعواء لمجرد أنها ذات لون إسلامي.
باختصار، على القوى الإسلامية أن تدرك أن أي محاولة لفرض لون واحد على المجتمعات العربية في حقبة ما بعد الربيع العربي ستكون كارثية بكل المقاييس. وهذا الكلام موجه أيضاً للقوى العلمانية والليبرالية التي يجب عليها أيضاً أن تتخلص من أصوليتها العلمانية الصارخة، وأن تتوقف عن شيطنة الإسلاميين لمجرد أنهم يخالفونها في الرأي والتوجه. فليتعلم العلمانيون العرب من جماعة أتاتورك في تركيا الذين بعد تخندقهم وتعنتهم الشديد لعشرات السنين وراء متاريسهم العلمانية المتطرفة، إلا أنهم لم يستطيعوا في نهاية المطاف إلا أن يتعايشوا، ويقبلوا بالتيار الإسلامي من أجل مصلحة تركيا. لذلك، فكما هو مطلوب من الإسلاميين العرب أن يتعلموا من أردوغان، فعلى العلمانيين العرب أن يتعلموا أيضاً من علمانيي تركيا، وألا يضعوا العصي في عجلات الحكومات الإسلامية بطريقة صبيانية شلت الحياة الاقتصادية، وعكرت صفو الشعوب، وأثرت على لقمة عيشها في بلاد مثل مصر وتونس، وجعلتها في حيرة من أمرها كي لا نقول شيئاً آخر.