جيل الشباب وثنائيات المنجزات والموت
بقلم/ دكتور/د: ياسين سعيد نعمان
نشر منذ: 15 سنة و 11 شهراً و 4 أيام
الخميس 04 ديسمبر-كانون الأول 2008 11:17 م

في مقاله المنشور في صحيفة "الشارع" الصادرة بتاريخ 22 نوفمبر 2008، تحت عنوان "جيل يعاني من التهاب المفاصل"، فجر الصحفي اللامع محمود ياسين قضية هامة استطاع من خلال عرضها الشيق، وبكل اقتدار وذكاء، أن يقرأ جانباً من الأزمة السياسية التي تمر بها البلاد.

ومما يجعل الأمر يبدو كمعاناة حقيقية لجيل بأكمله، هو أن عرض القضية قد تم بعيداً عن استقطابات اللحظة وضغوطها السياسية. لا أريد أن أجزم، ولكن هذا ما استشففته من مضمون المقال المفعم بروح صاحبه.

وكان أن نبهني للمقال، على الرغم من أنني أحرص على قراءة ما يكتبه محمود بانتظام، الأستاذ العزيز نبيل الصوفي الذي كنت بعثت له برسالة قصيرة فور قراءتي لمقال له نشر في جريدة "الوسط"، يناقش فيه جانباً من مقال لي في "الصحوة" حول الانتخابات والأزمة الوطنية، عبرت له فيها عن مشاركتي رؤيته المتماسكة بشأن الأطراف المنتجة للأزمة، وأضفت أن "الملفت للانتباه أن غضبكم أنتم الشباب على الأطراف المنتجة للأزمات لم يقدكم بعد إلى المسارات المستقلة عن هذه الأطراف، تفتشون عن أقرب نقطة لدى أيٍّ منها تتفق معكم مع إهمال بقية المشهد، ثم تكتشفون بعد فترة أنكم أصبحتم جزءاً من الأزمة". وقلت له إنه "لابد من مسار مستقل يضعكم كشباب في صدارة الباحثين عن حل لمستقبل البلاد حتى لا يحاصركم الغضب في موقع الشهود فقط". وكان "نبيل" محقاً عندما أضاف أو "للحد الذي يبقينا في مربع الشكوى".

توجه "محمود" بخطابه إلى الطبقة السياسية التي أنتجتها محطات تاريخية متعاقبة، بدت حاضرة في وعيه، ولكنها غائبة عن حاجة جيله اليوم. وأنا هنا لا أحلل المقال، بما فيه من زوائد يمكن للباحث في جوهر القضية التي يثيرها المقال، أن يستغني عنها أو يتزيد إن شاء في فهم بعض من الإحباط الذي غرق فيه هذا الجيل، إنما أرى أنه يثير قضية هامة، ويضعها أمام الجميع للبحث.. وهو يدشنها بتساؤلات تعكس حيرة جيل لا يرى في خطاب هذه الطبقة السياسية رداً واضحاً للأسئلة التي تشغله.. جيل يتألم حينما يرى نفسه خارج الاهتمامات الحقيقية لخطاب سياسي مشغول بالرد على أسئلة باتت خارج الزمان والمكان، على الأقل كما يعتقد هذا الجيل الذي يشكل القاعدة الأكبر من

السكان.. تداهمه الأزمات ويجد نفسه يعيش حالة من الغربة، فينفر من الواقع المعاش إلى حيث يستطيع التماهي، ولو بصورة مؤقتة، مع صور عدة من صور الحياة التي يعرضها العالم بوسائله العديدة، فيراها جاهزة للعيش دون أن يشغل نفسه بالتضحيات التي تقف وراءها، لأن "التضحية" في تجربته فقدت قيمتها في صناعة المنجزات. ويصطدم بجمود السياسة المحمولة على مكبرات صوت لا تُسْمع إلا إذا بُرمجت على الماضي "والانتصارات" في معارك مرذولة لم تقدم شيئاً سوى أنها أعادت بناء مفهوم فاسد للنضال الوطني والتضحيات في الوعي الاجتماعي، عوضاً عن النضال الحقيقي والتضحيات العظيمة التي ذهبت أدراج الرياح.

يقول محمود "على مدى 3 عقود يتم ابتزازنا بتوفير أشياء لا يعرف رجال الثورة غيرها.. حتى إن الديمقراطية وبرامج الأحزاب لا تفكر البتة في أشياء من قبيل لدينا أكثر من مليون طالب ما بين السن كذا والسن كذا، وهم بحاجة بعد 10 سنوات لتوفير عدد محدد من المنافذ المعلوماتية، وإشراكهم تماماً في خلق نمط ملائم من التفكير الجماعي.. مؤشر بياني، رسوم، واستخلاصات لعلاقة الكتب بفقدان القدرة على الفعل...".

حديث ينضح بالإحساس بالخيبة من وجود فجوة هائلة بين الأجيال، وخاصة مع الجيل الممسك بزمام السلطة والقرار في هذا البلد، ولا أظنه طبعاً يستثني بقية أطراف الطبقة السياسية؛ والسؤال: أي باحث أو مركز بحث اجتماعي أو سياسي اهتم بهذه الظاهرة التي ظلت تتحرك بصمت في تجاويف الوعي، فتحدث تأثيرها الهائل في السلوك الاجتماعي والتواصل بين الأجيال من خلال ثقافة تُكرس العزلة والاتهام؟ لا تكفي تحية العلم في الطابور المدرسي لردم هذه الفجوة، والكتب المدرسية الرديئة في عرض قضايا المجتمع والوطن، تعمق الانقسام الاجتماعي، وترسمه كقاعدة لربط هذه الأجيال بتهويمات "المنجزات الوطنية الكبرى"، وبعجلة فقدت زخم مواصلة المشوار على طريق صخري صعب.

في السياق العام لا يعيب هذه الطبقة السياسية أن يتوجه إليها جيل الشباب بخطاب من هذا النوع، على ألا يكون الهدف منه مجرد تسجيل موقف أو مطالبة مليئة بالغصة بتعديل مسلكها في التعاطي مع حاجات الشباب. لابد أن يكون الخطاب بمثابة دعوة إلى إعادة بناء وتعميم "الحاجة الوطنية" على أسس جديدة تكون فيها حاجات هذا الجيل مكوناً أساسياً في نسيج هذه "الحاجة"، وألا يصمم هذا "المكون" جيلاً آخر نيابة عن جيل الشباب. وهذا يعني أن الخطاب يجب ألا يكون مجرد تعبير عن حالة غضب، لأنه في هذه الحالة لن يكون سوى دعوة لتطبيع المشكلة والتعاطي معها كمعطى في معادلة كثيرة المجاهيل.

أما في الحالة التي قصدناها، فإن المسألة ستتوقف على الوضع الذي سيختاره هذا الجيل لنفسه من حيث صلته بالحياة السياسية: أي بالبقاء خارجها، أو أن يصبح جزءاً منها يعمل على تغييرها من داخلها. وأقصد إما من داخل الطبقة السياسية القائمة، أو العمل على خلق تكوينات سياسية ومسارات مستقلة تعبر بالنتيجة عن طموحات قوة اجتماعية فاعلة في بنية المجتمع، كما كان شأن كل تكوينات هذه الطبقة السياسية في محطاتها ومراحلها التاريخية المختلفة.

من وجهة نظري، هناك حاجة ماسة في الوقت الحاضر إلى حوارات جادة مع هذا الجيل المسكون بجملة من الهموم التي تعجز برامج الطبقة السياسية الحالية عن إدراكها بعمق، أو التي تفرض معطيات ومسارات الحياة السياسية والفكرية، في كثير من الأحيان، تعسفاً من خلال فشلها في استلهام واستيعاب متطلبات وشروط التعاطي من التأثيرات الكونية التي حررت الثقافة من شرطها المادي، وهو أمر لا يمكن أن يبقى محصوراً في الصيغة السلبية للاعتراف بالمشكلة، والمتمثلة في أحد مظاهرها كأن يعلن الأب التفاخر بأن ابنه الفتى أو ابنته الصبية قادران على التعامل مع الموبايل ووظائفه الكثيرة أو مع الكمبيوتر أفضل منه.

لابد من البحث بعمق في ما وراء ذلك.

المقال يفجر قضية هامة تستحق النقاش والبحث، فهي قضية الحاضر والماضي المليئين بالأزمات، وهي قضية المستقبل الذي نحلم لهذا الجيل أن يعيشه بلا أزمات.

لا يمكن فهم الأزمات السياسية التي مر بها اليمن، بما فيها الأزمة الوطنية الراهنة، بمعزل عن هذه الفجوة مع هذا الجيل الذي لا تعني له الثورة ولا الجمهورية ولا الوحدة ولا الانتخابات ولا الدعوات إلى الموت شيئاً إذا لم تستطع أن ترد على الأسئلة التي تتزاحم في رأسه عن المستقبل وعن متطلبات حياته واستقراره.

ربما كان عزوف هذا الجيل عن الانخراط في الحياة السياسية ناشئاً عن هذه الحقيقة، لا سيما وهو يرى أن كل شيء مرتبط بالموت: فالجمهورية لا يحميها إلا الموت، والوحدة لا يحافظ عليها إلا الموت، والحرية مصدرها الموت، والوطن هو الموت، ولقمة العيش دونها الموت. الطبقة السياسية السائدة لا ترى غير الموت طريقاً لاكتساب المواطنة.. وهذا جيل يريد أن يجرب الحياة كمعطى مرادف للوطن وللجمهورية وللوحدة، وحقه في التأهيل والعمل والعيش الكريم... الخ.

لربما رأى بحق أن كل هذه المثقلات اللاتي لم يلدن حتى اليوم ما يوفر له الاطمئنان والاستقرار، لا يحميها شيء أكثر قوة وثباتاً من طلب "الحياة" بدلاً من طلب "الموت". يطلب أن يجرب "الحياة" بعد أن جرب من سبقوه "الموت". هكذا يقول هذا الجيل: دعونا نختط طريق "الحياة".. ربما كان فيه خلاص وطننا من الثنائية التي ظل الموت هو الطرف الأقوى والطاغي فيها، في معادلة العيش على تربة هذا الوطن. فبدلاً من أن نظل نردد "نموت نموت ويحيا الوطن"، لماذا لا نعيد صياغة المعادلة بمقاربة تُستنهض فيها قيمة "الحياة" في إحياء الوطن وبنائه وازدهاره، فنقول "نعيش نعيش ويحيا الوطن". كيف لا وهو يرى أن "الموت" لم يُحي الوطن، لأن الأحياء وظفوا الموت لأغراض أخرى غير الوطن. هناك من مات وهناك من عاش وبقي الوطن خارج معادلة الموت والحياة. الدعوة إلى الموت كانت خدعة، فلماذا لا نترك لهذا الجيل الفرصة أن يجرب ثنائية الحياة – الحياة.

على أن هذا الجيل لابد أن يضع نصب عينيه حقيقة هامة، وهي أنه لا يستطيع أن يعزل نفسه عن المحيط السياسي والاجتماعي والثقافي الذي ينمو فيه، ليقوم فقط بوظيفة الناقد باستخدام أدوات معبرة عن الرفض وعن الشعور بالظلم والخيبة، وينام عند آخر جملة يدين فيها المتسببين في خيبته. لن يكون قادراً على التغيير من خارج أسوار العملية التاريخية التي تتم فيها تفاعلات سياسية وفكرية واجتماعية هامة وخطيرة في كل مرحلة، وما لم يكن حاضراً بقوة في هذه العملية الموضوعية التاريخية، فلن يسلم من التهاب المفاصل، الذي أصاب أسلافه، وعلى نحو سريع، وربما أسرع مما يتصور.
نقلا عن صحفية الشارع