لا بد من صنعاء
بقلم/ مشاري الذايدي
نشر منذ: 14 سنة و 10 أشهر
الثلاثاء 05 يناير-كانون الثاني 2010 05:03 م

ليس من الغريب أن يدعو رئيس الوزراء البريطاني إلى اجتماع دولي في لندن لدعم اليمن من أجل تقوية الدولة ضد الجماعات المتمردة، بل الغريب هو أن تتأخر الدعوة كل هذا الوقت.

ظل اليمن، رغم كل ما يمثله من قيمة كبرى لإقليم الجزيرة العربية والقرن الأفريقي والممرات المائية الحيوية، ظل مهملا، أو يحظى بالقليل القليل من الاهتمام، باستثناء الجارة السعودية التي كانت وما زالت صاحبة التأثير الأكبر في اليمن، بسبب تعقد وعمق وتنوع العلاقات باليمن.

اليمن صار مهما للعالم الآن بسبب عودة نشاط «القاعدة»، وتحديدا بعدما اتضح أن أحد شيوخ التجنيد الإرهابي، وهو العولقي، موجود في اليمن، وهو الشخص الذي جند العسكري الأميركي العربي الذي حصد رفاقه في قاعدة عسكرية أميركية، والآخر الطالب النيجيري الذي حول «سراويله» إلى قنبلة مفخخة، جُهزت باليمن كما جهزت من قبل القنبلة البشرية التي حشي بها شاب سعودي حاول قتل الأمير محمد بن نايف، مايسترو الحرب الأمنية على الإرهاب في السعودية قبل بضعة أشهر.

كان من المفروض أن لا نصل إلى هذه المرحلة، لأن ملامح الخطر ودخان الحرائق في اليمن كان باديا للعيان منذ سنوات، ليس اليوم أو أمس، ولكن لم تؤخذ هذه الإشارات على محمل الجد، ولا يدري المرء: أليست كلفة الوقاية من الخطر أرخص وأسهل من كلفة معالجة الخطر نفسه حال اشتعاله وتطاير شظاياه في كل مكان وفي كل اتجاه؟

اليمن، بطبيعة الحال، رحب بدعوة براون، ومؤتمر لندن الذي سيعقد آخر هذا الشهر، وأميركا ستلقي بثقلها في المؤتمر، والسعودية عبر وزير خارجيتها تؤيد ذلك بقوة، بل إن الأمير سعود الفيصل قال بوضوح وصراحة في مؤتمره الأخير مع وزير الخارجية التركي: «المملكة كانت من أشد الداعين لأن يكون لمجلس التعاون موقف صلب وحاسم في موضوع تطوير اليمن، ورفع مستوى المعيشة فيه إلى أن يصل إلى المستويات الموجودة في دول الجزيرة العربية، وهناك برنامج ضخم تقوم به المملكة في هذا الإطار، وهذا من الأسباب التي تجعلنا نتألم ونعتصر ألما عندما نرى القتال في اليمن والخروج على التعايش السلمي».

النقطة الأهم التي تحدث عنها الفيصل هي حول رفع مستوى المعيشة في اليمن إلى المستويات الموجودة في دول الجزيرة العربية، يعني دول الخليج بلغة أوضح، لأنه لا توجد دولة من دول الجزيرة العربية خارج منظومة التعاون الخليجي، والعراق لو قلنا إنه من دول الجزيرة، فله وضع خاص، ثم إن العراق، لولا الحروب الداخلية، ليس دولة فقيرة أو معدمة، بل ربما كان شقاؤه، بوجه ما، بسبب ثروته وكنوزه، وما قضية كركوك إلا مجرد مثال في هذا السياق.. لكن لندع هذا الحديث.

سكان اليمن، بعد اتحاده الدامي، نحو 22 مليونا، كثير منهم شبان، واليمن متنوع الثقافة والتضاريس من الجبال الوعرة إلى السهول الممتدة إلى المروج الخضراء إلى الصحاري التي تخرج أعناقها من الربع الخالي، من البحر إلى الجبل، لليمن وجه على أفريقيا ووجه على آسيا والهند، ووجه عربي قديم ومؤسس في الوجدان العربي منذ أسطورة انهيار سد مأرب.

تخيلوا لو أن اليمن يتمتع بوضع تنموي متصاعد، وتنافسية بين شبانه على الفرص والعلم والتعليم واكتساب المهارات، كيف سيكون تأثير ميناء عدن الشهير؟ وكيف ستنهض ثورة اقتصاد زراعي في جبال وسهول تعز وإب؟ وكيف ستتحول تهامة اليمن إلى سلة للتجارة البحرية والزراعية؟ كيف ستصبح صنعاء مركزا للعلم والثقافة والسياسة، وعدن مركزا للخدمات المالية ومحطة ومعبرا للتجارة العالمية؟ وتخيلوا فقط مورد السياحة في اليمن كيف سيكون رافدا كبيرا من روافد التنمية والثقافة والانفتاح في اليمن؟

البعض في دول الخليج كان يتحفظ على انضمام اليمن إلى منظومة التعاون الخليجي، بسبب تباين القدرات والأوضاع الاقتصادية وحتى السياسية، باعتبار أن اليمن هو الدولة الوحيدة في الجزيرة العربية التي لا تسير على نظام سياسي ملكي أو مشيخي، لكن النقطة الأخيرة غير ذات بال في هذا المجال، بعد أن اتضح أن فكرة الجمهورية العربية ليست إلا كلمة مجازية لا تراد بها حقيقتها!

دول خليجية أخرى، كان من رأيها الإسراع بانضمام اليمن إلى الأسرة الخليجية أو على الأقل مساعدة اليمن في التهيؤ لهذا الانضمام، من خلال ضخ المساعدات والخبرات الكافلة بنهوض اليمن وقيامه على قدميه، كما تحدث سعود الفيصل.

يعيش اليمن حاليا 3 تهديدات كبرى؛ الانفصال الجنوبي، والتمرد الحوثي، والإرهاب القاعدي، المجتمع الدولي لم يتفاعل إلا مع الخطر القاعدي، بينما كانت السعودية الأكثر تضررا من خطري الحوثيين و«القاعدة»، أما الانفصال أو الحراك الجنوبي، فكانت مواقف العالم ودول الإقليم لا تتجاوز الحث على الحوار والبقاء في إطار الوحدة، رغم أن هذه الأخطار مرتبطة ببعضها.

سبق أن تحدث كثيرون، ومنهم كاتب هذه السطور، عن إمكانية التجسير وردم الفجوات بين ثورة «القاعدة» وحراك الجنوبيين (العرب السنة) الذين يقودهم ميدانيا الآن، القاعدي السابق طارق الفضلي، وهو أيضا كان قائدا من قيادات حزب المؤتمر الحاكم، وتمت الاستعانة به وبغيره من رفاق السلفية الجهادية وأسامة بن لادن في حرب الوحدة ضد الاشتراكيين 1994، ثم عاد الرئيس صالح وتجرع سم رفاق الحرب، بعد أن حولوا بندقية الجهاد من عدن إلى صنعاء، في درس دائم التكرار، للأسف، عن خطأ وخطيئة السياسي، ليس العربي فقط، الذي يحسب أنه يمكن له أن يستخدم الأصوليين بشكل مؤقت في حرب خصومه.

الحقيقة أنه لا يمكن فصل الأزمات عن بعضها في اليمن، كما أنه كان من الخطأ فصل أزمة الحوثيين عن «القاعدة» عن الحراك الجنوبي، باعتبارها كلها مؤشرات على وجود أزمة تعاقد سياسي - اجتماعي على الدولة في اليمن، وأيضا على وجود أزمة تنمية وشعور بالتمييز والمظلمة المناطقية أو المذهبية، كما هي محركات الحوثية والجنوبية، فالخشية أيضا في أن يتحول مؤتمر لندن إلى مجرد إعانة أمنية واستخباراتية، أو إعانات اقتصادية على شكل جرعات عاجلة للإنعاش وتقوية جانب حكومة صنعاء، من دون أن يمتد ذلك إلى «مشروع مارشال» اقتصادي سياسي ثقافي لليمن، بشرط توفر ظروف النجاح لهذا المشروع، من خلال استعداد الحكومة اليمنية للمرونة، والتخلي عن بعض المكاسب من أجل اليمن ككل، وبالتالي سحب مقومات البقاء والتأثير لدى الجماعات الحوثية والجنوبية، لتبقى في نهاية الأمر بمفردها لا تجد جمهورا تخاطبه، لأن الجمهور قد انخرط في عملية التنمية والبحث عن المستقبل والفرص الحياتية.

مساعدة اليمن تكون عبر مَنح الأمل لسكانه بالحياة، وعدم تحويل اليمن إلى مقبرة للأحلام، ومفرخة للجثث المتحركة كما في أفلام الرعب الشهيرة، صحيح أن هذه مسؤولية اليمن نفسه، ولكن في هذا العالم المتشابك والمعولم لا تستطيع أن تغمض عينيك عن الحريق في بيت جارك.. حتى لو كان جارك البعيد، الأمن أصبح عملية دولية مشتركة، بالذات مع تنظيم القاعدة المعولم بطبيعته، وما عملية الطالب النيجيري إلا نموذج لهذه العولمة القاعدية.

في النهاية، حتى لو تحققت دعوة لندن من أجل إعانة اليمن، فيجب ألا تقتصر المسألة على الأمن والبرامج الاقتصادية، فنحن نعلم أنه سبق لليمن أن تلقى مساعدات من الـ«سي آي إيه»، وسبق أن عملت طائرات الـ«سي آي إيه» في قنص قادة «القاعدة » بوديان اليمن، وسبق أن ساعدت دول خليجية ودول أخرى من العالم اليمن في بعض المشاريع التنموية، فالمطلوب شيء خلف هذا كله، وهو برنامج استراتيجي ينقل اليمن من حال إلى حال، ومن أهم بنود هذا البرنامج إحداث ثورة تعليمية وثقافية في اليمن، وربما يكون هذا البند أصعب البنود، فما فائدة الجهد الأمني والمال، إذا كان سيفيد بشكل مؤقت، والعقول لا تتغير تجاه نفسها وتجاه الآخرين، نقول ذلك عن اليمن وغير اليمن في العالم الإسلامي.

مهما بعدت المسافات وصعبت الرحلة، فإنه: لا بد من صنعاء وإن طال السفر..

*نقلاً عن "الشرق الاوسط