تعليقات على خواطر بيجوفيتش
بقلم/ ابو الحسنين محسن معيض
نشر منذ: 4 سنوات و 11 شهراً و 20 يوماً
الثلاثاء 07 يناير-كانون الثاني 2020 08:54 م


علي عزت بيجوفيتش ( 1925- 2003 ) مفكر إسلامي مرموق ، وأول رئيس لدولة البوسنة والهرسك . له مؤلفات جديرة بالمطالعة والتمعن ، منها ( الإسلام بين الشرق والغرب ) و( الإعلان الإسلامي ) و( هروبي إلى الحرية ) . في 1983 تمت محاكمته و12 من رفاقه بتهم عديدة . وحكم عليه بالسجن ، ثم وأُفرج عنه بعد خمس سنوات ونصف ، نتيجة لتدهور أوضاعه الصحية . وفى سجنه كتب تلك الخواطر والتي جمعها فيما بعد في كتاب ( هروبي إلى الحرية ) ونشره عام 1998 , وهي خواطر ثمينة ، في مقالي هذا أجمع بعضا منها ، مع تعليقات لي عليها .
1ـ الشخص اليقظ بين السكارى مضحك ومثير للسخرية ، ففي مجتمع السكارى يكون السكارى هم الأغلبية التي تُحدد معيار الحالة السوية ، ووسط هؤلاء يبدو اليقظ شاذاً .
ـ قلت : وكذلك حال المصلحين في تحالفهم وشراكتهم مع المفسدين . ومهما تحججوا بأن ذلك سيحجم ولو قليلا من فسادهم ، أو يصلح حالهم ، إلا أن الواقع حتى اليوم يؤكد أن مصيرهم أحد أمرين: ـ إما مجاراتهم في فسادهم ، أو الصمت عن جرائمهم . ثم تحميلهم كل وزر وفساد قام به المفسدون . ـ أو الكيد والمكر بهم ، والنفي والسجن . وذلك هو نهاية المطاف معهم .
2ـ عن الفرق بين رجل الدولة والسياسي ، يجيب تشرشل : رجل الدولة يُفكر في الدولة ، أما السياسي فيفكر في الانتخابات القادمة .
ـ قلت : هذا كان على زمانك يا تشرشل . أما اليوم يفكرون كيف يؤجلون أي انتخابات ، ويلغون أية ديمقراطية ، ويعرقلون كل توافق صادق وتفاهم جاد . فهذا ما يمنحهم مزيدا من الوقت للتكسب الخاص ، وتحقيق الطموح الشخصي ، عبر الثرثرة كذبا بمصالح الشعب ، والتشدق زيفا بسيادة الوطن ، والإدعاء بهتانا بصدق الولاء وتجرد الانتماء . هذا أمر بات واضحا جليا . ولكن الضبابية المحيرة ! كيف مازال لهم في الشعب ممجدون ، وفي وطنيتهم مادحون ؟! .
3 ـ في أوائل الخمسينيات من هذا القرن ، كان رئيس محكمة العدل الدولية في لاهاي بريطانيا ً، وكان يفصل في النزاع بين بريطانيا وإيران . وفي هذا النزاع صوّت الرجل ضد بلده . غضب الشعب البريطاني لهذا الأمر ، إلا أنهم لم يقولوا أن الرجل خائن لوطنه .
ـ قلت : دع هذا الأمر لسياسيي وناشطي أوطاننا , فالتخوين هو الرائج اليوم في أوساطنا ، دون ميزان عادل , يجعل الحق هو السائد في تقييم الرجال والمسائل ، لا التعصب الأعمى والانتماء الضيق المائل . فعند أدنى خلاف لهم في الرأي والقرار مع غيرهم , يستشيطون غضبا , وينظمون فيه موشحات ومعلقات , من نعوت الخيانة والعمالة , وقبيح الألفاظ ودناءة الأوصاف . وفي الذم بعد المديح ... محمد علي خان الجنوب وباع القضية , وسريعا يلحقون به النوبة ، فباعوم ، فالعطاس ، فالبجيري ، فبن لزرق ، فصالح فريد ، ف ... ويستمر الموال .
4 ـ ليس الوطني الحقيقي هو من يرفع وطنه فوق الأوطان الأخرى ، وإنما هو من يعمل حتى يكون وطنه أهلاً لهذا التمجيد ، كما أنه يحرص على كرامة وطنه أكثر من حرصه على تمجيده .
ـ قلت : فليرحمك الله يا علي بيجوفتش . اليوم كرامة الشعب ومجد الوطن ، هو آخر ما يحرص عليه الوطنيون الجدد . لقد جعلوا أوطاننا منحنية منكسرة ، ليرتقي على ظهرها أجناس ليس لهم في السمو مكان ، ولترتفع على أكتافها دول ليس لها في العلو عنوان . اليوم - عندنا - فرط أدعياء الوطنية في مجد تاريخنا العتيد ، وتخلوا عن كرامة اسم وطننا المجيد . قلنا " نحن يمانيون عزة وكرامة ومجدا وفخرا " ، فقالوا " ليس لنا من صلة ولا وصل بكل ما لليمن من تفضيل وفضل " . العين تدمع والقلب ينزف ! من هكذا ضلال وهكذا تضليل .
5 ـ على سطح التيتانيك وهى تغرق ، كان هناك رجلان يتقامران ، وكان أحدهما يغشُّ الآخر . في الحياة ، كثيرون يشبهون هذين الرجلين .
ـ قلت : هذان يتقامران فيما يخصهم من حرية وفكر ، ويتراهنان بما يتعلق بهم من أملاك وأموال ، ويغش الغشاش منهم مواربة وخفية وتخوفا . واليوم يقامرون مضحين بشعب وأمة ، ويراهنون مفرطين بوطن وسيادة . والغش منهم جهارا عيانا دون خوف من حساب وعقاب ، ودون وازع من ولاء وأخلاق . والعجيب أن الوطن يغرق ، والإنسان يهلك ، وهناك إمعات يتابعون المقامرة بتلذذ وإسفاف ، ورويبضات يؤججون مجرياتها بحماس أممي مزيف ، وهتاف وطني كاذب .
6 ـ عرَّف إريك فروم ( الخلل المُقَنَّن اجتماعياً ) بأنه حالة يُصبح فيها أي انحراف ، أو عمل همجي .. أمراً طبيعياً عادياً . بل ويراه قومٌ جذاباً ومرغوباً فيه ويستحق الإشادة به ، وبقية باقية لا يفكرون حتى في إنكاره ، ناهيك عن التصدي له .
ـ قلت : وذلك راسخ في مجتمعنا اليوم . أما ترى وتسمع ما يحدث يوميا من نهب وسلب ، وقتل واغتيال ، وخطف واعتقال ، وظلم وقهر ، وفساد مسؤول وطغيان حاكم ، دون حساب ولا عقاب ، ثم ينقسم الناس حوله بين ثرثرة التوابع ، التي تخدم مصالح المفسدين وأطماعهم ، وتبرر لهم كل صنعة وطبخة ، وبين صمت البقية وجهد القلة ، والذي لا يدفع مكراً ولا يصد غدراً .
7 ـ وضع الشيوعيون مبدأ التبرير الثوري ( الانتهازية ) في مواجهة حكم القانون والشرعية ، وهو المبدأ الذي تحول إلى مُبرر للفوضى اللانهائية والاستبداد ، لأن ما هو مُبَرر ثورياً في مرحلة ما يكون مقبولاً لدى الزعماء الموجودين في السُلطة . وعند نقطة بعينها يبررون تدمير القضاء وتدبير مُحاكمات هزلية وفرض رقابة على النُخب والثقافة واحتلال الشعوب وإجبار الملايين على النزوح الجماعي .
ـ قلت : هذا هو ما عانيناه في الجنوب منذ 69 م حتى اليوم ، فبهذا المبرر الثوري تم السحل والقتل ، والخطف والتغييب ، والنهب والسطو ، والتأميم وتدمير الوطن ، وتكميم الأفواه وتقييد الحرية ، وترهيب النُخب وإذلال الشعب ، وضيق العيش والفرار لدول الجوار . حتى إذا ما استقر للقادة الأمر كان هذا التبرير الثوري هو السائد فيما بينهم البين ، فبدأت التصفيات الداخلية ، التخوين والقتل والسجن والنفي .. وتستمر حكاية التبرير ، النظرية ، الأيدلوجية ، القومية ، الهوية ... بلا نهاية ولا سوية .
8 ـ عام 1939م وجدت أوروبا نفسها أمام خيارين ، أحلاهما علقم : أن تختار شرا فيه أمل ، ممثلا في ستالين . أو شرا لا أمل فيه ، ممثلا في النازية . وهي في الواقع تدرك أنهما كانا شراً ميئوسا منه .
ـ قلت : ونحن نودع 2019م ، تجمدنا أمام هذا المفترق الوعر . ولتثبت وطنيتك ! يجب أن تختار وتنحاز ! ، رغم ثقتك الكاملة ، أنه لا خير في سالم ولا في مُسَلَّم ، ولا أمل في سلمى ولا في سَلُومة . ويا رب يكون 2020 عام الفرج والخير , يودع فيه الوطن قهره , ويفارق فيه المواطن همومه .