|
لم تكن التساؤلات القائمة قبل انطلاق مونديال قطر الذي انتهى منذ أيام، تدور حول ما يمكن أن يفعله الفريق القطري في هذه النسخة الجديدة، بل كان الجميع يتساءلون: هل ستنجح قطر في استضافة المونديال؟
عقبات عدة واجهت دولة قطر منذ أن أسفرت القرعة عن استضافتها مونديال 2022، كان أبرزها ذلك الشحن السياسي عربيا ودوليا، حين اصطكت الرياضة بالسياسة والأيديولوجيا، ووضح منذ البداية استهداف قطر بإثارة ملفات حقوقية، والطنطنة حول المال القطري وعلاقته بالبطولات الرياضية، لتحسين صورة قطر أمام المجتمع الدولي، في ما يعرف بالغسيل بالرياضي.
فازت قطر في المونديال حين تعاملت ضمن المبدأ نفسه الذي تنتهجه دول الغرب مع الوافدين: عليكم احترام ثقافتنا وقيمنا وتقاليدنا وأثيرت زوبعات عربية حول مدى إمكانية قطر في الحفاظ على شخصيتها وهويتها وثقافتها، في ظل هذا الطوفان الجارف من الثقافات المختلفة التي مثلتها الجماهير من مختلف أنحاء العالم لحضور المونديال.
لكن في النهاية، وبشهادة القاصي والداني، فازت قطر بالمونديال. فازت قطر بالمونديال، حيث نجحت باقتدار في الإعداد والتجهيز للبطولة إداريا وأمنيا، في ما يتعلق ببناء الملاعب الحديثة بتقنيات عالية الجودة، وتنظيم واستيعاب مئات الآلاف من الجماهير، في إقامتهم وتنقلاتهم، وافتتاحية وختام البطولة، ولم تظهر أي ثغرات تذكر في التنظيم، حتى اعتبرت البطولة من أفضل نسخ المونديال، وهي بذلك تبث رسالة للعالم بأن الدول العربية ليست مجرد أرقام في عالم الرياضة. فازت قطر بالمونديال، حين استطاعت الحفاظ على شخصيتها العربية الإسلامية وهويتها الثقافية، استوعبت الجميع، دون أن تسمح بطغيان القيم الوافدة التي أراد البعض فرضها على الأراضي القطرية، تحت مظلة الحريات، وتعاملت ضمن المبدأ نفسه الذي تنتهجه دول الغرب مع الوافدين: عليكم احترام ثقافتنا وقيمنا وتقاليدنا. فازت قطر بالمونديال، حين صنعت نوعا من الوحدة بين الشعوب العربية، فلم يُرَ للوجدان العربي تآلفا وتعاضدا منذ أمد بعيد إلا من خلال هذه البطولة التي نظمتها قطر، حتى أن صحيفة «فرانكفورتر ألغمانيه» الألمانية، كتبت تقول: «لقد وحدت البطولة في قطر بالدرجة الأولى الناس في المنطقة. العرب المشاركون والمشجعون لم يكونوا موحدين في حماسهم لكرة القدم فقط، وإنما في رفضهم للانتقادات الغربية للدولة المضيفة أيضا».
فازت قطر بالمونديال حين ظهرت كميدان رحب يعكس عمق القضية الفلسطينية ومركزيتها ومكانتها في الوجدان العربي، وكانت فعاليات الجماهير التي تنقلها وسائل الإعلام في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، علامة بارزة وحدثا أساسا مستمرا في الملاعب القطرية. فازت قطر بالمونديال حين حرصت على إظهار روح الإسلام وتعاليمه من خلال الفعاليات الدعوية للتعريف بدين الإسلام، التي مثلتها الجداريات المنتشرة، إضافة إلى أن المقيمين في قطر تحدثوا وصوّروا جولات تعريفية بالإسلام لأعداد من المشجعين من دول الغرب في المساجد القطرية.
جهود كبيرة قام بها أهل الدعوة والإرشاد والتوجيه بجهودهم الذاتية دون أن تعارضهم الأجهزة الأمنية، أو تعرقل حركتهم وأنشطتهم، فلئن قامت بهذه الفعاليات مراكز خيرية تطوعية استثمرت الحدث وقامت بدعوة الجماهير الوافدة وتعريفها بالإسلام، إلا أنه يحسب للدولة أنها لم تكبل حركتهم، وسمحت لهم بالقيام بهذه الأنشطة.
فازت قطر بالمونديال، حيث تركت بصمة لا تنسى في ذاكرة الشعوب، وأدت ذلك ببراعة واقتدار، وأسوق هنا مثالا ظاهرا كان حديث العالم، وهو ارتداء اللاعب الأرجنتيني ليونيل ميسي عباءة أمير قطر، خلال تتويج منتخب الأرجنتين بحمل اللقب والفوز بكأس العالم، وأضحت صورة اللاعب الأسطورة وهو يرفع الكأس بين زملائه مرتديا العباءة القطرية، حديث صحف العالم. قطعا لم يمر الحدث مرور الكرام على وسائل الإعلام والنخب الغربية، التي ثارت لهذه اللقطة، ووصفتها بأنها سرقة للحظة تاريخية للاعب الأرجنتيني، وأنها انتهازية من قطر أن أقحمت نفسها وثقافتها في تلك اللقطة. مشهد العباءة التي تعرف بالبشت القطري، أظهر الضغائن الغربية، ونظرة التعالي والفوقية التي ينظرون بها إلى العرب. لقد كانت لمسة في منتهى الذكاء، استطاعت بها قطر من خلال عباءة واحدة، أن تحفر ثقافتها في ذاكرة شعوب العالم بهذا المشهد الفريد، ولك أن تتخيل حجم الإقبال على شراء هذا اللباس العربي من الجمهور الأرجنتيني وسائر الجماهير من مختلف الجنسيات عقب ظهور ميسي بالبشت القطري، حتى أن سعره تضاعف في الأسواق، وحرصت الجماهير على التعرف على صناعته وطريقة ارتدائه. هذا المشهد كان له تداعيات زادت من شهرته، فعضو مجلس الشورى السابق العماني أحمد البرواني، كتب عبر حسابه على «تويتر»: «صديقي ميسي من سلطنة عمان أبارك لكم فوزكم بكأس العالم قطر 2022..
أبهرني الأمير وهو يُلبسك البشت العربي، رمز الشهامة والحكمة». وأضاف البرواني: «ميسي أعرض عليك مليون دولار أمريكي نظير أن تعطيني ذلك البشت».
دعك من كل هذا، وتخيل معي، هذه الصورة الخالدة للاعب الأسطوري التي التقطت له بالعباءة القطرية، عندما تظل ماثلة أمام الأجيال، والتي سوف تظل تتساءل عن ذلك الشيء الذي يرتديه ميسي في الصورة، حتما ولا شك ستروى قصة قطر واستضافة المونديال، إنها حقا لمسة عبقرية.
فازت قطر بالمونديال، لأنه وبعد هذا الحدث الضخم الذي نجحت في إدارته ببراعة واقتدار، سوف تلفت أنظار شعوب العالم إلى ميادين أخرى غير الرياضة تخوض قطر غمارها، سوف يدفعها إلى التعرف على السياسات الخارجية لقطر ودورها بقيام الوسيط في فض النزاعات، وعن انفتاحها على دول العالم ضمن سياسة الباب المفتوح، ومواقفها الوسطية في الملفات الإقليمية والدولية، وإلى شؤونها الداخلية كجودة التعليم والنشاط الاقتصادي، لكل هذا نقول إن قطر فازت بالمونديال رغم الخروج المبكر لمنتخبها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
في الإثنين 26 ديسمبر-كانون الأول 2022 04:56:29 م